العين على الرياض بعد القاهرة: أنقرة ماضية في «المصالحة»
على رغم قوّة الضربة التي وجّهها الرئيس الأميركي، جو بايدن، باعترافه بـ«الإبادة الأرمينية» عام 1915، ينتقل الاهتمام التركي، هذا الأسبوع، إلى القاهرة. فبعدما اقتصرت المحادثات الأوليّة بين تركيا ومصر على موفدين أمنيين، ارتفع مستوى التفاوض بين البلدَين إلى المستوى السياسي، بوصول وفد دبلوماسي تركي، برئاسة نائب وزير الخارجية التركي، سدات أونال، إلى القاهرة، يوم أمس، ما من شأنه أن يُكسِب المحادثات - للمرّة الأولى - طابعاً رسمياً. وعلى هذا، يعلِّق الأتراك آمالاً، نظراً إلى حجم القاهرة الاقتصادي ودورها المفتاحي في انفتاح أنقرة على دول أخرى، علماً أن العلاقات الاقتصادية لم تتأثّر كثيراً جرّاء المقاطعة السياسية بين الطرفين، واستمرّت بمعدّلات سنوية مقبولة.
ولا ينفصل الانفتاح التركي على مصر، عن محاولاتها الانفتاح على السعودية ودول الخليج الأخرى. وفي هذا الإطار، أكد إبراهيم قالين، مستشار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، أن بلاده «تعترف وتقبل» بحكم المحكمة السعودية في شأن قضية جمال خاشقجي، وهو ما يُعدُّ تنازلاً كبيراً من جانب تركيا. من جهتها، لا تُبدي المملكة، حتى الآن، انفتاحاً مقابلاً، بل إنها نفّذت، أخيراً، قراراً كان اتُّخذ في وقت سابق، بإغلاق 12 مدرسة تركية في السعودية تضمّ 2256 تلميذاً، في حين لم تُصدِر أيّ تصريحات تعكس رغبة في التقارب مع تركيا. ولعلّ بدء محادثات سعودية مع الجانب الإيراني في بغداد أجّل - ولو لبعض الوقت - اهتمام الرياض بالعلاقات مع أنقرة، في انتظار تلمُّس نتائج معيّنة مع طهران. وربّما قرّرت تركيا، بدورها، البدء بمصر، كون ملفّها أسهل من ملفّ التطبيع مع السعودية والإمارات، وكون القاهرة أبدت رغبة مماثلة، ولو مشروطة، في سبر احتمالات تطبيع العلاقات. وفي هذا الإطار، تُركّز وسائل الإعلام التركية المؤيّدة لـ«حزب العدالة والتنمية» على الطبيعة الثنائية لتطبيع العلاقات مع مصر، بمعزل عن المؤثرات الإقليمية مِن مِثل العلاقات التركية مع دول الخليج العربية، والصراع في شرق المتوسط، والوضع في ليبيا. وأفردت صحيفة «يني شفق»، الموالية للحزب الحاكم، مساحةً كبيرة للعلاقات التركية - المصرية، في مؤشر آخر إلى الأهمية التي توليها أنقرة للعلاقات مع القاهرة.
وفيما تمضي مسألة التطبيع قُدُماً، بات معروفاً أن مصر تعرض على تركيا شروطاً لتطبيع العلاقات، ليس أوّلها تجميد نشاط جماعة «الإخوان المسلمين»، وخصوصاً المنابر الإعلامية المرئية منها والمكتوبة، والتي تشنّ، منذ سنوات، حملات مفتوحة على الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، كما تشترط انسحاباً تركياً من ليبيا التي تُعتبر الخاصرة الغربية للأمن القومي المصري. ولا يُعرف - حتى الآن - المدى الذي سيذهب إليه الوفد التركي في التعبير عن الرغبة في تطبيع العلاقات، وإن كانت الحماسة هي الطاغية في هذه المرحلة. ففي الملفّ الأوّل، وهو حيوي جداً بالنسبة إلى مصر، يُحتمل أن تتحلّى أنقرة ببعض المرونة، لكن تصريحات بعض مسؤوليها لا تعكس هذا المناخ التفاؤلي؛ إذ اعتبر إبراهيم قالين، قبل أيّام، أن «الإخوان المسلمين» حركة سياسية ولا تمتّ إلى العنف بِصِلَة، وهو ما لا يرضي القيادة المصرية. كذلك وجّه المستشار الرئاسي ما يشبه «الرشوة الأمنية» إلى القاهرة، بقوله إن «التقارب مع مصر سيساعد بالتأكيد الوضع الأمني في ليبيا، لأننا ندرك تماماً أن لمصر حدوداً ممتدّة مع ليبيا، وذلك قد يشكّل في بعض الأحيان تهديداً أمنياً لها». وأدلى قالين بتصريحات لا تُطمئن مصر في مسألة مصيرية مثل ليبيا، إلّا إذا اعتُبر كلامه من «عدّة» التفاوض، وخصوصاً قوله إن تركيا لن تسحب جيشها ولا مرتزقتها من هذا البلد، ولو طلبت الأمم المتحدة منها الانسحاب.
وتعوِّل تركيا كثيراً على الحوار السياسي مع مصر لإحياء العديد من الملفّات، كتبادل السفراء وترسيم الحدود البحرية بينهما، والذي يُعتبر ملفّاً حيوياً جدّاً كونه يؤثّر على توازنات القوّة في شرق المتوسط لمصلحة كلا البلدَين. لكن من غير المعروف مدى استعداد القاهرة لتوقيع اتفاق يزعج حليفتها أثينا، علماً أن رؤساء أركان مصر واليونان وقبرص وقّعوا، في السابع من نيسان/ أبريل الماضي، اتّفاق تعاون عسكري. وأمل الرئيس المشارك للجنة البرلمانية الأوروبية - التركية، اسماعيل قره يل، في أن توقّع القاهرة وأنقرة، في وقت قريب، اتفاقاً لترسيم الحدود البحرية، قائلاً إنه إذا حكّمت مصر منافعها و«العقل السليم»، حينها يصبح توقيع الاتفاق قريباً، مؤكداً أن تركيا لن تتنازل عن حقوقها في شرق المتوسط.
كذلك، يُعتبر الملفّ التجاري بين البلدَين من أولويّات تركيا؛ إذ تقول صحيفة «يني شفق» إنه على رغم كلّ العراقيل وعدم منح تراخيص دخول (فيزا)، فإن العلاقات الاقتصادية بين الجانبين لم تنقطع منذ عام 2013 - وإن تأثّرت بمناخ التوتّر السياسي - بل إن مصر حافظت على كونها أحد شركاء تركيا التجاريين في شمال أفريقيا. ووفقاً لـ«معهد الإحصاء التركي»، فقدْ صدّرت تركيا إلى مصر بين عامَي 2014 و 2020 ما قيمته 21.9 مليار دولار، فيما صدّرت مصر ما قيمته 12.1 مليار دولار. وبرزت من صادرات تركيا منتجات الحديد والفولاذ والمحرّكات والمنتجات البلاستيكية وزيوت البترول. كما تستثمر تركيا في مصر في مجالات السيارات والمصارف وصناعات الزجاج والبناء والطاقة، فيما تصدِّر مصر إلى تركيا منتجات بلاستيكية وكيميائية، ومنتجات الذهب والنسيج.
ويرى رجال الأعمال الأتراك أن مصر، إضافة إلى كونها سوقاً كبيرة للمنتجات التركية يَعدّ مئة مليون نسمة، فإنها بوّابة جديدة للمصدّرين الأتراك إلى أفريقيا والدول العربية. وعلى رغم أن تركيا لا تكتشف مصر من جديد، لكن استئناف العلاقات الكاملة بينهما، سيعزّز التعاون بين البلدين. وتقول الصحيفة إن مصر تخطّط لمشاريع مشتركة مع السودان وثماني دول أفريقية أخرى، ولا سيما بعد جنوح السفينة «إيفر غيفِن» في قناة السويس، وحوادث القطارات، حيث يمكن المتعهّدين الأتراك، وفق الصحيفة، أن يساعدوا كثيراً. كذلك، فإن إنشاء مصر خطوط توزيع ونقل في مجال الطاقة يوفّر مشاريع تعاون مع الدول الأخرى، وفي طليعتها تركيا.
الأخبار
إضافة تعليق جديد