«أبو خليل القباني»أحرق مسرحه فبقي خالداً.. وبيته صار قصراً ومَعْلماً …
قبل ظهور رائد المسرح العربي والسوري أحمد أبو خليل القباني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عرفت المدن السورية فن خيال الظل الذي وصل إلى بلادنا من الشرق الأقصى كما تشير بعض الوثائق، وكان يتكون من بعض الدمى التي تتحرك على منصة خشبية بسيطة ويقود العرض شخص يسمى المخايل يقوم بتغيير صوته حسب الشخصيات والحوار، وكانت شخصيتا كراكوز وعيواظ هما الشخصيتان الأشهر في عروض خيال الظل، وكانت ترافق هذه العروض جوقة موسيقية صغيرة مؤلفة من ثلاثة عازفين.
وفي الحديث عن أبو خليل القباني أقامت مديرية المسارح والموسيقا أمسية غنائية من ألحان أبو خليل القباني رائد المسرح الغنائي العربي بقيادة نزيه أسعد بمشاركة فرقة أمية للفنون الشعبية على مسرح الحمراء، وندوة بعنوان «أبو خليل القباني سيرة حياة وفن» على مسرح القباني.
المرحلة الدمشقية
ولِد القباني في العام 1833 وأتقن صغيراً أكثر من لغة أجنبية، أبرزها التركية وهو الأمر الذي ساعده فيما بعد عندما نهل مواضيع بعض أعماله المسرحية من الآداب المترجمة، تحت عنوان «القباني والمرحلة السورية» تحدث الكاتب والناقد المسرحي الأستاذ جوان جان الأستاذ جوان جان:
ويمكن اعتبار العام 1870 عام الانطلاقة الحقيقية للحركة المسرحية في سورية عندما فكر القباني بتحويل شخصيات مسرح الخيال التي يؤديها ممثل واحد بأصوات مختلفة إلى شخصيات من لحم ودم يؤديها عدة ممثلين، فعرض الفكرة على أصدقائه المقربين الذين شجعوه وتعهدوا بمساعدته، وكان الخيار كتابة أعمال تستمد موضوعاتها من التاريخ العربي والحكايات التراثية المليئة بالحِكَم والعِبَر الأمر الذي يعني أن القباني كان واعياً ومدركاً منذ البداية للدور التوعوي والتنويري والأخلاقي الذي يمكن لفن المسرح أن يلعبه في حياة الناس وتطوير المجتمعات، كما كان مدركاً أن مزج هذه الحكايات المليئة بالمواعظ بشيء من الغناء والرقص كان كفيلاً بتقريبها من جميع الأذواق، فكان المؤسس الأول للمسرح الغنائي العربي.
بالتوازي مع ذلك كانت هناك فرقة مسرحية فرنسية تقدم عروضها في إحدى مدارس دمشق وكان القباني يتابع عروضها باهتمام، الأمر الذي ساعده على تكوين صورة واضحة عن ماهية العرض المسرحي وعناصره من أزياء ومكياج وغناء وديكور.
بدأت رحلة القباني المسرحية الإبداعية في أحياء دمشق ومقاهيها عندما راح يتردد على هذه المقاهي ويتابع عروض خيال الظل فتأثر بها وبقيت تفاصيلها في ذاكرته، ولمّا لاحت ميول القباني جلية في اهتماماته طرده والده من المنزل بضغط من بعض الشخصيات الدينية، علماً أن القباني كان من حفظة القرآن الكريم. وفي مرحلة لاحقة شكل القباني تجمّعاً فنياً درامياً موسيقياً مؤلّفاً من أصدقائه، وبعضهم من المنشدين المعروفين، وفي العام 1871 أكمل إنجاز أول عروضه المسرحية «ناكر الجميل» وكان ذلك بطلب وتشجيع من الوالي صبحي باشا، كما لقي القباني رعاية لمسرحه وفنه في فترة لاحقة من الوالي مدحت باشا، وقد انعكس هذا الدعم إيجابياً على مسيرته المسرحية قبل أن تنتهي هذه الفترة القصيرة على طولها من الدعم والرعاية التي أتت تتويجاً لسعي القباني نحو إرساء مسرح ذي فكر تنويري من جهة، وإصرار الوالي مدحت باشا على بث روح جديدة في الحياة الاجتماعية الدمشقية في تفاصيلها اليومية من جهة أخرى، وقد سارع مدحت باشا إلى الطلب من القباني تشكيل فرقة مسرحية تقدم أعمالاً ذات طابع اجتماعي تربوي، وقد خصص مدحت باشا للفرقة مبلغاً مالياً جيداً كان كفيلاً بالنهوض بعمل الفرقة منذ بداياتها، فكان العمل المسرحي المتميز الذي قدمته الفرقة «الأمير محمود نجل شاه العجم» التي نالت إعجاب الوالي.
ومن المسرحيات المهمة التي قدمها القباني أيضاً مسرحية بعنوان «وضاح» قيل إنه أنجزها في ثلاثة أيام وتم تقديمها في كازينو الطليان في منطقة باب الجابية، وقد تنقل القباني في عروضه المسرحية في أحياء دمشق القديمة ما بين كازينو الطليان وخان العصرونية وخان الجمرك. وقد ورد في كتاب الموسيقا الشرقية للفنان المصري كامل الخلعي الفقرة التالية التي تصف حال العروض المسرحية التي كان يقدمها القباني وجمهور هذه العروض:
«كان مسرحه مورداً عذباً يؤمه الكبراء والأمراء والشعراء والأدباء لمشاهدة رواياته وجلّها من منشآته لما جمعت بين جزالة الألفاظ وعذوبتها ورقة المعاني ودقتها، أُرهفت نواحيها بالتهذيب وطُرزت حواشيها بكل فكر غريب.. شهد بحسنها الكثير من أئمة البلاغة ومتقني صناعة الصياغة». واعتمد القباني في مصادر النصوص المسرحية التي كتبها على حكايات الكتاب الشهير «ألف ليلة وليلة» وعلى أشعار الشعراء القدامى مثل البحتري وقيس بن الملوح وعنترة بن شداد وعلى كتب الأدب المختلفة مثل «اللطائف والظرائف» و«مقامات الحريري» و«وفيات الأعيان». كما اعتمد القباني في أعماله المسرحية على شخصيات الحكام والأمراء والوزراء، وعلى موضوعة الحب بشكل أساسي، ويقوم بنفسه بمهام الكتابة والإخراج والتمثيل والتلحين والغناء وتصميم المناظر والملابس، وأصدر القباني بيانين مسرحيين حول فن التمثيل ووظيفته الاجتماعية الأمر الذي يعكس وعيه لدور المسرح في الحياة العامة.
المرحلة المصرية
يعتقد البعض أن شخصية أبو خليل القباني تحدث عنها الكثير وأخذ حقه، لكن في معاييرها الفنية هي دروس حقيقية لكل العاملين في المسرح لغاية اليوم، وبدوره تحدث د. تامر العربيد عن الفترة المهمة للقباني في القاهرة:
في الحقيقة هذه الفترة فيها من المواقف والمعايير والتحولات الفنية في مشروع القباني المسرحي، وبدأت منذ وجوده في دمشق حيث كانت أخبار القباني تصل إلى القاهرة، وأثناء تواجده في دمشق تعرف على المطرب المصري عبده الحامولي، وقدم عرضاً له بالانتقال إلى القاهرة ليتوسع بمشروعه أكثر وفي مصر من ينتظر مثل هذا المشروع، وفي مرحلة الاكتئاب والعزلة عن المجتمع واحتراق المسرح في دمشق كانت الأمور مواتية بوجود قناعة بأن مشروعه يجب أن يكمله، وقرر السفر إلى مصر من خلال مراسلة صديق له يسكن في الإسكندرية هو حلابو الحمصي سعد الدين أو سعد اللـه حلابو.
السفرة الأولى التي خطاها القباني إلى مصر كانت إلى الإسكندرية عام 1884 وبدأ فيها العمل على كيفية إنشاء مسرح وعاد إلى دمشق وأحضر فرقته على سفينة، وقوبل وصول الفرقة بالكثير من الاهتمام والترحاب إلى درجة أن غطت صحيفة الأهرام المصرية قدوم الفرقة وافتتاح العرض الأول الذي كان بعنوان «أنيس الجليس»، وخلال فترة أربعة أشهر قدم الكثير من العروض، وبدأت الأخبار عنه تنتشر وأثبت حضوره في الإسكندرية، وكان القباني يمتلك القدرة على الإنتاج المسرحي وطرح المواضيع التي تلاقي الذائقة عند الناس، ونالت عروضه الكثير من القبول والإعجاب وعلى أثرها توسع المشروع باتجاه القاهرة، وأعجب الخديوي بمشروع القباني وقدم له أرضاً بمنطقة العتبة الخضراء لإقامة مسرح عليها، ويعتبر انتقال القباني إلى القاهرة نوعاً من التجديد والحضور النوعي، وحرك المياه الراكدة في الحالة الثقافية والمسرحية لما خلقه من جمهور كبير وروح المنافسة والحسد والغيرة ويمكن الاستدلال على ذلك بعد حرق المسرح.
وانتقل بعدها القباني إلى القاهرة في عرض «أنيس الجليس»، وكان يأتي إلى دمشق في كل فترة ليحضر ممثلين وراقصين جدداً، وفي فترة وجوده يمكن التوقف عند علاقته مع إسكندر فرح الذي كان على رأس الفرقة أثناء سفره وكان بينهما تناغم وتعاون كبير وشكل الانفصال بينهما الكثير من علامات الاستفهام، ويمكن فهمها عندما شكل الأخير فرقة مع سلامي حجازي ودفعوا الكثير من الشباب لدخول فرقة القباني لتعلم رقصة السماح والموشحات عند القباني، بمعنى أن القباني كان المقياس والمعيار لتعلم طريقته وأساليب أدائه على خشبة المسرح. كانت عروض القباني موضع اهتمام الثقافة وتقام ندوات للحديث عن أهمية التمثيل ودوره في رفع الذائقة الفنية، فالقباني ليس مجرد شخص مسرحي بقدر ما كان شخصاً لديه مشروع ثقافي وقد احتل اسمه أهم الصحف في القاهرة.
القباني في شيكاغو
وعرض مدير الندوة الأستاذ أحمد بوبس فيلماً قصيراً عن منزل أبو خليل القباني في منطقة كيوان، وطالب الكثير بإعادة ترميم البيت ولكن لم يجد لهذا الطلب صدى، وبدوره تحدث عن القباني ورحلة شيكاغو:
شارك أبو خليل القباني في معرض كريستوف كولومبوس العالمي، هذه الرحلة ظلت بين شك ويقين إلى أن ظهرت وثيقتان تؤكد حقيقة مشاركة القباني في شيكاغو بثلاثة عروض، والوثيقة الأولى هي دليل المعرض الذي وزع على الجمهور وفيها ثمانية عروض باسم الدولة العثمانية، «العرس الدمشقي» الذي احتوى على العراضة الدمشقية بكل تفاصيلها وأزيائها ومسرحيتي «هارون الرشيد» و«عنترة بن شداد»، والوثيقة الثانية هو كتاب صدر في الأردن بعنوان «من دمشق إلى شيكاغو» لمؤلفه تيسير خلف، وهو وثيقة مهمة لرحلة القباني إلى شيكاغو من خلال الصور وما تحدثت عنه الصحافة الأميركية عن عرضه، والمعرض أقيم لمدة ستة أشهر من أول أيار 1893 إلى تشرين الأول وشاركت فيه دول كثيرة، والدولة العثمانية قامت بإنشاء القرية التركية تتضمن عدة منشآت ومنها المسرح الذي كان يسمى بـ«مرسح العادات الشعبية»، وأقيم بناء جميل سمي بالقصر الدمشقي وكان مكان إقامة الفرق المشاركة في المهرجان.
جُمان بركات
إضافة تعليق جديد