«السلميَّة».. المدينة الحزينة على أبوابها «داعش» والعطش
سلَميّة، هي تلك البقعة الجغرافيّة السورية المتفرّدة بمكوناتها الديموغرافية وأساطيرها التاريخية، هي المدينة الحزينة الجاثمة فوق البؤس والقهر والتي قال عنها ابنها محمد الماغوط إنها طفلة «تعثّرت بطرف أوروبا وهي تلهو بأقراطها الفاطمية.. وشعرها الذهبي، وظلت جاثية وباكية منذ ذلك الحين.. دميتها في البحر وأصابعها في الصحراء».
اليوم لا يبدو حال السلمية أفضل مما كانت عليه في وقت سابق، وإذ لم يكفها التهديد الذي يترصدها من قبل أخطر التنظيمات الإرهابية في العالم «داعش» و«جبهة النصرة»، فإنها فقدت نشاطها السكاني وباتت تعاني من شح حاد في المياه.
الطريق من محافظة اللاذقية إلى السلَمية يمرّ من القدموس وريف حمص الشمالي (تلبيسة والرستن)، ويغلب عليه اللون الأخضر، لتحضر جملة «خضرا يا بلادي خضرا» في بال كل قاصد للمدينة. ما أن تدخل ريف حمص حتى تنتهي رطوبة المدن الساحلية وتبدأ موجة الجفاف مع الشمس الحارقة حتّى محافظة حماه وريفها الشرقي حيث تقع «سلَمية»، لكن لا بأس فالهواء مازال يُسلِّيك ويخبرك الكثير عن طبيعتها الصحراوية.
تبدو الحيّاة في نهار السلمية هادئة جداً، كأن الحرب لم تمرّ من هنا، ولا يعكر صفوها شيء باستثناء غلاء الاسعار وقلّة الحركة في الأسواق التجارية، بالإضافة إلى أصوات مولّدات الكهرباء العالية التي تشي بندرة التيار الكهربائي، وفي هذا السياق تقول المرأة الأربعينية أم زهراء: «قليل ما نشوف الكهرباء، بتجي باليوم ثماني ساعات وخلال هالساعات الثماني بتنقطع 20 مرة».
التجول في السلمية يرضي فضول عشاق «الزمن الجميل»، فالمدينة الصغيرة لم تلحق بركب الحداثة بعد، لا وجود لـ «مولات» (مجمعات تجارية) ولا لشركات كبرى، وفي وسطها هناك قهوة (مقهى) «الجندول» الأثرية التي تعد أحد أبرز معالمها، وهي ذات بناء ترابي ومسوّرة بحجارة زرقاء تمّ ترميمها منذ مدّة قصيرة.
يرتاد هذا المقهى المحاربون القدامى وبعض من بقي من مثقفي المدينة، وتدور على طاولاتها الخشبية العتيقة أحاديث راهنة عن أحوال السياسة وآخر التطورات الميدانية، وعندما يرمي أحد الجالسين «فتيشة» غلاء الأسعار، تعلو التنهدات فوراً وتسمع من يقول: «الخبز صار أغلى من البني آدم، والتنفس حقّه مصاري».
بعد «الجندول» إلى الغرب قليلاً يطلّ شارع «حماه» الرئيسي، شارع ممتد تتركز فيه معظم المحال التجارية والمؤسسات الحكومية وعيادات الأطباء، وهناك يروي صاحب دكان صغير عتيق ويدعى ابو فادي قصّة مشهورة عن سبب تسمية المدينة بـ «السلمية»، فيقول: «سميت بذلك في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي نسبة إلى الأشخاص المئة الذين نجوا من الزلزال الذي حل بمدينة المؤتفكة القريبة منها، وحطوا رحالهم فيها، في البداية دعيت باسم، سَلِم مئة، أي نجا مئة، ليحرّف الاسم فيما بعد» ويصبح على ما هو عليه.
ويضيف أبو فادي متفاخراً بمدينته: «في سلمية شيّدت أوّل مدرسة زراعية في سوريا حيث درس فيها الكثير من الأدباء والمفكرين والشخصيات السياسية أمثال محمد الماغوط ورئيس سوريا العام 1964 أديب الشيشكلي».
أما عن حركة المحال التجارية، فيصفها الرجل الستينيّ بـ «النادرة جداً»، قائلاً بلهجة أهل البلد: «بقعد بالمحل من الصبح الساعة عشرة للمسا الساعة تسعة، يا دوب يفوت زبون وبأحسن الأحوال زبونين».
ولإن ارتبط اسم مدينة السلمية بتواجد الطائفة الاسماعيلية في سوريا، إلّا أن ذلك لم يلغِ يوماً تنوّعها الديني والطائفي والعرقي أيضاً، إذ يعرف أي سوري أن في سلمية تواجد لطوائف ومعتقدات دينية أخرى كالسنة والعلوية والشركس، ويتحدّث أحد رجال المدينة قائلاً: «كان هناك عوائل أرمنية أيضاً لكنها هاجرت منذ مدة طويلة»، مضيفاً «السلمية معروفة بأنها مركز للطائفة الاسماعيلية لكنها متنوعة وغنيّة بمعتقدات أخرى وهذا أبرز ما يميزها».
تمتلك السلمية موقعاً استراتيجياً مهماً في سير معارك الحرب القائمة، خاصة لناحية وجودها وسط سوريا على بعد 33 كيلومتراً من محافظة حماه غرباً، وتبعد 45 كيلومتراً عن حمص جنوباً، وعن الرقة 220 كيلومتراً، وتتصل بالبادية السورية بريف تدمر شرقاً، كما ترتبط مع طريق حلب من الجهة الشمالية الشرقية.
وبعد قطع معظم الطرق الحيوية في سوريا بفعل الحرب الدائرة، شكّلت مدينة السلمية عقدة مواصلات مهمة، وحلّت مكان حمص سابقاً، لذلك بدأت الانظار تتجه إليها وغدت محطّ أطماع الفصائل المسلحة لا سيما «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» (يحاول التنظيمان الارهابيان الهجوم على ريف السلمية الشرقي باستمرار)، ثم صارت تلقب المدينة بـ «شريان سوريا الحيّ»، فالقوافل التجارية كلّها تعبر من «السلمية».
القائد الميداني المرابض على احدى الجبهات غزوان السلموني، أوضح أهمية موقع السلميّة الحالي، قائلاً: «في حال سقطت المدينة، لا سمح الله، تنقسم سوريا إلى ثلاثة أقسام ، بين غرب وشرق، فتصبح حلب وحدها، وحمص وحدها وحماه أيضاً لوحدها».
أكثر من ستة آلاف شهيد
قدّمت المدينة حوالي ستة الاف شهيد من أبنائها، إذ بادر شباب السلمية ورجالها، منذ بداية الحرب، للتطوع في اللجان الشعبية والدفاع الوطني لحماية المدينة وأهلها من أيّ اعتداءٍ، خاصة بعد هجوم «داعش» على محافظة الرقة العام 2013، ولعلّ نقطة القوّة التي تُحسب للمدافعين عنها أنهم دفعوا بالمعارك إلى خارج المدينة باتجاه الريف، لتبقى سلَميّة بعيدة عن الاشتباكات وأخطار القذائف. غير أن ذلك لم يمّنع عنها بعض القذائف، إذ حدث أن دخلت عربات مفخخة مرتين إلى المدينة وأحدثت أضراراً بشرية ومادّية.
الجيش السوري وقوات الدفاع الوطني داخل المدينة بحالة استنفار دائمة على النقاط والجبهات التي يتمركزون فيها بهدف منع سقوط السلمية في يد «داعش» أو في يد «جبهة النصرة».
السلموني يشرح حال الجبهات قائلاً: «نقاط جبهات السلمية عبارة عن أربعة اتجاهات، جنوب شرقي حيث يتواجد تنظيم داعش، وفي الشمال الشرقي، والشمال الغربي، والجنوب الغربي توجد جبهة النصرة، ويسيطران تقريباً على 22 قرية ليست ذات أهمية استراتيجية باستثناء قرية العقيربات».
ويشير إلى أن السلمية وريفها من الجهة الغربية يتصلان بريف حمص الشمالي، ومن الجهة الشمالية والشمالية الشرقية بريفي ادلب وحلب، ومن الجهة الشرقية ببادية تدمر ومحافظة الرقة، موضحاً أن محور سلمية-حلب يشهد اشتباكات مستمرة كونه يعتبر حدودياً مع ريف السلمية الشرقي.
وتابع السلموني، يمتد ريف السلمية الشرقي من قرية البري الى قرية الصبورة والشيخ هلال، وهي مناطق مأهولة بالسكان فضلاً عن كونها خطوط تماس مع «داعش»، الذي حاول منذ فترة الهجوم على خط البترول الكائن في جنوب شرق ريف عقارب، وتمكّن من السيطرة على نقاط عدة لكن تم استرجاعها فيما بعد.
وفي الريف الغربي للمدينة، تدور أشدّ المعارك بين الجيش السوري والقوات الحليفة من جهة، وبين عناصر «جبهة النصرة» من جهة اخرى، وذلك نظراً لاتصاله بالريف الممتد والواصل بمدينتي الرستن وتلبيسة، معقل «جبهة النصرة» الأساسي في ريف حمص.
طريق الموت
وبمناسبة الحديث عن السلمية خلال الحرب، لابد من الإشارة إلى اوتوستراد حلب-سلمية الذي بات يعرف باسم «طريق الموت»، إذ شهد حالات خطف تجاوز عددها الـ 350 حالة بحسب ما أكّده مصدر عسكري. ومع بداية اشتعال المعارك في مدينة حلب شهد الطريق حالات نزوح كبيرة، كونه الطريق الحيوي الوحيد، فتمّ استغلال الوضع من قبل عصابات تسترت بعباءة الزّي العسكري، ونفذت عمليات خطف وتشليح وسرقة.
ويشرح المصدر قائلاً: «يتم الخطف بانتحال صفة أمنيّة أو عسكريّة وفي أكثر الأحيان يحدث عن طريق الحواجز الطيّارة».
لكن هذا الحال لم يدم طويلاً، خصوصاً بعد ارتفاع أصوات الأهالي المطالبة باتخاذ اجراءات صارمة للحد من هذه الظاهرة التي باتت تشكل رعباً لدى العابرين من حلب إلى مناطق أخرى، وعليه فقد أزيلت كلّ الحواجز غير التابعة للجيش السوري، وخصصت قوّة من 250 شخصا للقيام بجولات يوميّة لحماية المواطن من الخطف.
وفي هذا السياق، أوضح المصدر أنه «بعد اتخاذ تلك الاجراءات انخفضت حالات الخطف بنسبة 90 في المئة»، معتبراً أن «تلك الإجراءات ليست طفرة بل مستمرة، ونحن نتواجد على الطريق بشكل دائم لحماية المواطنين».
مدينة الأودية عطشى
لطالما اشتهرت مدينة السلمية بوفرة المياه وانتشار الأودية بين السهول المحيطة بها، لكنها تعاني اليوم من أزمة مياه حادّة عمرها حوالي ست سنوات، وتولّدت الأزمة نتيجة نقص المياه التي كانت تصل من محطة «ضخ القنطرة» الواقعة غرب المدينة، والتي يسيطر عليها مسلحو «الجبهة الاسلامية».
لا تحتــوي مدينــة الماغوط على أيّ مصادر بديلة للمــياه، والازدحام الخانق أمــام مناهــل المياه المنتــشرة داخل المدينة بات مشهــداً مألوفاً عند السكان، إذ تتم تعبئة المناهل بواسطة الصهاريج المنقولة من مدينة حماه عن طريق المؤسسات المانحة مثل مؤسسة «الآغا خان».
وعلى الرغــم من ان وزارة المــوارد المائيــة حَفّرت آباراً عــدة داخل المديــنة، إلا أن ميّاهــها كبريتية ولا تصلــح للشــرب، وقد تم تركيب محطّات تحلية، فباتت تكلفة المتــر المكعب الواحد من المياه ما يقارب الـ 400 ليرة سورية.
يقول احد سكان المدينة ويدعى أبو ماهر: «نضطر لشراء المياه من الصهاريج بأسعار مرتفعة، حيث وصل سعر المتر المكعب من المياه إلى 1200 ليرة سورية، وهذا عبء إضافي علينا يضاف إلى ارتفاع تكلفة الحياة المعيشية، خاصة وأننا لا نملك إلا الراتب الشهري الذي نتقاضاه»، يذكر أنه تم وضع حلول عدة لمعالجة أزمة مياه السلَميّة، إلا أن أغلبها كان من دون جدوى، ومعظم تلك الحلول بقيت حبيسة أدراج الوزارة كما أنها لا ترتقي لمرتبة الحل الجذري.
يبقى أن مساء السلمية لا يشبه نهارها، ولإن كان «شارع حماه» يخلو من المارّة خلال النهار إلّا أن ليله يزدحم بالشباب ممن يقصدون المقاهي والمطاعم للسهر، حتى ولو كانت الخلفية الموسيقية لتلك السهرات كناية عن أصوات الاشتباكات الدائرة في ريف المدينة.
ريما نعيسة
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد