مستقبل البشرية: هل يشبه عالم أورويل أم عالم هَكسلي؟
تخيلوا عالما مُعولما يخضع لرقابة صارمة، حيث الناس مبرمجون ومحكومون ومهيؤون لقبول عبوديتهم، عالم من التضليل والتزوير واسع النطاق، حيث (2+2=5)، والحرية ليست إلا وهما، واقع اليوم بات يتحول تدريجيا لخيال الأمس.
يطرح فيلم "عالم أورويل أم عالم هكسلي؟" الذي بثته الجزيرة الوثائقية نظرة متعمقة لكيفية تحوّل اثنتين من أشهر روايات الديستوبيا (أدب المدينة الفاسدة) إلى حقيقة واقعة، مُتسائلا إلى أي مدى يعكس واقع اليوم عن كثب اثنتين من أشهر روايات القرن العشرين؟
قبل أكثر من 70 عاما قرع كاتبان إنجليزيان ناقوس هذا الخطر، وهما "ألدوس هكسلي" و"جورج أورويل"، وكل منهما مؤلف لأحد الأعمال التي تنبأت بالمستقبل؛ وهما روايتا "عالم جديد شجاع"، و"1984".
في رواية "عالم جديد شجاع" يطرح "ألدوس هكسلي" صورة مستقبلية لمدينة لندن بوصفها حضارة قائمة على الترف والعبث واللذة وتحكمها التكنولوجيا. وعلى الضفة الأخرى من نهر التايمز يتخيل "جورج أورويل" في رواية "1984" مواطنين من العمال محرومين من حرياتهم، يخضعون لرقابة حثيثة من "الأخ الأكبر".
وفي ظل وصول التكنولوجيا الحيوية ووسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق في عالمنا، فعلى أي ضفة من النهر سينتهي بنا المطاف، على ضفة "أورويل" أم ضفة "هكسلي"؟
السيد والشرس.. صديقان مختلفان يرسمان خيال المستقبل
من جهة كان "ألدوس هكسلي" رجلا مُتنفذا ومثقفا ورفيع المستوى، ومن جانب آخر كان "جورج أورويل" إنسانيا شرسا ومغرما بالطبيعة والعزلة، فكلاهما رجلان إنجليزيان ذوا طباع متباينة، ترافقا فجمعتهما الصداقة والمناكفة.
كان "هكسلي" أستاذ "أورويل" قبل أن يذهب كل منهما في طريقه، وعاد الفضل لروايتيهما في إعادة شملهما في نهاية المطاف، غير أنهما لم يتفقا قط على روايتيهما السوداويتين للمستقبل، فكل شيء يتعلق بهما -من أسلوب حياتهما إلى مؤلفيهما- هو تجسيد لتنافرهما.
كان كل شيء في مسار الكاتبين وروايتيهما متباينا، حتى الأماكن التي كتبا أعمالهما منها، فلمدة عامين عزل أورويل نفسه بعيدا في جزيرة أسكتلندية تعصف بها الأمطار والرياح، في حين لجأ "هكسلي" لرفاهية منتجع على البحر المتوسط.
رفاهية البحر المتوسط.. عزلة تكتب رواية سوداوية
في شهر مايو/أيار عام 1931 نأى "هكسلي" بنفسه في مكتبه لمدة 4 أشهر، وراح يتخيل عالما يصبح فيه العلم أداة للسيطرة بهدف التحكم بالناس واستعبادهم، تحت ذريعة جلب الراحة والاستقرار، وقد تأثر كتابه بسجالات تحسين النسل في ثلاثينيات القرن الماضي، وانتاب "هكسلي" الفزع من أولئك الذين كانوا يرون في التكنولوجيا الجينية وسيلة لتنظيم المجتمع، ولتبرير عدم المساواة فيه، خاصة أن بعض العلماء الأمريكيين والبريطانيين بدأوا بتعقيم الأشخاص المعاقين الذين يعتبرونهم غير مؤهلين اجتماعيا.
وعن أجواء العالم الذي عاش فيه "هكسلي"، يقول كاتب الخيال العلمي الأمريكي "ديفيد برين" إن "هكسلي" حذّر من أننا قد نتجه إلى مجتمع يتحكم بنا من خلال المُتع وليس الألم، ومن أنه قد يشكل حضارة من الصعب الهروب منها، فمن ذا الذي يثور ضد المتع؟
يقول "هكسلي" في روايته "عالم جديد شجاع": العالم مستقر الآن.. الناس سعداء، يحصلون على ما يريدون، ولا يرغبون أبدا فيما لا يمكنهم الحصول عليه، إنهم ميسورون وآمنون، لا يمرضون أبدا ولا يخشون الموت، إنهم مبرمجون بطريقة لا يمكنهم معها التصرف كما يحلو لهم.
