سانتا كلوز ليس يسوع المحبّة
سامي كليب:
لو أجرينا استفتاء عالمياً اليوم وسألنا الأطفال: “هل تعرفون من هو السيد المسيح، ومن هو بابا نويل”؟ على الأرجح، سيعرفون فورا بابا نويل او سانتا كلوز. ولو دقّقنا فيما يأكله المسلمون في صوم رمضان الفضيل ، لاكتشفنا أنهم ينفقون في شهر الزهد أكثر مما ينفقونه في أي شهر آخر، رغم ان الصوم يفترض قليلا من الطعام وكثيرا من العبادة والإحسان.
حجم البذخ في الأعياد الدينية بات هائلا خصوصا في مجالات الأكل والثياب والهدايا، فهذا العام مثلا يتوقع مركز Salesforce لعيد الميلاد، ان تصل المشتريات الى نحو الف ومئتي مليار دولار بزيادة ما نسبته 7% عن العام الماضي. وحسب موقع الخليج أونلاين استناداً إلى بيانات صادرة عن جهات حكومية رسمية عام 2018، فإن معدلات الاستهلاك ترتفع في الدول العربية والإسلامية خلال شهر رمضان بنسب تتراوح ما بين 30 إلى 150٪. صارت أعياد الإيمان جسورا لجشع التجّار والاحتكارات ولبطر الناس واهدارهم وبذخ من استطاع الى ذلك سبيلا.
ابتعدت مجتمعاتنا كثيراً عن جوهر العبادة العميقة والأصيلة. كثُرت اللحى والعباءات الدينية وتراجع الإيمان وتقدّم التطّرف وانتعشت الفتن. صارت التقاليد والاحتفالات والبهرجات أهم من المضمون الحقيقي للمناسبات. جاءت الكتب السماوية لإرشاد الناس الى الخالق، فنسوا الله واختلفوا على الكتب، لا بل حتى أن أتباع الكتاب الواحد تصارعوا باسمه، وهو منهم براء. صار البعض يعبد الأشخاص لا الخالق كأنهم عادوا طوعا الى عصور الوثنية، لكن الوثن هذه المرة من لحم ودم وفساد وجور.
يقول مثل فرنسي شهير ” L’habit ne fait pas le moine” وهذا يعني “أن الثوب لا يخلق راهباً”، وهو مثلٌ مقتبسٌ بالأصل من حكمة تقول:” إن اللحية لا تصنع فيلسوفاً”. قتلتنا المظاهر في هذا الشرق المقهور، فكدنا نقتل كل شيء عميق وجميل. وقد ذهب البعض الى حد القول إن ” لقمة في فمع جائع خير من بناء ألف جامع”، وإذا كان هذا الحديث قد نُسب زورا الى الرسول الكريم، وتعمّد قائله المغالاة ربما للفت النظر الى أهمية اطعام الجوعى، الاّ ان ذلك لا ينفي أبداً أن جزءا لا بأس به من ممارسات الدين قد خرج عمّا أراده من نقلَ رسالة الوحي.
ولد يسوع في مغارة فقيرة، وعاش حياة زهد وتبشير وفي ظروف صعبة وقاهرة. فهل هو نفسه الذي نرى تجسيداته وقد انتقلت من الغرب إلى بلادنا في احتفالات بازخة وطاولات عامرة في ليلة الميلاد وفي الذهب الخالص والوفير الذي يزيّن ثياب رجال الدين وحيطان الكنائس؟ بينما نحن في أصل الحكاية؟ هل الاحتفالات الباذخة والموائد العارمة والهدايا التي تثقل كاهل الناس، هي ما أراده سيد المحبة والتسامح والحوار والإنسانية في يوم مولده بينم الفقر ينهش أكثر من 70 بالمئة من بعض المجتمعات العربية؟
ولد يسوع في فلسطين فقير الحال، فأغنى العالم بدعوته للتسامح والمحبة والإصلاح. وكان مجاله الأول هذا الشرق، فكم بقي من أهلنا واخوتنا واحبائنا من المسيحيين في بيت لحم والقدس وحول المغارة التي قدّمت للإنسانية رسول المحبة. كم بقي منهم أيضا على مساحة كل هذا الشرق؟ لم يبق أكثر من 2 في المئة في القدس وهاجر أكثر من نصف المسيحيين من سوريا والعراق ولبنان بسبب الحروب أو الإرهاب أو الفقر أو البحث عن حياة أفضل.
يسوع المسيح كما الرسول الكريم ولدا في هذا الشرق الممزق المتصارع والمفتون بالفتن، فحاولا اصلاح مجتمعاتهم أولا ثم العالم ثانيا. فكيف ترك أتباعُهما ضباع الليل يسرقون ثرواته ويخترقون مجتمعاته ولا يتردّد بعض السارقين والمحتلين والغزاة في التحدث باسم المسيح محتكرا نشر الخير ضد من يرى فيهم الأشرار كي يسُهل نهب ثرواتهم، فيساهم في تهجير أتباع صاحب الرسالة المُقدّسة.
أين أبناء السيد المسيح في هذا الشرق؟ لو ذهبنا الى مدينة في السويد اسمها سوديتللي والتي تحوّلت بكاملها الى ملجأ المسيحيين العراقيين والسوريين، نفهم حجم الكارثة المحدقة بهذا الشرق.
لا بأس بالحفلات إن شئتم، وبالموائد العامرة إن رغبتم، وبتزيين كل شيء باللون الأحمر، لكن كان يكفينا تزيين أرزة في لبنان، وشجرة زيتون في سوريا، وكنيسة في القدس، ونخلة في العراق، وشجرة تين في الأردن، كي نشعر بأننا فعلا أوفياء للذي ضحى بجسده وتعذّب لنشر رسالة المحبة.
قادتني الصدف الجميلة في الأعوام الماضية الى مناطق وادي النصارى في سوريا. زرتُ مارماريتا ومصياف وغيرهما، وتمتعت بالقلاع العتيقة والبيوت القديمة وأصالة الشعب هناك. وجدتُ أناساً طيبين محبين لوطنهم، حريصين على البقاء في أرضهم، تحمّلوا كل جور الحرب والإرهاب، فقدوا مجموعة من خيرة شبابهم في الدفاع عن أرضهم، لكني اكتشفت أيضا، يا للأسف، ان الكثير منهم هاجر وقد لا يعود أبداً، وهذه هي الحال أيضا في كل بُقعة من هذا الشرق الذي ساهم المسيحيون في بنهائه ونهضته واشعاعه ولغته وقواعد لغته وأدبه وشعره ونضاله السياسي والفكري على نحو كبير.
نحن أبناء السيد المسيح واحفاد النبي محمد، هذه الأرض لنا، وهذه المقدسات لنا، وكل الشعائر يجب ان تنتشر من أوطاننا الى الخارج وليس العكس. علينا أن نحافظ على الأرض ونحفظ أهلها، وعلينا بناء مجتمعات مدنية حقيقية تحمي الجميع ولا تفرض شروطا دينية على أحد. وعلينا أن نهدم الهيكل على رؤوس الفاسدين في طريق بناء دول تحترم المواطن والحرية والعدالة والتسامح وتكافؤ الفرص بعيدا عن الطائفية والمذهبية والمحاصصة.
أجمل الاحتفالات في هذه الأعياد أكانت مسيحية أم إسلامية، هو أن نحافظ على كل أهل هذا الشرق بكل طوائفهم ومذاهبهم وانتماءاتهم وأعراقهم، وأن نبني أوطانا تحفظ الأديان وتمنع المتحدّثين زوراً باسمها من الاعتداء على الدولة وحرية المواطن التي لا يصونها الا القانون العادل.
أجمل الاحتفالات هي في أن نتذكّر أنه لو ضاعت فلسطين ولو هاجر المسيحيون أرضها وأرض لبنان وسورية والعراق والأردن، وتم تدمير هذه الدول، لصار الشرق جسدا مريضاً مُنهكاً وفاقدا جزءا كبيرا من روحه واشعاعه، وصار هباء منثورا في مهبّ الرياح.
لعلّنا في هذه الأعياد نحتاج الى قليل من التواضع اذا كنّا فعلا نريد التشبّه بالذين نشروا الرسالات وعاشوا وماتوا فقراء، رغم انهم لو أرادوا لكانوا أثرياء زمانهم. وكل عام وانتم بالف خير
لعبة الأمم
إضافة تعليق جديد