المسلسلات الدينية تحتفي بالأئمة وتغيّب المتصوفة والعلماء
لن نعثر في أرشيف الدراما العربية على مسلسلات تناولت سيرة متصوّفة أو علماء عرب ومسلمين، إذ واظبت هذه النوعية من الأعمال على تصدير شخصيات الصحابة والخلفاء والولاة ورجال الدين، منتهجةً تعقيم سيَرهم وتقديمهم في الإطار الدرامي التقليدي. فمنذ المسلسل المصري الشهير في العام 1978 «على هامش السيرة» (سيناريو أمينة الصاوي وإخراج أحمد طنطاوي)، توالت سلسلة من الأعمال تناولت السيرة النبوية وأخبار المسلمين الأوائل في مواجهة «عرب الجاهلية». هكذا لن تكون غريبة استعادة سيرة الإمام أحمد ابن حنبل في مسلسل حمل الاسم نفسه يختتم الآن عمليات تصويره في لبنان وتركيا، بعد أن لقي صعوبات كثيرة في إيجاد أماكن تصوير بديلة في كل من المغرب والهند.
العمل المنتظر عرضه في رمضان 2017 على تلفزيون «أبو ظبي»، أنتجته كل من شركتي «البراق» القطرية، و(D&B) التركية، ويموله تلفزيون قطر الرسمي. يأتي «ابن حنبل» المعروف بمذهبه المتشدد بين الأئمة الأربعة (الشافعي والحنفي والمالكي) والذي أخذ عنه الإمام «ابن تيمية» أفكاره في مواجهة فرق الصوفية والمعتزلة وتكفيرهم تحت طائلة: «مَن تمنطق تزندق»، بعد سلسلة أعمال انتهجت الطريقة نفسها في حرف المسلسل التاريخي السوري الذي ازدهر بعد فورة الفضائيات مطلع تسعينيات القرن الفائت.
تغيّرت البدايات المضيئة اليوم لأعمال تاريخية أنتجها التلفزيون السوري (مستقل ومشترك) وكانت ذات سياق نقدي وتنويري من مثل «الزبّاء» لغسان جبري و«دليلة والزيبق» لشكيب غنام، و «الذئاب» لعلاء الدين كوكش و«العبابيد ـ زنوبيا» لبسام الملا.
مع دخول شركات القطاع الخاص على الخط، انحرفت هذه الإنتاجات برمتها نحو المسلسل الديني تزامناً مع رغبة فضائيات عربية في إعادة الترويج لشخصيات إشكالية في التاريخ الإسلامي. انتجت نسختان من «صلاح الدين الأيوبي» لكل من حاتم علي ونجدة إسماعيل أنزور، وكذلك الأمر بالنسبة لـ «خالد ابن الوليد» لكل من غسان عبد الله ومحمد عزيزية، حقق هذا الأخير أعمالاً عديدة في هذا السياق كان أبرزها: «الحجاج» و «الظاهر بيبرس» و «صدق وعده» و «سقوط الخلافة» و «خيبر» و «الطريق إلى كابول».
حاتم علي حقق من جهته سلسلة لافتة عن الأندلس (إنتاج شركة السورية الدولية) تجلت في أعمال جريئة تناولت عرب الأندلس على نحو «صقر قريش» و «ربيع قرطبة» و «ملوك الطوائف» ليضع رواية «زمن الخيول البيضاء» لإبراهيم نصر الله في الأدراج، ويتفرّغ لتحقيق مسلسل وفيلم ديني ضخم عن الخليفة عمر بن الخطاب، بعنوان «الفاروق» مبتعداً هو وكاتب العمل وليد سيف عن أي تناول نقدي لسيرة ثاني الخلفاء الراشدين. في المقابل حقق «تلفزيون قطر» أغرب نسخة من المسلسلات ذات الطابع الديني العشائري بعنوان «القعقاع بن عمرو التميمي» من إخراج المثنى صبح، الذي امتثل لرغبة المنتج القطري في تصدير هذه الشخصية المشكوك في وجودها تاريخياً لتبييض صفحة قبيلة بني تميم التي تأخرت في دخول الإسلام.
عاماً بعد عام غابت مسلسلات السيرة الشعبية وشعراء العرب وعلماؤهم التي تبنّت منهجاً نقدياً سواء في الكتابة أو الخيارات الفنية من مثل «الزير سالم» و «أبو زيد الهلالي» و«المتنبي» و«سقف العالم» مروراً بـ«زمان الوصل» و«هولاكو» و«سيف بن ذي يزن» و«عمر الخيام» ليصل بها المطاف إلى جعل أشعار وقصص الشيوخ والأمراء «دراميّة» وإعلاء شأن القبائل ومفردات الغزو والثأر والسبي والزعامة القبلية والقتل على الشبهة من أجل الحبيب والغنائم، كما شاهدنا في «فنجان الدم» للمخرج الليث حجو و «أبواب الغيم» للكاتب عدنان عودة والمخرج حاتم علي أيضاً.
مسلسل «الحسن والحسين ومعاوية» للكاتبين محمد اليساري ومحمد الحسيان وإخراج عبد الباري أبو الخير، كان تصعيداً مباشراً أيضاً في هذا المجال من الإنتاجات الدرامية. افتتح المسلسل مع مجموعة شبيهة من العروض التلفزيونية نوافذَ على الفتنة وتأليب الغرائز الطائفية والمذهبية، مشعلاً جمر حزازات عمرها ألف وأربعمئة عام من حروب الفتوحات والردة والتنافس على الخلافة بعد موت النبيّ، وما ذهب إليه الفقهاء في أحقية الإمارة للمؤمنين.
اللافت هنا هو انكباب المخرجين والكتّاب على هذه الموضوعات من دون أن نلمح عملاً واحداً عن كبار المتصوفة والأدباء في الإسلام من أمثال الحلاج ومحي الدين ابن عربي والسهروردي وابن المقفع والبسطامي والجاحظ والمعري. ظهر في الدراما العربية ما يشبه لوحات تلفزيونية ليس أكثر عن بعض هؤلاء، كان أبرزها مسلسل «ابن سينا» لمخرجه سعيد مرزوق ومسلسل «أعقل المجانين» لمخرجه عبد الغني حمزة، مكتفية بمواقف وأقوال مأثورة للتدليل على فكر الفيلسوف والطبيب الإسلامي. في المقابل خصصت محطات عربية بعينها تمويلاً ضخماً لمسلسلات تستنهض مشاعر التعصب والتطرف والفرقة، في الوقت الذي تنشط فيها محطات دعوية لشيوخ ورجال دين يديرون فتاواهم التحريضية على الهواء مع الجمهور من شرق العالم العربي إلى غربه. تأتي الدراما لتُجهز على ما تبقى من وسطية بين هذا الجمهور، مستنفرةً غرائز عقائدية عن أحقية الإمامة وسواها من دعوات فتنة بين شرائح المشاهدين.
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد