كيف أنقذ محمد علي باشا مصر من الحكم الديني

24-07-2022

كيف أنقذ محمد علي باشا مصر من الحكم الديني

د.سامح عسكر:

لتعلم حجم ما أنجزه محمد علي باشا في تحديث مصر وإنقاذها من الحكم الديني تأمل معي السطور القادمة..

أولا: مصر قبل محمد علي كان يحكمها رجال الدين في الواقع، فهم الذين يختارون الحكام ويباركون أمراء المماليك ، اقرأ عن ثورات "الحسينية الأولى 1786م والحسينية الثانية 1790م" واقرأ عن ثورة بلبيس سنة 1795م فجميعها كانت ثورات دينية يشعلها رجال الأزهر ضد المماليك، ولا تخمد الثورة إلا باعتذار الوالي ووعوده بألا يخرج عن خط الشيوخ ورجال الدين..

ثانيا: جاءت الحملة الفرنسية وعززت نفوذ رجال الدين، فأشعل الشيخ "أبو الأنوار السادات" ثورة القاهرة الأولى، والشيخ "عمر مكرم" ثورة القاهرة الثانية، والسبب في تعزيز نفوذهم أن هذه الحملة كانت أول دخول (مسيحي أوروبي) مصر بعد الحروب الصليبية، فالناس رأوا نابليون (قائد صليبي) وشيوخ الأزهر أقنعوا الناس أن جيش نابليون هو امتداد للحروب الصليبية، فأعلنوا الجهاد الديني واشتهر شيوخ الأزهر حينها برفع (البيرق النبوي الأخضر) في المعارك، وهو نفس البيرق المرفوع في الموالد وعلى رؤوس الأضرحة..

ثالثا: قيادة الأزهر وقتها لم تكن للأعلم والأكثر صدقا وأمانة بل كانت بالوراثة، والتاريخ يسجل أن (الجد والأب والحفيد) كانوا كلهم شيوخ أزهر، فالجد هو الشيخ "أحمد العروسي" وتقلد منصب شيخ الأزهر من عام 1778- 1793 م والإبن "محمد العروسي" شيخ الأزهر من عام 1818- 1829م، والحفيد "مصطفى العروسي" شيخ الأزهر من 1864-1870م، ومحمد علي كان ذكيا أبصر ذلك ورأى أن أفضل وسيلة للتعامل مع الأزهريين هي سياسة (العصا والجزرة) بعدما كان الأزهر هو الحاكم الفعلي لمصر قبل ولاية الباشا الألباني، ولم يفلح من سبقوه في تهديد الأزاهرة بالعصا، لكنه ابتكر سياسة الجزرة معهم لترغيبهم في النفوذ والثروة..

رابعا: الباشا الألباني كان يرى شيوخ الأزهر "بتوع مصلحتهم" والقصة ليست شريعة ولا دياولو، فهم من تعاونوا مع نابليون بونابرت في تأسيس الديوان الوطني سنة 1798م الذي تكون من 10 مشايخ وقتها من ضمنهم "عبدالله الشرقاوي شيخ الأزهر" فتخيل حضرتك أن شيخ الأزهر بنفسه كان متعاونا مع نابليون، صحيح انقلب عليه بعد ذلك لكن التعاون وقصة تأسيس الديوان الوطني الحاكم لمصر من 10 فقهاء (ولاية فقيه يعني) تثبت أن الشيوخ يمكن تدجينهم وترغيبهم بالتوازي مع تهديدهم وقمعهم، وهذا ما فعله معهم محمد علي وتسبب في إزاحة الأزهريين من حكم مصر والشعب حتى الآن..فمصر الحديثة تدين بالفضل لمحمد علي بتغيير حكم الأزهر ورجال الدين منذ القرن 19 م

خامسا: بعد رحيل الفرنسيين عن مصر سنة 1801م كانت قوة الشيوخ في اثنين ، الأول "عبدالله الشرقاوي" شيخ الأزهر والثاني "عمر مكرم" نقيب الأشراف، ولأن الشرقاوي كان متعاونا مع نابليون استعمل معه محمد علي سياسة العصا والجزرة فخضع الشيخ وبدأ في إحياء فتاوى "طاعة الحاكم" والتخلي عن فتاوى "الثورة" خلافا لعمر مكرم الذي ظل ثائرا فكانت النتيجة نفيه بدمياط سنة 1809 م وعزله تماما عن الحركة الشعبية في القاهرة والمحافظات، فكان أول انتصار لمحمد علي ضد خصومه المحليين ولم يعد يتبقى سوى المماليك الذي تخلص منهم بعد ذلك بعامين..

سادسا: اختار محمد علي التوقيت المناسب في القضاء على نفوذ المماليك ورجال الدين الذي كان شائعا قبل صعوده سدة الحكم سنة 1805 واستغل جيدا فرصة انشغال الدولة العثمانية بالصراع على المُلك بين "مصطفى الرابع وسليم الثالث ومحمود الثاني" وانشغالها أيضا بالثورات ضدها في البلقان وحروبها ضد روسيا وإيران، وثورات الانكشارية ضد الباب العالي عامي 1807- 1808م، فالباب كان مفتوحا على مصراعيه أن يفعل ما يشاء دون اعتراض السلطان العثماني، علاوة على ذكائه في كسب ثقة الأتراك وتحييدهم تماما عن مصر بالحملة ضد الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية سنة 1811، ونجاحه في تدمير الدولة السعودية الأولى كان هو قربان الصمت العثماني عن بدء إصلاحات جوهرية في الدولة المصرية وقرار تحديثها وبناء جيشها وتنميتها عن طريق الخبراء والعلماء الأوروبيين..

سابعا: استفاد أيضا محمد علي من فشل "حملة فريزر" البريطانية سنة 1807 م وعقد معاهدة دمنهور في نفس العام، والتي كانت تنص على جلاء الإنجليز بعد هزيمتهم على يد المقاومة الشعبية في رشيد..

ثامنا: أول جريدة مصرية أنشأها محمد علي كانت "الوقائع المصرية" سنة 1828، وهي أول جريدة تُطبع في الشرق الأوسط بالكامل..وحدثت بفضل المطبعة التي جاء بها نابليون بونابرت وكانت قد طبعت بعض الصحف أيام الحملة الفرنسية التي كانت هي مصدر موسوعة "وصف مصر" لاحقا، فنابليون عندما جاء لمصر كانت معه مطبعة أصدر فيها صحيفتين الأولى سياسية والثانية علمية..تصدر كل 10 أيام، هذه الفكرة ألهمت محمد علي بتكرار الفكرة ونجح بعد رحيل الفرنسيين وبتشجيع من علمائهم في البعثات العلمية بطبع صحيفة الوقائع..

ولما توفى محمد علي ظهرت مجلات "اليعسوب ونزهة الأفكار وروضة المدارس..وغيرها" والأخيرة كان يكتب فيها علي مبارك ورفاعة الطهطاوي ومحمود باشا الفلكي والشيخ حسونة النواوي..وغيرهم، لكن الفضل لذلك يعود لمحمد علي صاحب المبادرة، علما بأن فكرة إصدار جريدة تحمل رأيا سياسيا أو فكريا أو دينيا (كان زلزال) في حد ذاته هو الذي فتح الباب لاحقا لإنشاء عشرات الصحف اليومية كالأهرام والجمهورية والأخبار والوطن..وغيرهم، والأخيرة كان يكتب فيها الشيخ "جمال الدين الأفغاني" فكرا مستنيرا..

تاسعا: نجاح مصر في عهد محمد علي وأبناءه في طبع ونشر الصحف عمل (رصيد) معرفي كبير نتيجة لحماس المفكرين في الكتابة، فكل مفكر يريد أن يصبح مشهورا معروفا يكتب في جريدة والأمر لم يعد يتطلب (مسجد) ليخطب فيه، أو كتاب ممكن يحرق مع أول نسخة، الآن صار البعض يكتب والآلاف يقرأون، فكانت فكرة تكوين (دار الكتب المصرية) اللي أعلنها محمد علي باشا سنة 1819 في إنشاء "الكتبخانة" في القلعة، لكن لم يتسنى له إنشاءها لأن جريدة الوقائع لم تصدر بعد، ورصيد مصر من الكتب قليل بحكم سيطرة الأزهر على المساجد وتحريم ومنع الاجتهاد الديني، فكل مفكر يريد الكتابة عليه بشرح كتب السابقين ليس إلا، وهذه كانت سمة القرون الوسطى أن الكتابة الدينية فيها كانت عبارة عن شروح لأمهات الكتب الأولى أو لمجتهدين العصر العباسي..

عاشرا: سنة 1851 نجحت مصر في إنشاء "الكتبخانة" ومعناها "دار الكتب" وأصل كلمة "خانة أو خان" فارسي دخل التركية في العصر العثماني ويعني (دار أو بيت)، فيقال "خان يونس" أي دار يونس، "خان الخليلي" أي دار الخليلي، "خان شيخون" أي دار شيخون، وهكذا، وإنشاء الكتبخانة حدث بجمع كل الكتب المخزونة في المساجد والأضرحة واستمر هذا الجهد 19 عام حتى سنة 1870م حيث تم جمع 20 ألف كتاب ومخطوط تم وضعهم في "الكتبخانة الخديوية المصرية" التي أشرف على إنجازها الخديوي إسماعيل وبجهد واضح من "علي باشا مبارك" والتي تطورت عدة مرات لتصبح الآن (دار الكتب المصرية)

تخيل حضرتك هذه أول مكتبة مصرية تم جمعها بعد حرق صلاح الدين الأيوبي لمكتبة الحكمة الفاطمية، أي ظلت مصر حوالي 700 عام بلا مكتبات، فلم يفكر العثمانيون والمماليك في صنع وإنشاء المكتبات في مصر لأن جهدهم كان منصبا فقط على الغزو والسلطة والغنائم، وهذا الفارق بين العالم والجاهل، أو بين الحرامي والأمين..صحيح كان للعثمانيين مكتبات حفظوا بها مخطوطات العصر العباسي لكن هذا في تركيا ونادرا ما كانوا يهتمون بصنع وإنجاز مكتبات خارج حدود مملكتهم، وهذه كانت سياسة العثمانيين طوال 600 سنة ، فلم يهتموا بإصلاح أحوال الرعايا والشعوب الذين يحكموهم ولكن اهتموا فقط بإصلاح حال الترك في الأناضول وما حولها..ولولا الإصلاح الذي انتهجه محمد علي ما أنجزت مصر هذه المكتبة التي وصل عدد الكتب فيها مطلع القرن العشرين أكثر من 130 ألف كتاب..

علما بأن هناك مكتبات أخرى أنجزت كمكتبة "أحمد طلعت باشا" وفيها 32 ألف كتاب، ومكتبة "أحمد تيمور باشا" وفيها 18 ألف كتاب، فيكون مجموع ما حفظته مصر من الكتب أوائل القرن 20 أكثر من (250 ألف كتب) ربع مليون مجلد عرفهم المصريون بفضل الطفرة العلمية غير المسبوقة التي صنعها محمد علي وأولاده..

حادي عشر: لم يكتف محمد علي بإنجاز الجرائد والصحف والمكتبات، بل أنفق على مشروع عام (للترجمة) ونقل علوم الحضارة الغربية لمصر، فاستقدم الدكتور"كلوت بك" مؤسس مدرسة الطب المصرية، والدكتور "برون بك"..وغيرهم، فقديما كان الطب المصري متخلفا ويقوم على الدجل والخرافة وما يعرف بطب الأعشاب أو النبوي، فكان الطاعون والكوليرا يفتكان بالشعب بلا رحمة، وأمراض أخرى كالبلهارسيا والتيفود والرمد ..وغيرهم، جاء كلوت بك وكتب (رسالة في الطاعون) ترجمها "يوحنا عنحوري" وكان سوريا استقدمه محمد علي لترجمة مؤلفات علماء الطب الذين استقدمهم لتطوير الطب المصري، وتوفى يوحنا سنة 1845م، وكذلك من المترجمين "يوسف فرعون" وغيرهم

ومعلومة هنا: لا يمكن دراسة الطب دون علم التشريح فكان كلوت بك يكتب في هذا العلم وله كتاب مشهور اسمه "القول الصريح في علم التشريح" انتهج في عنوانه أسلوب السجع المحبب عند الفقهاء ليشجعهم على قراءته والتخلي عن خرافاتهم الموروثة في كتب الفقه والتداوي بالطب المزعوم للرسول، علما بأن الرسول لم يكن طبيبا ليكون له طب مخصوص، لكنه كان طبا بدويا عربيا مشهورا بين القبائل اصطلح عليه الفقهاء بالطب النبوي، وهو السبب في جهل المصريين والمسلمين بعلوم الطب عدة قرون مما جعلهم فريسة للطاعون والكوليرا حتى أن تعداد مصر وقت قدوم الحملة الفرنسية كان 3 مليون فقط..بعدما كان 7 مليون نسمة وقت قدوم الحملة العربية بقيادة عمرو بن العاص، فلم تزيد معدلات النسل بل انخفضت وفقد المصريون الملايين من أبناءهم بأثر الجهل وانتشار المجاعات والأوبئة والحروب خصوصا طوال العصرين "المملوكي والعثماني"

ولمن يقول أن هذا العصر لم تحدث فيه مجاعات كبيرة، اقرأوا عن مجاعة مصر التي حدثت في عصر السلطان المملوكي "زين الدين كتبغا" التي تحكي بعض كتب التاريخ فظائع لا تقل عن مشاهد الشدة المستنصرية، حتى قيل أن مصر فقدت نصف سكانها في هذه المجاعة..

ثاني عشر: كان كلوت بك وبرون بك هم مؤسسين علم الطب في مصر، وعلى أيديهم ظهر كبار الأطباء المصريين الذين نهضوا بالصحة المصرية كابراهيم النبراوي، ومحمد البقلي ومحمد الشافعي ومحمد الشباسي وعيسوي النحراوي ومصطفى السبكي..وغيرهم عشرات الأطباء والمترجمين الذين نقلوا علوم الطب الفرنسية إلى مصر وكانوا على صدر البعثات العلمية التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا لنقل النهضة الأوروبية إلى المصريين، وبفضلهم أنشأ الباشا أول مستشفى ومدرسة للطب في مصر هي (قصر العيني) سنة 1827 م، وسبب تسميته أن محمد علي أمر أحد أثرياء مصر واسمه "أحمد العيني باشا" أن يتبرع بقصره في منطقة المنيل لصالح إنشاء مدرسة للطب، فعرف المكان "بقصر العيني" ثم نطقه الشعب لاحقا ب (القصر العيني) كأول وأشهر وأكبر مستشفى مصرية على الإطلاق..

ثالث عشر: لكن النهضة العلمية لا يمكن أن تحدث في مصر بدون علم الترجمة الذي كان يجهله المصريون تماما، فأنشأ محمد علي مدرسة المترجمين سنة 1835 والتي أصبحت لاحقا "كلية الألسن" وقد استعان محمد علي في ذلك بالشيخ "رفاعة الطهطاوي" وهو شيخ صعيدي من أعيان الجنوب كان قد أرسله في البعثات العلمية، ثم جاء إلى مصر وترجم عدة كتب فرنسية من بينها "القانون الفرنسي" الذي كان مصدره أعمال فلاسفة التنوير كجان جاك روسو وفولتير..وغيرهم، وترجم الشيخ رفاعة أيضا علوم فرنسية أخرى كالهندسة والعسكرية وكان بناء على ذلك إنشاء أول جيش مصري منذ 2500 عام بعدما انهارت الحضارة المصرية القديمة على يد الآشوريين والإخمينيين..فاستقدم محمد علي أحد عقول الفرنسيين الفذة في إنشاء الجيش وهو "سليمان باشا الفرنساوي" أو الكولونيل سيف..

واختصار ذلك أن نشأ علم الترجمة في مصر، فكان الشيخ رفاعة من مؤسسيه ثم رموزه في عصر لاحق كفتحي باشا زغلول، ويعقوب صروف، وغيرهم، وكانت للمطابع دورا كبيرا في تشجيع هؤلاء على الترجمة حيث كان الذي يعيق نقل لغات الآخرين قديما تكاليف نسخ الكتب القديمة من حيث (الوقت والجهد والمال) أما قدوم المطبعة المصرية وبدء عصر الصحف والمجلات سهل المسألة كثيرا وشجع العلماء والمفكرين على الكتابة والتأليف، وفي هذه الأجواء خرج علماء أزهر ورجال دين مستنيرين بعدما عرفوا الحقيقة وهضموها كالشيوخ "محمد عبده" و "جمال الدين الأفغاني" و "حسين المرصفي" والأخير له مؤلفات في علوم الأدب والاجتماع كأول مرة يتم فصل هذه العلوم عن الفقه القديم..وما فعله المرصفي كان مقدمة لرؤية كتب الفقه القديمة من منظور تاريخي مختلف ليست كحجة دينية بل كمعلومات نفهم بها حياة السابقين..

طبعا الزمن تغير الآن وباجتياح الوهابية للأزهر والعالم الإسلامي عادت كتب السابقين كدليل شرعي وديني وضاعت جهود عبده والأفغاني والمرصفي في تحديث العقل العربي والإسلامي..ومنعا للإطالة ربما يكون لنا عودة لاستكمال الكلام ..

الجزء الأول 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...