أحـلام أنطونيـو تابوكـي
يبدأ أنطونيو تابوكي كتابه «أحلامُ أحلام» الصادر أخيراً في «دار الجمل» بترجمة رشيد وحتي إلى العربية، بهذه الأغنية الصينية القديمة: «تحت شجرة لوز زوجتكَ، عندما يبزغ هلال أغسطس من خلف المنزل، باستطاعتكَ، إذا ابتسمت الآلهة، أن تحلم أحلامَ شخص آخر». أعتقد أن هذا المقطع الذي اختاره الكاتب مدخلاً لكتابه الذي جاء في عنوانه الفرعي «محكيات حلمية متخيلة» وضمَّ عشرين حلماً افترضها لعشرين شخصية إبداعية من العالم، يصلح أيضاً مدخلاً لقراءة هذا الكتاب. إن تابوكي يحلم هنا عن الآخرين، كاشفاً بذلك عن شخصيته الغيرية (من الغير) وذلك بجعل العمل الأدبي خيال الآخر لا خيال الذات. الأحلام جميعها مستمدة من حياة هذه الشخصيات العشرين. استطراداً، تتوافق خيالات تابوكي مع الشائع عن شخصياته، وهذا مع جعل أحلامه شكلاً من أشكال التنميط رغم جدة الفكرة وحداثة الكتابة. على سبيل المثال، يعيد المؤلف في الكتاب صورة رامبو العابر في العالم، لوركا الذي قتل على أيدي رجال الديكتاتور فرانشيسكو (لوركا نفسه تنباً بهذا الموت في إحدى قصائده)، الرسام غويا المهووس بالنساء ومصوّر رعب الحروب وقسوتها، كوليردج الذي يغدو بحّاراً يصارع الموت والجوع والعطش في بحار بلا نهاية (الشاعر نفسه رسم هذه المشاهد في قصيدته الملحمية الشهيرة «أغنية البحّار القديم»)، ستفنسن كرحّالة وككاتب هذه الرحلات، تشيخوف كطبيب يكره الطب (لم يزاول الكاتب الروسي الكبير هذه المهنة إلا قليلاً)، بيسوا في أقنعته الكثيرة أو في علاقته بالأسماء المستعارة الكثيرة التي كتب بها أشعاره وغير ذلك من بقية الشخصيات. ليس المهم هذه الصورة النمطية في أحلام تابوكي. المهم أنه استطاع أن ينقل نفسه من الأنا إلى الآخر. أن يضع مخيلته كلياً في مكان يبدو غريباً وفيه ما فيه من إنكار للذات. صحيح أن الكتابة تقوم في جزء منها على الآخر، على المراقبة، لكننا هنا أمام نص يذهب كلياً إلى إنكار الذات.
عموماً، لا يبدو «أحلامُ أحلام» نافلاً على كتابة تابوكي نفسها. ربما علينا أن نستعيد البدايات لنعرف منطلقات ودوافع الكاتب التي جعلته دائماً هناك، في الضفة الأخرى. كان الشاب دون العشرين من عمره مستقلاً قطاراً حين عثر مصادفة على قصيدة «دكان التبغ» للشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا. بعد قراءة هذا الكتاب قرر تابوكي الذي كان يدرس الحقوق تعلم اللغة البرتغالية ودراسة الأدب. وبالفعل استطاع أن يدرس البرتغالية (إضافة إلى إتقانه لغات عدة) وينقل أعمال بيسوا الشعرية إلى الإيطالية. وربما كان تأثره بشاعر البرتغال الأول الذي كتب بأسماء عدة (ألبرتو كايرو، ألفارو دو كامبوس، ريكاردو ريس، برنارد سوارس وغيرهم) نقل إليه
هذه العدوى، عدوى الاختفاء في الآخر. في كل حال، كتب تابوكي رواية «هذيان» التي تتحدث عن الأيام الثلاثة الأخيرة لبيسوا، وتحديداً عن علاقته بشعرائه المخترعين (نقلها إلى العربية إسكندر حبش كما ترجم ثلاثة كتب شعرية للشاعر). كذلك ينطبق هذا الأمر على روايتيه «بيريرا يدّعي» التي تتحدث عن صحافي برتغالي في عهد الديكتاتور سالازار، و«رأس داما سنتو مونتيرو الضائع» التي تدور أحداثها في البرتغال. في هذه الرواية يسأل المحامي فيرمنو، الصحافي فرناندو عن العلاقة بين الأدب البرتغالي وفلوبير. ولما لم يستطع الصحافي الإجابة قال المحامي: «ظاهرياً لا علاقة ـ تابع المحامي ـ لكن ظاهرياً فقط، لأن كل شيء في الأدب مرتبط بعضه ببعض. انظر، يا عزيزي، إنه مثل نسيج العنكبوت، هل تتصور نسيج العنكبوت؟ حسن، فكر في كل هذه الحبكات المعقدة التي ينسجها العنكبوت، كل هذه الدروب تقود إلى المركز، ولا تبدو كذلك إذا ما نظر إليها من الأطراف، لكنها جميعاً تقود إلى المركز. سأعطيك مثلاً، كيف تستطيع أن تفهم «التربية العاطفية»، هذه الرواية الرهيبة جداً والرجعية جداً، لأنه وبحسب لوكاتش رجعية بشكل رهيب. إذا لم تعرف هذه الروايات الصغيرة السيئة الذوق، لهذه المرحلة السيئة الذوق والرهيبة التي شكلت الإمبراطورية الثانية متبعاً الروابط المناسبة، إذا كنت تجهل اكتئاب فلوبير، هل تدري عندما حبس فلوبير نفسه في بيت في كراوست يتجسس على العالم من وراء نافذته، كان مكتئباً بشكل رهيب. وكل ذلك، حتى ولم تر ذلك، فإنه يشكل نسيج عنكبوت، نظاماً مبنياً على علاقات خفية، وعلاقات كوكبية ومراسلات لا تفهم. إذا أردت أن تفهم، أن تدرس الأدب، تعلم على الأقل، دراسة المراسلات». هذه إحدى الثيمات الأساسية في أدب تابوكي وفي كتابه هذا على وجه التحديد. بالطبع، نستطيع التأكد من هذا الاستنتاج من خلال استشهاد موجز للكاتب نفسه: «إن الأدب هو الوسيلة التي يتحقق بها نوع من السفر إلى روح الآخرين. هذا الانتقال الذي نخرج به من أنفسنا إلى أرواح أخرى هو بمثابة المعجزة الصغيرة المسموح بها في حياتنا».
تأخذنا ملاحظة الكتابة الغيرية إلى تعدد الثقافة والمصادر والمراجع في كتاب «أحلامُ أحلام». الآخر الذي نتحدث عنه هنا (الأحرى الآخر الموجود في هذه المحكيات بحسب تصنيف المترجم لها) ليس واحداً. إنه متعدد ومأخوذ من حضارات ولغات ومناطق مختلفة في العالم. تعدد لا يجمع بينه في كتاب سوى الحلم. نحن أمام شخصيات تتنوع أيضاً في المجالات من شعر ورواية ورسم ولاهوت ونحت وموسيقى وعلم نفس وغيرها، لكنها تجمع على الحلم. المؤمن والكافر، الشاعر والموسيقي، الإنكليزي والروسي، الوطني والأممي، المنتمي والصعلوك، جميعهم يشتركون في هذا المعنى الإنساني المشترك. وجميعم كذلك على اختلافهم يتم التعاطي معهم بالسوية نفسها. تابوكي المثقف الموسوعي على غرار مواطنه إمبرتو إيكو والمتعدد المصادر في أعماله الأدبية مثله، متسامح مع شخصياته. هذا درس آخر في الكتاب يكشف غنى الكاتب المطل ثقافياً على الأدب والتاريخ والفلسفة والعمارة والموسيقى والسياسة والدين. هذه المجالات التي تُعدُّ جزءاً من التكوين الثقافي للكاتب تغدو ملمحاً أساسياً من كتابته عموماً ومن كتابه «أحلامُ أحلام» على وجه الخصوص. بهذا المعنى، تخرج الرواية (أو القصة) من كونها عملاً فنياً فحسب لتصبح حواراً أيضاً لا يقف عند حدود ولا يكتفي باتجاه. وربما كانت هذه الملاحظة تؤدي إلى تصنيف كتابة تابوكي بأدب ما بعد الحداثة ليس من ناحية الأسلوب فقط وإنما من ناحية تعدد الأمكنة إن لم نقل موت المكان. وهذا ما ينسجم مع عصر العولمة إذ تحوّل الإنترنت إلى مكان عالمي افتراضي لكنه موجود. وإذا جاز لنا الخروج بفكرة من فكرة أخرى، يمكننا القول إن محكيات تابوكي في هذا المؤلف تنتمي إلى ما يُسمّى «النص» مخلفة وراءها الفنين التقليديين: الرواية والقصة. ذلك أن شكلاً كتابياً كهذا يضمر علوماً متنوعة وأساليب مختلفة يبدو من الصعب تصنيفها في شكل أو غرض أو مذهب أو اتجاه أو صنف أو نوع مثلما يبدو من العبث تفكيكها. هكذا تتشابه الكتابة عند تابوكي من ناحيتي الطرح والبناء، من حيث الهدف واللغة. كتابة كهذه تقوم على التجاور لا الوحدة، الخلط لا التفرّد، التنوّع لا التجانس، لكنها في النهاية تصنع نظامها من الداخل. أليس المؤلف نفسه مزيجاً ثقافياً لا ذاتاً مغلقة كما يتوهّم البعض صورة الذات؟
ناظم السيد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد