لعبة المصطلحات الإعلامية المضللة: جدار الأعظمية نموذجاً
الجمل ـ د. ثائر دوري : صيغة الخبر كما تناقلتها وكالات الأنباء هي أن جيش الاحتلال الأمريكي بدأ ببناء جدار حول الأعظمية لحمايتها من العنف الطائفي . فعلى سبيل المثال عنونت الجزيرة نت ، و هي من أكثر وسائل الإعلام حيادية و مهنية ، على الشكل التالي:
"جدار أميركي لوقف الاقتتال المذهبي وغيتس يواصل زيارته" و في الأيام التالية و إلى أمد لا نعرف متى سينتهي سيبقى تناول موضوع جدار الأعظمية محكوما بالرواية الأمريكية للأحداث، إنه جدار لحماية الأعظمية من العنف الطائفي. و قد تورط بهذه الرواية بعض من هم ضد الجدار و يقفون بالصف الوطني. القدس العربي عنونت يوم الاثنين 23/4 /07
"صحف عراقية: جدار الاعظمية يكرس الانقسام الطائفي ويشبه جدار برلين في بغداد" إن صياغة الخبر و تداوله من قبل وسائل الإعلام بهذا الشكل يدل على مدى سطوة أمريكا و سيطرتها على الإعلام، إما بشكل مباشر أو غير مباشر. فالنصف الأول من الخبر عن بناء الجدار صحيح تماماً، لكن النصف الثاني “لحمايتها من العنف الطائفي " أو لوقف الاقتتال المذهبي " هو المشوه للحقيقة، فما هي القصة الحقيقية للجدار ؟
بعد بناء دولة الكيان الصهيوني الجدار العازل في الضفة الغربية صار كل ما يتعلق بالأسوار و الجدران العازلة يحمل دمغة صهيونية و يدل على صهينة في الفكر . لكن لأمريكا تجربتها العميقة بهذا المجال و قد تبلورت في ما يسمى بالقرى الإستراتيجية في فيتنام . كما أن الاستعمار الفرنسي في الجزائر استخدم نفس الأسلوب، فعمد إلى وضع مئات الآلاف من القرويين في معسكرات اعتقال كبيرة مسورة بالأسلاك الشائكة، و بالمناسبة فإن بوش و مستشاريه عكفوا منذ شهور على دراسة تجربة فرنسا الاستعمارية في الجزائر !
طبقت الولايات المتحدة الأمريكية برنامج القرى الإستراتيجية في فيتنام بشكل واسع و فشل في النهاية. تقول موسوعة الحرب الفيتنامية عن مشروع القرى الإستراتيجية ما يلي:
(( القرى الإستراتيجية Strategic Hamlets
تشكلت لجنة مركزية للقرى الإستراتيجية، برئاسة نجو دنه نهو، شقيق رئيس فيتنام الجنوبية؛ وصارت هي الهيئة الفيتنامية القيادية. وضمت وزراء الدفاع والداخلية والشؤون المدنية والريفية والتعليم والشرطة. وخضعت لإشراف مباشر من لجنة الريف في بعثة العمليات الأمريكية، واللجنة الموجهة للقرى الإستراتيجية.
اعتمد نظام القرى الإستراتيجية على إجبار الفلاحين على هجر قراهم وأملاكهم، ليحشدوا في "قرى إستراتيجية"، تحميها مدافع المواقع العسكرية القريبة، وتحيط بها صفوف من الأسلاك الشائكة وأسوار البامبو، تتخللها خنادق مملوءة بالألغام، تليها تحصينات أسمنتية على الفواصل والممرات، مع أبراج مراقبة في كلِّ الاتجاهات. ولم يسمح لهم بمغادرتها، إلا نهاراً؛ للعمل في الحقول، بعد تفتيشهم، بدقة، عند الأبواب، أثناء الخروج أو الدخول؛ وتحت رقابة دوريات الطائرات المستمرة، التي كانت تطلق النار على أيّ جماعة منهم، تفلت من الأسلاك الشائكة، أو تبتعد عن المنطقة المحددة للعمل.
وفي داخل القرية، توجد المكاتب الإدارية، ومراكز الشباب الجمهوري السايجوني، على شكل مواقع عسكرية، تَصِلها أنفاق وخنادق بالتحصينات وأبراج المراقبة؛ وحولها تجمعات أُسَر الفلاحين، التي يعطى كلُّ امرئ منها بطاقة إثبات شخصية، بالصورة والبصمة؛ وتحدد أوقات الدخول والخروج، عبْر بوابات خاضعة لمراقبة صارمة دقيقة. ووضعت المواد الغذائية في مخازن مشتركة، لتوزع، يومياً، بطريقة الحصص، لمنعهم من تخزينها.
بُدئ بإنشاء القرى الإستراتيجية، في يوليه 1962، في محافظتَي فينه لونج وكوانج نجاي. وفي بداية عام 1963، بدأت المرحلة الثانية، والأوسع؛ فشملت معظم الريف الفيتنامي، وفق الخطة المعَدة، والتي تقضي بإنشاء أكثر من 16 ألف قرية، ونشرها، أولاً، في المناطق الهادئة، ثم في المناطق المتنازع فيها، وأخيراً في المناطق المحررة.))
و تتابع الموسوعة :
(( نُقِل الفلاحون إلى القرى، بطرائق عدة؛ تبدأ بالإغارة على سكان القرية الأصلية وإرهابهم، وإخضاعهم لحملة إعلامية، نفسية، يتبعها نقْل مواد البناء مع الفلاحين، إلى الموقع الجديد. ثم تجري عملية تطويق القرية الجديدة، وبناء النظام الدفاعي عنها. وفي المرحلة الثالثة، تعزَّز الإدارة وبناء المنظمات التابعة، وشبكات التجسس بين الفلاحين. يليها بناء الوحدات: المسلحة وشبه المسلحة؛ ثم أجهزة الإنذار، وإجراء مناورات وتدريبات بمقاومة العمل الفدائي؛ مع تجهيز المكاتب الإدارية، وقاعات المحاضرات، ومخازن التموين، والخدمات.
في الواقع، حمل إنشاء القرى الإستراتيجية كثيراً من الفلاحين على الانحياز إلى الفيتكونج، وتعاطفهم معهم؛ لشعورهم أنهم لا يشكلون أيّ تهديد لهم. واشتدت مشاعر الكراهية للحكومة والسخط على رجالها. وخاب الفلاحون، الذين قبلوا الانضمام إلى جماعات الدفاع الذاتي، لدى رفض الحكومة إمدادهم بالأسلحة. كما أن كثيراً منهم، تعرضوا لاستغلال موظفين رسميين، استرشوهم مقابل حصصهم من السماد، ومياه الري، والرعاية الصحية، والتعليم، والخدمات الأخرى ))
و تتابع الموسوعة :
(( شملت الخطوة الأخيرة العمل في الجبهة الداخلية للقرية؛ لمطاردة الشيوعيين وأنصارهم، والوطنيين، والمشتبه فيهم، واستجوابهم، وتعذيبهم، والقضاء عليهم. وتشكلت قوات: مسلحة وشبه مسلحة، اشتملت على وحدات مقاتلة للدفاع الذاتي، مسلحة برشاشات وقنابل يدوية، وأعضاؤها من الشباب الجمهوري؛ ثم وحدة أخرى من الشباب المدافع، ضمت جماعات لزرع الخوازيق والألغام، وجمع المعلومات، والاتصال؛ ثم وحدة إسعاف أو وحدة تمريض؛ ووحدة إمداد. ونُظم بقية الرجال القادرين في جماعات الدفاع الذاتي الشعبية، للمساعدة على أعمال الحراسة، وخدمة الوحدات الأخرى، أثناء الاشتباكات. وتولت قيادة هذه الوحدات اللجنة الإدارية للقرية، وهي تتبع، إدارياً، اللجنة الخاصة ببناء القرى على مستوى الإقليم؛ وتتبع، عسكرياً، جهاز تفتيش القرى الإستراتيجية.
أمّا في المناطق الجبلية، فلم ينفذ نظام القرى الإستراتيجية، بل أنشئت معسكرات تجمّع، أجبرت الأقليات القومية على إنشائها، والإقامة بها. وقد تعرضت لحملات قمع وإرهاب متواصلة، بحثاً عن الشيوعيين.))
تقوم فكرة حرب العصابات على أن مقاتل حرب العصابات يسبح في المجتمع كما يسبح السمك في الماء، لذلك اعتمدت استراتيجية مجابهة حروب العصابات على ما يسمى بسياسة تجفيف الماء حول السمك، أي عزل مقاتل حرب العصابات عن المجتمع و هذا يأخذ أشكالاً متنوعة هي مزيج من سياسة العصا و الجزرة، تبدأ بمحاولة استمالة السكان وصولاً إلى فرض العقوبات الجماعية عليهم و ترهيبهم و تنفيذ الاعتقالات و الإعدامات الجماعية. و كل ذلك نفذ في العراق و فشل فلم يبق إلا الحل الأخير و هو عزل المقاتلين عن السكان فيزيولوجياً. أي ببناء الجدران و الأسلاك الشائكة حول التجمعات السكنية.
كانت حرب العصابات التي خاضها الفيت كونغ في فيتنام ضد القوات الأمريكية حرب أرياف . لذلك انصب الجهد العسكري الأمريكي في الغابات و القرى و الحقول فنفذوا برنامج القرى الاستراتيجية . أما حرب العصابات في العراق فطابعها الأساسي حرب مدن و من هنا يتم بناء الأسوار و الجدران حول المدن لتحويلها إلى معتقلات كبيرة و لعزل السمك عن الماء ، كما يتوهم الأمريكي ، و ربما سيسمونها "برنامج المدن الإستراتيجية ". و هذه ليست المرة الأولى التي يلجأ الأمريكان إلى هذا الأسلوب في العراق فقد اتبعوه في الفلوجة بعد المعركة الثانية، كما أنهم أحاطوا تل عفر بحاجز ترابي كبير و أسلاك شائكة و جعلوا الدخول و الخروج من أماكن محددة . لكن لأن الأعظمية في قلب بغداد فقد حصلت على اهتمام أكبر من الفلوجة و تل عفر فكان أن شوه الأمريكان صياغة الخبر .و بدل أن يقولوا إن جدار الأعظمية هو لمحاربة المقاومة، و الأعظمية معقل أساسي لها، قالوا إنها لحماية الأعظمية من العنف الطائفي. إنها سياسة قلب معاني رهيبة.
فشلت هذه الخطة في الفلوجة و في تل عفر فقد استمرت المقاومة . و بالطبع ستفشل في الأعظمية لأن مقاتل حرب العصابات ليس جندي نظامياً، بل هو من السكان و يذوب فيهم، كل ما ستفعله هذه الجدران أنها ستزيد المعاناة الإنسانية و ستزيد حجم الحقد على الجيش الأمريكي و بالتالي ستزيد اشتعال المقاومة.
في نفس يوم خبر الجدار حول الأعظمية، هناك خبر عن زيارة غيتس وزير الدفاع الأمريكي إلى بغداد و تصريحاته عن أن خطة بغداد الأمنية هي الفرصة الأخيرة. انتبهوا : الفرصة الأخيرة لتفادي الحرب الطائفية . و سرعان ما تلقفت وسائل الإعلام هذا التصريح و وزعته كخبر أساسي. ثم تلقفه بعض الكتاب العرب الجاهزين دائماً لتلقف هذه الأخبار فكتبوا مقالات و افتتاحيات عن الحرب الطائفية القادمة إن فشلت خطة بغداد. بالطبع هذا الكلام لا أساس له من الصحة فالحقيقة إن خطة بغداد هي الفرصة الأخيرة للاحتلال الأمريكي قبل إعلان هزيمته ، و ليس لتفادي الحرب الطائفية .
الجمل
إضافة تعليق جديد