"برنارد مارس".. قطرات من الكحول تصنع ثائرا ضد الطبقية
وفي روايته يُبرز "هكسلي" مجتمعا غير متساوٍ منقسما إلى طبقات، على رأس هذا النظام تقبع طبقة "أ"، أما في قعره فتوجد طبقة "ي"، وكان بطل الرواية "برنارد مارس" هو الوحيد الذي وقف ضد هذا التوافق الشمولي بسبب استقلاليته الفكرية التي يمكن عزوها إلى حادث تعرّض له أثناء ولادته.
وتشرح المترجمة "جوسي كامون" الأمر قائلة إن "برنارد مارس" كان أحد أفراد طبقة "أ"، بل كان "أ" موجب، مما يعني أنه كان شخصا ذا قوى عقلية كبيرة، لكن الشائعات تقول إن قطرات من الكحول تسربت إلى دمه أثناء عملية برمجته من سوء الحظ، وعليه فقد كان صغير الحجم، كما كان ذا بشرة داكنة ولم يكن وسيما، ورغم كونه "أ" موجب، إلا أنه لم يكن ذكرا مسيطرا، لذلك فلم يحظ بفرصة التواصل مع الإناث اللاتي يعجبنه، مما يتسبب له بإحباط كبير.
عند نشرها عام 1932 حظيت رواية "عالم جديد شجاع" بإعجاب النقاد، لكن دولا كثيرة اعتبرت الرواية بمثابة تحريض على الفجور، وطالبت بحرق الكتاب، بينما كان "ألدوس هكسلي" نفسه يتابع هذا الجدل باستمتاع إلى حد ما من مقره على ساحل الريفييرا الفرنسية.
"جورج أورويل".. وحي المكافح الهارب المعزول المحتضر
في أثناء الجدل حول رواية "هكسلي"، وعلى الضفة الأخرى من القتال، كان هناك رجل يُقاتل في سبيل حياته، إنه "جورج أورويل"، صحفي جار عليه الزمن، كان يستكشف أحياء لندن الفقيرة، ويُمضي الوقت مع المشردين، ويكتب عن أحوالهم المعيشية، لكنه لم يكن يجنِ ما يكفيه من كتاباته وحدها، فراح يعمل في مهن غريبة.
وفي عام 1943 نشر "جورج أورويل" روايته "مزرعة الحيوانات"، وهي رواية ساخرة ينتقد فيها "الستالينية" وانحرافات الثورة البلشفية، ومع بلوغه سن الأربعين كان "جورج أورويل" قد بدأ التفكير في تأليف كتابه التالي الذي يروي قصة نظام شمولي كابوسي مدمر.
وكان العنوان الأصلي لرواية "1984" عنوانا يُوحي بالدمار؛ "الأحياء الأموات"، وكان من المفترض أن تكون ثلاثية الأجزاء، في حين لم يكن أورويل قد كتب الجزء الأول، كانت "مزرعة الحيوانات" هي الجزء الثاني، أما الثالث فقد كان بعنوان "آخر رجل".
في ذلك الوقت عام 1946 كانت لندن تحت الدمار، وقد هرب "جورج أورويل" من العاصمة، واستقل عبّارة متجهة إلى جزيرة جورا في أسكتلندا، وانتقل إلى كوخ معزول في بارنهيل بين أربعة جدران مع آلته الكاتبة وسجائره، حينها لم يكن لديه ما يخسره، فقد تُوفيت زوجته الشابة تاركة إياه خلفها أرملا بصحبة ابن مُتبنى لم يتجاوز الثالثة من عمره اسمه "ريتشارد".
وحين بلغ 44 من العمر أصيب "أورويل" بمرض السُل، وكان يعلم بأن أيامه باتت معدودة، فراح يكتب على آلته الكاتبة طوال اليوم، ويدخن سجائره كما لو كان مِدخنة، إلى أن جاء يوم سعل فيه حتى اختنق.
ترسم رواية "1984" عالما مُقسّما إلى ثلاث دول عظمى في حرب مستمرة ضد بعضها، ويبقى فيها السكان في حالة فقر تحت رقابة وتهديد "الأخ الأكبر" الذي يرمز إلى السلطة البيروقراطية القمعية والشمولية المطلقة.
"1984".. رواية تكشف فلسفة الأنظمة الشمولية
يجزم الروائي الجزائري بوعلم سانسال مؤلف رواية "2084" أنه قبل "جورج أورويل" لم يفهم أحد قط كيفية عمل الأنظمة الشمولية، أو المبادئ الفلسفية التي تقوم عليها، ويؤكد أنه منذ الصفحات الأولى لرواية "1984" يصحب القرّاء إلى عالم مُرعب يعيش الناس فيه في ظروف مأساوية، حيث ترصدهم شاشات المراقبة على الدوام، وفي وزارة "الحقيقة" يختفي الناس فجأة، ويتبع اختفاءهم الصمت.
وترى الكاتبة "إليزابيل جيري" أن رواية "1984" مكتوبة بدقة بالغة، فالقسم الأول يمثل المقدمة التي تُعرّفنا على المجتمع، وعلى شخصية "ونستون" الباردة ودوره في هذا المجتمع، أما القسم الثاني فيعرفنا على "جوليا"، كما يحتوي هذا القسم على قدر من الفقرات الشاعرية.
ورغم هذه الشاعرية فإن "أورويل" يقول في روايته إن العواطف لم تكن خالصة، فكل شيء كان ممزوجا بالخوف والكراهية. ويُعلّق على روايته قائلا: لستُ راضيا عن الكتاب، لكنني بكل تأكيد لست غير سعيد به، أرى أن الفكرة من ورائه جيدة، لكني كنت لأقدمها بشكل أفضل لو لم أكن مريضا.
نُشرت رواية "1984" في 8 يونيو/حزيران عام 1949، ورغم شكوك الكاتب فسرعان ما اعتبرت روايته تحفة فنية، حتى إن رئيس الوزراء البريطاني حينذاك "ونستون تشرشل" زعم أنه قرأ الرواية مرتين، وبالنسبة للملايين الذين قرأوا الرواية أصبح "الأخ الأكبر" لديهم الرمز المطلق للشمولية، دولة شمولية تسحق الفردانية التي تجد نفسها في مجتمع مُتحكم فيه، ولديه القدرة على توفير السعادة والمتع المفرطة.
"عالم جديد شجاع".. مصنع إنتاج أطفال المجتمع الطبقي
في رواية "عالم جديد شجاع"، يرسم "هكسلي" مصنعا للأطفال، ويجعل أحد قسمي المصنع مخصصا لخلق أفراد الطبقة "أ"، أولئك الأفراد النخبويين جسديا وفكريا وسياسيا، بينما يختص القسم الآخر باستنساخ أفراد الطبقة "ي" في خط تجميع لخلق قوة عاملة ضخمة.
تقول رواية "عالم جديد شجاع": نحن أيضا نُقدّر ونحكم، نحن نقوم بتشكيل أطفالنا ككائنات بشرية مجتمعية، إما كأفراد نخبويين (أ)، أو كأفراد عاديين (ي)، إما كعمال صرف صحي مستقبليين، أو كحكام متنفذين مستقبليين، كل عمليات التشكيل المسبق تهدف إلى هذا، تصنيع البشر وفقا لمصيرهم المجتمعي المحتوم، مبدأ الإنتاج الضخم يطبق أخيرا في علم الأحياء.
وتشرح الفيلسوفة والمحللة النفسية "سينثيا فلوري" الأمر قائلة: إن "هكسلي" يقول بدلا من أن نكره الحتمية المجتمعية المتأصلة في مجتمعاتنا والتي ليست خيالا صرفا، سوف نقوم بجعلها جزءا من علم الأحياء، أي بدلا من أن يريد شخص ما مثلا أن يصبح مصمم أزياء أو خبازا، سيكون دوره هذا مُحددا سلفا له، وهكذا نتفادى أن تكون للناس رغبات مختلفة، وذلك بأن يكون أمامهم طريق واضح عليهم سلوكه. يمكننا أن ننظر للرواية بوصفها مدينة فاسدة مجنونة أو مدينة فاضلة، لأن الناس فيها لن يكون لديهم الوعي لعبوديتهم الطوعية.
أطفال حسب الطلب.. أمريكا على درب المجتمعات القديمة
تميل أمريكا اليوم أكثر نحو أيدلوجية أخصائي تحسين النسل "جوليان هكسلي"، وذهب بعض الأطباء إلى أبعد من حدود علم تحسين النسل إلى عرض تخليق أطفال حسب الطلب، ففي معهد الخصوبة بكاليفورنيا أصبح "عالم جديد شجاع" واقعا بعد أن قام الدكتور "أستان بيرغ" بتصنيع أطفال "أ" حسب الطلب، ويقول إن لديهم قرابة 7000 آلاف من الأجنة مخزنة، وبمقابل 20 ألف دولار يمكن للوالدين أن يشتريا طفل أحلامهما.
ويشرح "أستان بيرغ" الأمر قائلا إنهم يقومون بعملية جراحية لجنين بشري يستخلصون منه بعض الخلايا ليتمكنوا من تحليلها جينيا، وذلك بهدف معرفة كل شيء عنه. وقد حدد أكثر من 1000 عامل جيني، وهي عوامل ليست قادرة على تحديد صحة الجنين فحسب، بل وصفاته الجسدية أيضا، وباستخدام هذه البيانات يختار جنينا يناسب رغبات الزبائن، ويستفيد من خدماته قرابة 400 أب وأم سنويا.
ويشير "أستان بيرغ" إلى أن أول ما يسأل عنه الأهل هو جنس الجنين، ذكر أم أنثى، ثم يختارون لون العينين ثم الطول، لافتا إلى أن الناس يريدون دوما ما ليس لديهم، وأنهم يتلقون طلبات غريبة، فالبعض يريد لاعب كرة قدم جيد، أو راقصة باليه جيدة، أو صاحب صوت جميل، إنها طلبات هائلة لأشياء مختلفة، معقبا بأنهم لم يتوصلوا بعد لتحقيق جميع هذه الرغبات.
المثير في الأمر أن هناك سوقا ضخما لتصميم الأطفال، وقد بلغت قيمة هذه الصناعة عام 2020 حوالي 20 مليار دولار، لكنها تشكل مصدر قلق حين يتعلق الأمر بمجتمع جديد من الطبقات.
ويرى كاتب الخيال العلمي الأمريكي "ديفيد برين" أن المستقبل سيشهد أنواعا عديدة من البشر، بعضهم سيكون متفوقا بشكل ما، وإن كان بإمكان الأغنياء أن يطبقوا الهندسة الجينية أولا، فسيكون أطفالهم بمثابة آلهة فوقنا جميعا، وهذا ما كان يقوله السادة في المجتمعات القديمة، كانوا يقولون إن أطفالهم أفضل، لكن هذه المرة سيصبح هذا حقيقة.
ثلاثينيات القرن العشرين.. إلهام الثورة الإسبانية
بعد انقضاء إقامتهما في كلية إيتون راح كل من الكاتبين في حال سبيله، ففي عام 1927 كان "هكسلي" يمضي أوقاتا سعيدة في إيطاليا، بينما عاد "أورويل" من بورما بعد أن قضى فيها خمس سنوات يعمل لدى الشرطة الإمبراطورية البريطانية.
تبين أن ثلاثينيات القرن الماضي كانت انعطافة في حياة الكاتبين كليهما، ففي حين كان "هكسلي" قلقا من القوة المتصاعدة للمتطرفين، وكان ينأى بنفسه بعيدا عن أي شكل من أشكال الأيديولوجيا، كان "أورويل" على النقيض من ذلك، فقد كان ناشطا اشتراكيا مُحنكا رأى في الثورة الإسبانية أملا في التغير، وانتقل في عام 1936 إلى برشلونة للنضال ضد القوى القومية المنطوية تحت لواء الجنرال الديكتاتور "فرانثيسكو فرانكو"، وانضم إلى صفوف حزب العمال الماركسي الذي وصفه بأنه عالم مصغر لمجتمع بلا طبقات، وقد شكّل هذا الأمر له سعادة بالغة.
كانت زوجة "أورويل" تعمل في وزارة الإعلام البريطانية، مما ألهمه في روايته فكرة "وزارة الحقيقة" التي كانت تُعنى بمراقبة الإعلام، حيث يعمل بطل الرواية "وينستون سميث" على إعادة كتابة الوقائع التاريخية بما يتوافق مع خط الحزب المتغير باستمرار.
"أنا الأخ الأكبر".. تجسيد روائي على لسان "ترامب"
في رواية "1984" يكتب "أورويل" بوضوح: شيء ما ولج داخل جمجمتك، فاصطدم بدماغك، وأخافك من معتقداتك، لقد أخبرك الحزب بأن ترفض الدليل الذي تقدمه لك عيناك وأذناك.
وبعد عقود عديدة تمثلت فكرة رفض الدليل الذي تقدمه العينان بشكل مثالي في خطاب للرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" قال فيه "تذكروا أن ما ترونه وما تقرؤونه ليس هو نفسه ما يحدث". وفيما يُشبه الاقتباس المباشر من رواية "1984" قال ترامب: "لا يمكنكم أن تثقوا بشيء هناك في الخارج، يمكنكم فقط الوثوق بي، أنا الأخ الأكبر، أنا صديقكم الوحيد".
في المقابل يُدرّس "فيلن مكماهون" مدير مركز حقوق الإنسان في بيركلي -صفوة الجامعات في كاليفورنيا- كل عام أكثر من 100 طالب كيفية إماطة اللثام عن الحقيقة، في ظل التدفق غير المنقطع للأخبار المتناقضة والمزيفة التي تنتشر في أرجاء العالم.
يقول "مكماهون" إن "أورويل" كان يخشى أولئك الذين يسلبوننا حق الحصول على المعرفة، بينما كان "هكسلي" يخشى الذين يزودوننا بكثير من المعلومات التي ستتحول إلى سلبية وأنانية، في العالم الأول لديكم أناس يحاولون طمس الحقائق، وفي الآخر لديكم نظام يحاول أن يخبرنا بأن الحقائق ليست مهمة، وأنا أرى أن ما نراه في كثير من خطابات المتنفذين هو خليط من الأمرين.
حرب الردود على الروايتين.. صراع الأستاذ والتلميذ
تقاطعت طريقا الكاتبين مرة أخرى، حيث اكتشف "أورويل" كتاب أستاذه القديم، وسرعان ما كتب نقدا لاذعا ضده قائلا: كانت رواية الأستاذ "ألدوس هكسلي" (عالم جديد شجاع) رسما كاريكاتيريا جيدا لليوتيوبيا القائمة على المتع، النموذج الذي بدا ممكنا، بل حتى وشيك الحدوث قبل ظهور "هتلر"، لكنه لم تكن له علاقة إطلاقا بالمستقبل الحقيقي. ما نحن بصدده في هذه اللحظة هو أشبه بمحاكم التفتيش الإسبانية، بل ربما هو أسوأ من ذلك بسبب الشرطة السرية، هناك فرصة ضئيلة جدا لتجنب هذا ما لم نتمكن من إعادة ترسيخ الإيمان في الأخوة الإنسانية.
لم يكلف "هكسلي" نفسه عناء الرد، لكن هذا لم يمنع "أورويل" من أن يرسل له نسخة من روايته "1984"، وقد استلم "هكسلي" الكتاب من تلميذه السابق في كاليفورنيا الذي كان يعيش فيها منذ عام 1937، وهذه المرة أرسل رسالة إلى "أورويل" تقول: في الجيل القادم -على ما أرى- سيكتشف حكام العالم بأن تخليق الأجنة مُسبّقا والتنويم المغناطيسي أدوات أكثر فاعلية للحكم من الأندية والسجون، وأن الشهوة للسلطة يمكن إشباعها بالكامل بتوجيه الناس نحو محبة عبوديتهم بدل من جلبهم وركلهم لحملهم على الطاعة، بعبارة أخرى أشعر بأن كابوس "1984" مقدر له أن يتحول إلى كابوس لعالم يحمل تشابهات أكثر مع ما تخيلته أنا في "عالم جديد شجاع".
لم يتمكن الكاتبان من إيجاد أرض مشتركة بينهما، وقد عاش "جورج أورويل" وقتا كافيا ليقرأ رد "هكسلي" قبل أن توافيه المنية عن عمر 64 عاما، أي بعد شهر واحد من إصدار رواية "1984"، وتحديدا في 21 يناير/كانون الثاني 1950.
غداة مصرع "جون ".. "ليموت في يوم لن يلاحظه أحد"
خاض "ألدوس هكسلي" تجربة غريبة ومزعجة كما وصفها في مقابلة تليفزيونية، وذلك بتناول جرعة من عقار المسكالين المهلوس، ليختبر آثاره على العقل والوعي، كما تناول حمض الليسرجيك (عقار LSD)، معتبرا هذه التجارب شيئا استثنائيا استكشف من خلالها المناطق المجهولة في عقله، فقد جعلته يسافر إلى ما يشبه قارة مظلمة داخل العقل لا تشبه أي شيء في عالمنا العادي.
في 22 من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1963 (أي بعد 13 عاما من وفاة "جورج أورويل") اختار ذلك المفكر المتبصر وعراب ثقافة المضادة "ألدوس هكسلي" أن يموت تحت تأثير عقار حمض الليسرجيك، لقد كان يعلم أنه لن يكسب معركته ضد سرطان الحنجرة الذي أصابه منذ ثلاث سنوات.
لكن الدموع التي اجتاحت أمريكا هذا اليوم لم تكن من أجله، إذ يقول كاتب سيرته الذاتية "نيكولاس مواري" إنه كان يتمتع بالذكاء والحكمة، ليموت في يوم لن يلاحظه أحد، لقد اختار اليوم ذاته الذي قُتل فيه الرئيس الأمريكي "جون كينيدي".
بعد مضي 70 عاما نتساءل أي الكاتبين الإنجليزيين كان تنبؤه الأفضل عن عالم اليوم، "أورويل" أم "هكسلي"؟ هل نحن نعيش في عالم "1984" أم في "عالم جديد شجاع"؟ أم أننا نعيش في عالم هجين من العالمين؟
"الأخ الأكبر يراقبك".. خليط مثالي من عوالم الروايتين
ثمة دولة اليوم تُشبه خليطا مثاليا من الروايتين، فبفضل رقابتها الواسعة ومجتمعها المتطور تقنيا ونظامها الشمولي وجنتها الاستهلاكية؛ تُمثل الصين عالما جديدا شجاعا أورويليا، وبوجود مليار من المواطنين على شاكلة الخنازير الغينية تحت تصرفها، أصبحت الصين تتحول بشكل متسارع إلى مختبر تجارب لتقنيات التحكم والسيطرة.
ويرى "نيكولاس مواري" -كاتب سيرة "هكسلي"- أن الشخص في الصين له رقم واحد يرتفع إن وافقت الحكومة على ذلك، وينخفض إن تواصل مع أشخاص رصيدهم أقل منه، معتبرا ذلك أداة قوية لفرض الطاعة وتعزيز الامتثال.
تُضاف النقاط الإيجابية على بطاقات الدرجات الاجتماعية الخاصة بك عند شراء المنتجات الصينية، أو عندما يكون أداؤك جيدا في العمل، أو عندما تنشر مقالا عن فوائد الاقتصاد الوطني في مواقع التواصل الاجتماعي.
أما النقاط السلبية فتُضاف عند إبداء آراء سياسية معارضة، أو عند القيام بعمليات بحث مشبوهة على الإنترنت، أو عند العبور العشوائي للطريق، وبالطبع فإن الرصيد السلبي للبطاقة المجتمعية يُعرّض صاحبها للعقوبات، فقد يتعرض المرء للحرمان من شراء تذكرة لسنة، أو قد لا يحصل على قرض بنكي، أو قد يحرم من الاشتراك في مواقع المواعدة الإلكترونية.
ولضمان ألا يُفوّت النظام الحاكم أي شيء، نُصبت 400 مليون كاميرا للتعرف على الوجوه في أرجاء البلاد، أي أنه من الصعب الآن تجنب هذه العين الرقابية القوية لأكثر من سبع دقائق، فسواء كنت في الشارع، أو في وسيلة مواصلات عامة، أو في منزلك، فإن "الأخ الأكبر يراقبك".
"ننخدع باعتقادنا بأننا أحرار، في حين أننا لسنا كذلك"
تقول المحللة النفسية -سينثيا فلوري- إن شخصية "الأخ الأكبر" قديمة في نسختها الفردية، أما نسخة "الأخ الأصغر" المتعددة والمقسّمة وواسعة الانتشار تجدها في كل مكان ترى فيه كل شيء، فيمكن لأي أحد أن يؤذيني، لكنني أستطيع أن أؤذي الجميع أيضا.
يُشير "نيكولاس مواري" إلى عبارة كان "هكسلي" يرددها دائما حول المجتمعات الحديثة، وكيف يقومون بجعلنا نحب عبوديتنا، إنهم يمنحوننا شعورا وهميا بأننا المسيطرون، لكن الحقيقة أننا نقوم بما نُؤمر أن نقوم به، وكان يرى أيضا بأننا نسمح لأنفسنا بكل سهولة أن نُخدع، بحيث ننخدع باعتقادنا بأننا أحرار، في حين أننا لسنا كذلك.
إضافة تعليق جديد