حسين فضل الله: لا انفصال بين الدين والسياسة
لم أرَ منى سكرية، على معرفتي الوثيقة بها، وهي ترتدي غطاء الرأس. أما في هذا الكتاب فتظهر صورتها وقد انحسر غطاء رأسها الى منتصف هامتها. والمناسبة هي هذا الحوار المستفيض مع السيد محمد حسين فضل الله صاحب الفتاوى الجريئة والمثيرة مثل تحريم جرائم الشرف، وتحليل ارتداء الشعر المستعار (الباروكة) كبديل موقت من ارتداء غطاء الرأس.
يثير السيد فضل الله في هذا الحوار جملة من القضايا السجالية مثل حجاب المرأة والدولة الاسلامية ومفهوم الذمة والحوار الاسلامي ـ المسيحي وغيرها. ومنذ البداية تتساءل منى سكرية: هل الاسلام دين حوار؟ والجواب سيكون، بالطبع، ان الاسلام دين حوار استناداً الى الآية: (يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم» (ص 37). وحينما تستطرد منى سكرية بالقول ان الحوار يتنافى مع سلوك غالبية المسلمين، يرد السيد فضل الله بأن المسلمين ابتعدوا عن الجوانب المنهجية الاخلاقية، مثل: «لا إكراه في الدين» او «أَفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» (ص 40). والواقع ان المشكلة اليوم بين الديانات المتناحرة لا تكمن في النص المقدس، اي انها ليست في الانجيل او القرآن، بل في الفكر الديني باعتباره كلام فقهاء. المشكلة تكمن في كيف يقرأ المسلمون او المسيحيون دينهم. وتكاد تختفي بين المسلمين اليوم فكرة الحوار وفكرة الحرية ايضا، بينما المعروض هو التكفير والجهاد والموت والحلال والحرام والجنة والنار. وفي الحالات القليلة التي سعى فيها البعض الى الحوار ظل هذا السعي مقصوراً على بعض النخب السياسية الاسلامية والمسيحية، ولم يؤد الى اي نتيجة. وعلامَ يتحاور المسلمون والمسيحيون في لبنان مثلا؟ أَعلى العقائد؟ بالطبع لا. أعلى العيش المشترك؟ هذا من مهمات الدولة الحديثة وليس من شأن رجال الدين. إن السيد فضل الله نفسه عجز عن محاورة خصومه من الشيعة الذين حاربوه وهاجموا كتبه، حتى ان احدهم، وهو في موقع ديني كبير جداً، حرم اعانة جمعية المبرات الخيرية والتعامل مع مؤسساتها النفعية كمحطة الايتام للوقود بذريعة ان دعم هذه المؤسسات انما هو دعم للضلال (ص 70).
صحيح ان الاسلام قال: «يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم»، لكن الكثير من المسلمين قالوا: يا أهل الكتاب عليكم ألا ترفعوا صوت ناقوس على صوت أذان، وألا يرتفع بيت نصراني على بيت مسلم، وعلى الذمي ان يبادر الى تحية المسلم اولا، وان يفسح له في الطريق اذا التقيا، وان ينزل عن دابته اذا التقى مسلماً ماشياً... الخ.
هذا ما كان في الماضي البعيد. أما في الماضي القريب فقد كان الشيخ علي الطنطاوي يقول انه يقدّر السياسي المسيحي فارس الخوري ونزاهة القاضي الدرزي عارف النكدي لكنه لا يصافحهما.
لفتني في هذا الحوار قول السيد فضل الله ان «الذمة لو فهمت فهماً دقيقاً فهي من أكثر القوانين حضارة بالنسبة الى الاقليات، لأن الاقليات الدينية لا يفرض عليها ما يفرض على المسلمين من ضرائب، ولا يفرض عليهم ان يحاربوا الاشخاص الذين يلتقون معهم في الدين عندما تحدث هناك حرب بين المسلمين وغيرهم» (ص 83).
فهمت من هذه الفقرة ان ثمة تمييزاً في الواجبات وفي الخدمة الوطنية بين المسلمين وأهل الذمة. ربما كان ذلك مفهوماً في الدولة الاسلامية القديمة والمندثرة. لكن، في الدول الحديثة لا يمكن اقامة مثل هذا التمييز على الاطلاق، لأن الدول المعاصرة تقوم أولا على مبدأ الحرية والمساواة والتعددية، ثم على المواطنة وليس على الانتماء الديني. وفي هذا السياق هل كان على صدام حسين، إذاً، أن يستبعد الشيعة من الجيش العراقي إبان الحرب ضد ايران؟ ثم ان السيد فضل الله في «المسائل الفقهية» (الجزء الاول، ص 162) يقول ان الجهاد ساقط عن أهل الكتاب. ولعل هذا القول لا يقيم للحوار الاسلامي ـ المسيحي سبيلاً مستقيماً، لأن المسيحيين في فلسطين مثلا هم من اوائل المجاهدين، وقائمة شهداء الثورة الفلسطينية، وقوائم الاسرى والمناضلين ايضا، تفصح عن الشأن الكبير للمسيحيين الفلسطينيين في مجاهدة الصهيونية واسرائيل. ومهما يكن الامر فقد قصدت بهذه الملاحظة الى القول ان اكثر ما اخشاه ان يصبح موقف مصطفى مشهور، المرشد العام السابق للاخوان المسلمين حجة في هذه المسألة. ففي مقابلة مع «الأهرام الاسبوعي» (3/4/1997) يقول إن على الاقباط دفع الجزية لقاء دفاع المسلمين عنهم. ويجب ان يخرجوا من الجيش المصري لانهم عناصر لا يؤمن لها، ويمكن ان يمالئوا وان يسهلوا للعدو هزيمتنا».
ينتقد السيد فضل الله الفرنسيين ويسائلهم: «لماذا تمنعون الفتاة المحجبة من ان تمارس حجابها الذي لم يسئ الى احد (...) أليس في ذلك خنق للحرية؟» (ص 64). إذاً، ان مفتاح اعتراض السيد فضل الله على منع الفتاة المسلمة من ارتداء غطاء الرأس في المدارس الحكومية الفرنسية هو الحرية. فإذا كانت هذه القراءة صحيحة، فإن الحرية لا تتجزأ. ومثلما ان للفتاة الحرية في ارتداء غطاء الرأس، فإن لها الحرية ايضا في خلعه. لكن السيد فضل الله في «المسائل الفقهية (الجزء الاول، ص 163) يقول: يجوز ان يجبر الزوج زوجته والأخ أخته على لبس الحجاب إذا لم تثمر محاولات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا مخالف لفكرة الحرية.
يعتقد السيد فضل الله ان «ليس هناك اية حالة انفصال ما بين الدين والسياسة، لان الدين جاء لإقامة العدل، ولا عدل بدون سياسة» (ص 177). ومع ان السيد فضل الله لا يدعو الى قيام دولة إسلامية، غير انه لا يعترض عليها كفكرة. وهو، في سياق الحديث عن التعددية السياسية يقول انه يقبل هذه التعددية في نطاق الدولة الاسلامية في الاتجاهات المرتكزة على قاعدة الاسلام، ويرفض التعددية في الاتجاهات الخارجة عن الاسلام («المسائل الفقهية»، الجزء الثاني، ص 460). وفي اي حال، هل الدولة الدينية اليوم افضل من الدولة المدنية؟ ان التجربة العيانية تبرهن العكس، فها هي الدولة الاسلامية في ايران او في السعودية او في السودان سابقا او في افغانستان الى عهد قريب تقدم دليلاً على ان اكثر ما يرغب فيه مواطنو بعض هذه الدول هو مغادرتها. ثم ان الدولة الدينية ستحكم بموجب الشريعة، وهذا امر بدهي. فهل يمكن اليوم قيام مجتمع على رجم الزاني والزانية وقطع يد السارق وقتل المرتد وحرية التسري وملك اليمين؟
الدولة الحديثة الممكنة في هذا العصر هي الدولة الديموقراطية العلمانية. ومن عجائب الامور انه لا يوجد بلد اسلامي واحد يستطيع فيه المسيحي او الهندوسي او البوذي أن يبرز الصليب او رموز ديانته ويمر عليه الامر بلا شتائم. بينما لا يوجد بلد علماني واحد يمنع فيه بناء المساجد، ولا يوجد قس في اي كنيسة، إلا في حالات نادرة جداً، يقف ليلعن كل من يخالف دينه، او يدعو عليه كما يفعل الكثير من خطباء الجمعة عندنا. وفي الدولة العلمانية، الغربية بالتحديد، يمارس المسلمون حريتهم الدينية افضل مما يستطيع بعض المسلمين ان يفعلوه في بلدانهم الاصلية الاسلامية. فالشيعة والاسماعيلون في السعودية كانوا الى فترة قريبة لا يستطيعون الجهر بمعتقداتهم. والسّنة والبهائيون في ايران على هذا الغرار. وهل يستطيع الاحمديون مثلا ان يمارسوا ايمانهم في مصر او الكويت مثلا؟
- لا شك في ان السيد فضل الله مرجع مختلف ومتميز ومستنير. وقد ساهم بتفكيره النقدي في تشقيق الوعي الراكد والمتوارث لدى بعض فئات المسلمين المستسلمين للكلام المعاد والمكرور منذ مئات السنين. وفي هذا الحوار الممتع الذي يستثير شهوة المساجلة لا يكف السيد فضل الله عن عرض آرائه التي حبذا لو شاعت بين الناس واخذوا بها، ومنها انه يبيح رسم الأنبياء لعدم وجود نص شرعي يحرِّم ذلك بشكل مباشر (ص 159). ولو أُخذ بهذا الرأي لجنبنا ذلك معارك هاذية في كل مرة يحاول فيه مخرج سينمائي ان يصنع فيلماً جيداً عن الاسلام. والسيد فضل الله يقف الموقف النقيض لتلك «الزعبرة» الكلامية التي تقول ان الزلازل والبراكين والفيضانات والعواصف والمد البحري هي غضب إلهي وعذاب للناس على المعاصي التي ارتكبوها. وهو يرى فيها «أموراً طبيعية تنطلق من القوانين الطبيعية الموجودة في الكون» (ص 105). وفي «المسائل الفقهية» (الجزء الاول، ص 202) ينكر السيد فضل الله إمكان تسخير الجن وتحضير الأرواح وتلبس الجان بجسد الإنسان، وهي خرافات يعتاش عليها اعداد غير محددة من الدجالين. والسيد فضل الله لا يميل الى الكثير من الروايات التي تتحدث، بطريقة منافية للعقل، عن ظهور المهدي وعن الدجال والسفياني، ويعتبرها عناوين غامضة لا مصداق لها («المسائل الفقهية»، الجزء الثاني، ص 452)، وهي روايات عادت لتنتشر، كانتشار النار في القصب، في بيئة مريضة راحت تعم العالم العربي بأسره، وتـــورثه الســقم والعياء والتكفير والإرهاب والخرافة وتكاثر الدجالين والممخرقين.
([) الكتاب «محمد حسين فضل الله ـ عن سنوات ومواقف وشخـصيات»، حـوار: منى سكرية، دار النهار، بيروت، .2007
صقر أبو فضل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد