الفنان السوري صفوان داحول يفوز بجائزة «إعمار»
حصل الفنان التشكيلي السوري الدكتور «صفوان داحول» مؤخراً على الجائزة الأولى في التصوير وذلك في ملتقى «إعمار» الدولي الذي شهدته مدينة «دبي» بدولة الامارات العربية المتحدة بمشاركة 61 فناناً وفنانة جاؤوا من دول عربية وأجنبية عديدة كما حققت احدى لوحاته رقماً قياسياً في المزاد الثاني لدار «كريستيز» الذي جرى في «دبي» قبل مدة قصيرة ما يؤكد ثراء تجربته الفنية وتطورها المتصاعد ومن ثم نضجها والحقيقة تحضر هذه الأيام تجربة الفنان داحول بكثير من البهاء والفاعلية والتفرد في ساحة التصوير السوري الحديث مشكلة بذلك ملمحاً أساسياً منه يحتضن حالة انسانية شفيفة تعكسها بعمق لغة تشكيلية مواكبة.
فالفنان داحول القادم من مدينة السلمية والمولود في حماه عام 1961 درس التصوير في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق وتخرج فيها عام 1983 تابع دراسته وحصل على درجة الدبلوم من الكلية نفسها، عين معيداً في قسم التصوير بالكلية ثم أوفد الى العاصمة البلجيكية بروكسل فحصل على درجة الدكتوراه في الفنون وعاد ليعمل مدرساً في قسم التصوير بكلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق اعتباراً من العام 1997، أقام العديد من المعارض الفردية داخل سورية وخارجها وهو مشارك دائم في المعارض الجماعية والدورية.
بعد متابعة متواصلة لتجربته مذ كان طالباً في محترفات كلية الفنون الجميلة بدمشق وحتى مشاركاته الأخيرة في عدة بيناليات ومعارض جماعيةعدة أقيمت في أكثر من مدينة سورية وعربية أستطيع التأكيد ان لوحة صفوان داحول أصبحت اليوم تمتلك جملة من المقومات والمرجعيات البصرية المتفردة التي لا تزال تتحرك ضمنها منذ امتلكت ملامح تفردها الأولى وحتى اليوم رغم تلون مصادر ثقافة صفوان الفنية التي ابتدأت في دمشق وانتهت في العاصمة البلجيكية «بروكسل» وقبل هذا وذاك، الاعجاب والولع اللذان قاداه الى خصائص ومقومات المرحلة الأخيرة من تجربة الفنان التشكيلي السوري الراحل «لؤي كيالي» التي كرسها لموضوعات انسانية شفيفة وبسيطة ولصيغة تشكيلية جديدة على تجربته تفردت بجمل من الخصائص منها قلة الألوان وشفافيتها وحضور الرسم «الخط» وقوة التعبير رغم بساطة المفردة التشكيلية التي اتكأ عليها.
فصفوان الذي اتقن تصوير حزنه الشاعري الصامت القادم من حالة وجد رقيقة يعيشها مع أسرته وموجودات بيته بكثير من الحميمية والصدق والتماهي اللافت بين الهم الشخصي والهم الجمعي، وبالتالي التعبير عنه بلغة بصرية مختزلة وبسيطة قوامها الشكل الانساني الذي لم يجهد نفسه كثيراً في البحث عن هيكليته وملامحه وانما أخذه من المحيط الأقرب اليه: من بيته الصغير فكان هو وزوجته المادة الرئيسة للوحته التي غاب هو عن أغلبيتها مؤخراً لتقتصر على امرأة ذات ملامح واحدة وتعبير واحد أيضاً!!
وقد اقتصرت أغلبية لوحاته الأخيرة التي قدمها في أكثر من معرض فردي جماعي داخل سورية وخارجها على المرأة المفردة وهي اما جالسة فوق كرسي وأحياناً فوق كرسيين واما فوق كنبة أو خوان أو فوق المسامير كما في حالة الفقير الهندي.
وهذه المرأة في غالبية لوحاته متجمعة على بعضها غارقة بحزنها النبيل وصمتها البليغ و انتظارها الملول الذي لم يقتله «ورق اللعب» ولا محاولة الاغفاء والتغلغل في متع الحلم ولذائذه لقد ظلت هذه المرأة وفي الحالات والوضعيات كلها مسكونة باليقظة والنظرة المنكسرة تحاول الارتخاء ودخول منعرجات الحلم والتخيل لكن دون جدوى بدليل الحركة النزقة لأصابع يدها المحفوفة بالرقة والعذوبة والانفعال في آن معاً.
وهذه الأكف والأصابع المتميزة الشكل والحركة والمبالغ في طولها ورفعها عناصر تشكيلية وتعبيرية مهمة في لوحة صفوان داحول فمن خلالها يحرك مساحات مصمتة وواسعة فيها وباختفاء هذه الأكف تحت الثوب أو أي عنصر آخر فيها تهدأ اللوحة وتصمت ذلك لأن صفوان يعتمد على أقل ما يمكن من الألوان في عملية بناء عمارتها وعلى القليل من المفردات والرموز أيضاً.
في لوحته الأخيرة ازدادت هذه المفردات والعناصر والرموز قلة وازدادت الألوان كموداً وقتامة فاللون الأسود المعجون بالقليل من البني والجنزاري والكحلي هو السائد والمسيطر على بنية اللوحة وعناصرها رغم وجود بؤر ضوئية كثيرة يحرص صفوان على نثرها في أكثر من موضع في جسد اللوحة.
هنا يمكن التأكيد على أن الفنان صفوان داحول لا يعول كثيراً على اللون في البناء التشكيلي والتعبيري للوحته انما على الرسم القوي الحاضن لعناصرها وألوانها باحكام والرسم عنده وسيلة رئيسة وأساسية في نهوض هذا البناء فمن خلاله يبني هيكلية عناصر لوحته وشخوصها وبه يعبر أيضاً!!..
يقول صفوان ان الخط بالنسبة له عنصر أساس في لوحته يساعده في اختصار ما يريد قوله وهو ولع بالخط ويقترب من خلاله أكثر باللوحة وبشيء من المودة والتوحد.
أما حول اللون فيقول انه استخدم ربما جميع الألوان لكن دون أن يتمكن من وضع تفسير مقنع لاستخدامه هذا اللون دون ذاك وأحياناً كثيرة يجد نفسه أسيراً لهذا اللون معتقداً أنها مرحلة أو فترة لكن مع ذلك يبدو عاجزاً تماماً عن تفسير سر هذا الهوى أو الميل مما يعزز القناعة لديه ان حب لون أكثر من غيره هي حالة لا إرادية..
في المراحل المبكرة من تجربته قدم الفنان داحول شخوصه عارية مختزلة لوناً وملمساً أما في أعماله الأخيرة فالمرأة لديه لابسة أو متدثرة، في الحالة الأولى يقتصر التكوين عليها وعلى ثوبها اللصيق بجسدها الغارق بالصمت والسكون والانكماش وفي الحالة الثانية يتحرك التكوين من خلال التجعدات والثنيات الكثيرة التي أحدثها في القماش وفي الحالتين نجد أنفسنا أمام كتلة متماسكة الشكل مؤطرة السطوح انسيابية العناصر متصلة الكتل قوية الحضور في فراغ اللوحة مما يقربها كثيراً من المنحوتة التي يرتد كل شيء فيها نحو الداخل وهذه الخصائص مجتمعة تفردت بها لوحة صفوان منذ وصلت تجربته الى المرحلة التي قارب فيها تجربة الراحل لؤي كيالي أواخر حياته، هذه التجربة التي أحبها صفوان وتعلق بها الى حد كبير من جانب آخر فإن هذه الخصيصة التشكيلية البارزة في لوحته الأخيرة تشير بشكل أو بآخر الى ولعه بفن النحت وليس غريباً ان يكون مسكوناً بنحات ينتظر فرصته ليأخذ طريقه الى التعبير المجسم وهذه حقيقة أكدها لي صفوان الذي التزم منذ البدايات الأولى لتجربته الفنية التعبير عن جوانية الانسان وأزماته التي بألف شكل ولون، بدأ من الخواء الداخلي وحصارات الروح وبرودة العصر وفراغ الحياة ورتابتها وسطوة العادة والتعود ووحدة المرأة وانعزاليتها وحزنها النبيل الصامت والتصاقها الأزلي بالأطفال والأرض والوطن وموجودات البيت وانتهاء بالتحديات المختلفة والملتبسة التي يفرزها عصرنا كل يوم تحت هذا العنوان أو ذاك.
يقول صفوان بأنه يجد نفسه دائماً أمام هذا الموضوع لأنه يلامسه وما يهمه فيه الآن كيف يمكنه الدخول أكثر فأكثر في فهمه وأن تكون المرأة موجودة فهذا يعني انه يتحدث عن وضع المرأة كما ظهر للبعض فهي موجودة كي تروي الحلم. أي أنها الرواية لهذا الحلم ،والمرأة ليست الحدث واما الشاهد فهي تروي على طريقتها والمهم ان يستطيع ايصال ما يريد قوله وما يرسمه كموضوع «وهو حالة حلم انساني» من خلال وجهة نظر شخصية، والحزن الذي يتقن صفوان التعبير عنه في لوحاته هو حزن القديسين والشعراء والفنانين والناس الذين يملكون حساسية عالية تجاه القاتم والشاذ والعاطل من الحياة وتجاه عذابات البشر التي تطول الروح وتعصر القلب وتميت الأحاسيس وموضوعات شفيفة وحميمة كهذه لا يمكن التعبير عنها إلا بالانسان ومن خلاله وهذا ما يفسر لنا اعتماده على الهيكلية الانسانية كعنصر أساس في عمارة لوحته وأدوات تعبيره. ولأن موضوع الفنان صفوان داحول يرتبط مباشرة بخواء الروح الانسانية وعزلتها جاءت ألوانه على قدر كبير من القتامة والحزن لكنها القتامة غير اليائسة بل المضاءة بالأمل والحزن الايجابي المطهم بالفرح.
الارتداد الى الداخل في تجربته وسيلة لالتقاط الخارج بشغبه وتناقضاته وسخونته وبالتالي هو طريقة لتمتين عملية اتصال الفنان به وادراكه بعمق وشمولية ومن ثم نقله الى لوحته التي تعكس بأمانة هذا الموضوع الشفيف والحميمي وتعكس في الوقت نفسه شفافية ورقة ورومانسية صفوان هذا العاشق المدنف للحزن الصامت النبيل!!
د. محمود شاهين
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد