هالا محمد تلاحق طيف الماغوط
لو لم يُسجن محمد الماغوط عام 1955 بعد مقتل العقيد المالكي، واتهام بعض عناصر الحزب الذي كان ينتمي له الماغوط وقضائه فيه ستة أشهر مع الكثيرين غيره.
الأمر الذي اعتبره بداية المعاناة والخوف والشك والعزلة التي لاحقته حتى النهاية، هل كان «حزن في ضوء القمر» و.. هل كان عاش في «غرفة بملايين الجدران»؟.. الماغوط نفسه يؤكد هذا الأمر في أكثر من مناسبة: «كانت التجربة سبباً في انفتاحي على موهبتي وجعلتني شاعراً دون أن أدري!!..
هذا السجن الذي له «شروش» حسب وصف الماغوط، شروش تصل الى القصيدة وهي عنده ـ كما تلمسنا ذلك في فيلم هالا محمد «إذا تعب قاسيون» ـ تغذيها.
ربما هذا ما حاولت مخرجة الفيلم الشاعرة هالامحمد ان تترصده في حياة الشاعر وذلك لتدينه ـ السجن ـ وإذ يذهب الأمر باتجاه آخر ـ وهذا رأي شخصي ـ فكان أن جمّل السجن وصار باعثاً ابداعياً عندما لاحقت الماغوط في غرفة بملايين المشاهد، هي بيته في دمشق الذي عاش فيه بقية السنين من حياته!!.
على مشهد خارجي لقاسيون تفتح هالا محمد عدستها ثم تنزل صوب ضجيج المدينة وبعدها باتجاه المدينة القديمة في باب توما، على وقع صوت الماغوط المتهدج «إذا تعبت رأسي ألقي به على كتف قاسيون، لكن اذا تعب قاسيون فعلى أي كتف يضع رأسه» ثم أغنيته لباب توما «حلوة عيون النساء في باب توما
وهي ترنو حزينة الى الليل والخبز والسكارى»..
صحيح ان الماغوط في فيلم «إذا تعب قاسيون» لم يقل شيئاً جديداً وأعاد قصصه المكرورة مع السجن والجوع و الخوف، أصدقائه المستمرين منذ يوم مولده، لكن وكما قصائد الماغوط التي تدهش في «التراكيب» التي تأتي بكل بريتها غير المدجنة يلتقطها من تفاصيل الحياة، مع أنها أمام الجميع لكن وحده له شرف «التقاطها» أقول: كما هذه التراكيب المدهشة جاءت أيضاً المشاهد واللقطات البعيدة والقريبة لتقول تجربة هذا الرجل في خمسين دقيقة، هذه الحياة التي يقول عنها الماغوط نفسه تلخص بخمس دقائق، عين هالا محمد هي التي أعطت إذاً الدهشة للحكاية المعروفة، وبدا محمد الماغوط ممثلاً كبيراً أمام عدستها يلوّن في المواقف المقدمة من أقصى التراجيديا الى أقصى الكوميديا، هذا الأمر بدا في تفاعله مع الحضور ـ المشاهدين للفيلم في صالة المركز الثقافي الفرنسي في دمشق في ختام اسبوعي الفيلم العربي ـ الفرنسي ـ مؤخراً عندما كان الماغوط يفجر المواقف الكوميدية بالمفارقة المدهشة في تفاصيل الحكاية ثم يكوّع باتجاه المرارة تارة أخرى.
في هذا الفيلم حاولت هالا محمد أن تقدم محمد الماغوط النزق والشكاك، البرّي غير المدجن في «أنا هيك!..» عبارته التي يكررها في أكثر من مشهد!!..
لكن رغم البرية كان ثمة أوطان لهذا الذي يقدم نفسه دائماً كطفل متمرد «أنا وطناً، وهيك» فتبدو القصيدة وطناً، البيت وطناً، الشارع والأرصفة و.. حتى السجن مفردات بدت كالأوطان، ورغم ذلك بدا الماغوط «كجدٍّ لكل من في الأرض» كما يقول بحب دون أحقاد أو رغبة في الانتقام.. الماغوط الذي شاهد الفيلم يوم الجمعة بعد تردد من المخرجة خوفاً من اجراء اي تعديل كما تذكر وهو رحل يوم الأحد تقول: أول ما شاف قاسيون وضجة المدينة بكى وقال: «هذه سورية وهؤلاء نحن السوريين».. كان يضحك على المواقف الضاحكة ويبكي من المشاهد المؤلمة، فقدمت بذلك قصصاً مفتوحة «هيك» كما كان يقول الشاعر عن نفسه «أنا هيك»..
بمقاطع من شعر الماغوط تتخلل الفيلم تؤكد انه من خلالها ـ القصائد ـ استطاع ان يبرهن الشاعر على مشروعية كاملة لإنتاجه الثقافي، مقدماً اللغة العربية التي لم يعرف غيرها من اللغات «لغة عادية، يومية، مفعمة بنبض الواقع، دون أن تفقد شحنتها الشعرية».. قدمها تحديداً في تمام الساعة السادسة من القرن العشرين حيث لا شيء يفصل جثث الموتى عن أحذية المارة سوى الاسفلت».. مصراً ان تبقى حاجباً على بوابة الحزن.. ذلك لأن لحظة الفرح ـ كما يذكر ـ لا تجعله يكتب، قاسياً على دمشق تارة وطوراً حانياً عليها تماماً كطفل عنيد يلطم أمه بعنف ثم يحشر نفسه في حضنها.. التناقض سمته فهو يموت من الخوف، لكنه أيضاً يتحدى، يخاف الخوف ولكن لا يخاف الموت فهو صديقه يلعب معه لعبة «الطاولة» أليس هو من يقول «ما أكتبه في الصباح أشمئز منه في المساء، من أصافحه في التاسعة/ اشتهي قتله في العاشرة»..
رغم أن هالا محمد «حاصرت» الماغوط في غرفة واحدة بيته، ولم تنطلق بالكاميرا بعيداً إلا في المشاهد القليلة قبل دخول المنزل؛ لكنها كانت غرفة بملايين المشاهد واللقطات المتوالدة والموحية حيث بدت الغرفة وطناً ومن كان لم يتحمل نزق الماغوط لأكثر من ثلاث دقائق أجبرته عدسة هالا محمد لأن «يسترخي» طوال الخمسين دقيقة مدة الفيلم، يلاحق تفاصيل هذه الحياة بكل تراجيديتها وملهاتها الملخّصة في خمسين دقيقة التي بدت حياة كاملة فما لم يقله الماغوط استطاعت عين الكاميرا ان تضيفه بتركيزها على تفاصيل المكان وأشيائه: لوحات، منافض، كأس مترعة، وتبغ.. حركات الرجل بين الجلوس والاضطجاع والمشي والنوم و.. حتى الشخير!!.. وحتى يتعب الماغوط لكن لم يتعب قاسيون و.. ولم تتعب القصيدة، وان كانت الأخيرة بحاجة دائماً لكتف تسند اليه رأسها!!..
علي الراعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد