نبيل سليمان يصعد درج الليل والنهار
يريد نبيل سليمان ان ينقل موتى الحوادث والجرائم الذين يدفعون الثمن عن غيرهم من ضحايا الموضوعة الواقعية (انهيار سد زيزون في منطقة الغاب السوري ـ احتلال العراق ـ سجناء الرأي) إلى ضحايا التراجيديا، موتى المسرح. فنعيش معه في (درج الليل درج النهار) طقسا تراجيديا احتفاليا: (د. عيسى نزهان) السجين السياسي سابقا مدير المجمع 21 بمنطقة الجزيرة السورية. (إياس) الصحفي والمناضل والمعتقل السياسي الذي أصيب بالسرطان. (ونسة) الكردية السورية العراقية بنت عابد نوري الايزيدية في الأربعين من عمرها التي تعبد الشيطان، والتي يحبها إياس رغم الفروقات الاجتماعية والسياسية والخلافات في المعتقد الديني بينهما، وإصابة إياس بالسرطان ووقوفها إلى جانبه فتشفيه من التشوهات التي صدعت جدار المناعة النفسي عنده اثر تعرضه للتعذيب حتى الموت في المعتقل، في إشارة من نبيل سليمان إلى الحكام الذين يدجنون شعوبهم ويحولونهم إلى حيوانات فتصير الأوطان حظائر وإسطبلات. (سهلة) امرأة مقموعة تحاول ان تثور على مجتمعها في أشكال من المظاهرات السياسية وتبدو أكثر من امرأة في امرأة. (راكان درويش) مهندس في فرع المجمع 21 بالجزيرة، ألف عشق ونسة وسماها (الأميرة الايزيدية) فيخطفها ويعيدها تحت التهديد. (ربيع الشلاش) مهندس تشغله ونسة ولا ينشغل بزوجته (جنان) المسؤولة الأولى عن اضبارة سد زيزون. (محمود نجا) الضابط السجين المصروع زوج سجيعة. (رحاب بنت محمود نجا) حبيبة هاني الطالبة الجامعية التي تعمل بائعة مواد تجميل، والتي تلف على البيوت ثم على الوشيشة في كراج النقل. (الأستاذ موسى نزهان) الذي أمر بتصفية فرع المجمع في الجزيرة. مدام سالمة، رغيدة، معتصم، د. باسل الذي يهدي الوزير حين زار المجمّع زيارة تفقدية علبة من (الفياغرا السورية) التي غزت الأسواق المصرية ـ اخترقتها بنجاح ـ (شهلة) التي يضاجعها ربيع في بيت إياس. المهندس عساف كوكب مدير سد زيزون الذي أدين بتهمة الفساد مرتين ـ لم يحاكم، وكأنه كما يقول إياس: المفسد يكافأ عندنا. (ضرار قمر الدين) نجم عالم المال والأعمال السوريين الشرس والعدواني ـ لما دخل الكلية البحرية كان يحلم أن يكون مثل ضباط المارينز، لكنه خرج من الكلية بعد أن طردته إدارة الجامعة، والذي وظف لحسابه مرافقين وحراس يحمونه (ممن يحمونه؟؟؟؟...) والويل الويل لمن يقف في طريقه. (ورد قمر الدين) ليس كأخيه ضرار من ناحية الشراسة ـ كان يدرس إدارة الأعمال في لندن ـ لكنه أكثر من سمكة قرش، مات غيلة، رصاصات شقت رأسه. ولما دفن، تحول قبره إلى ضريح وليّ من أولياء الله الصالحين، بل إلى ضريح زعيم عربي عظيم لم تنجب النساء مثله. والذي ربما يكون وراء مقتله حسب ظن إياس وهو يروي لونسة صراعات ضرار الغامضة الذي كان يصفي خصومه، يحسم صراعاته ـ خلافاته معهم بنفسه ـ بقبضات رجاله الحديدية.
إن نبيل سليمان من الذكاء وهو يرسم مثل هذه الشخصيات ـ الشخصية التي استمرأت اللعب على الأمة، إنما ليفرجينا (الفاشية العائلية) التي نمت كالطحالب على هامش جهاز الدولة القمعي، وصارت تفتح سجونا ومعتقلات خاصة بها، غير سجون ومعتقلات الدولة التي تحتمي بالدستور. بل إن هذه الفاشية صارت تراقب الدولة ذاتها، وربما تحاسبها «تقاسمها» تحاصصها. وضرار وورد رغم كل سلطتهما وسطوتهما على الدولة لم يتدخلا ـ يتوسطا لتفرج الدولة عن شقيقهما إياس الذي من أمهما حين اعتقلته الدولة ـ دولتهما التي على كيفهما وكيف كل الفاسدين والمفسدين، كسجين رأي سياسي ولو إرضاء لأمهما. نبيل في «درج الليل درج النهار» يمتح، يسرد أحداثه ـ ولو أن فيها شيئا من ذهنية ـ من مادة إنسانية قادت البلاد والعباد إلى مصير جد مأساوي، مأساة صارت تتصاعد وتائرها ونحن نرى الفاسدين وهم يسرقون ثانية المعونات، معونات الإغاثة العربية والدولية التي وصلت إلى ضحايا سد زيزون اثر انهياره. إنها الواقعية القاسية التي ليس فيها خشونة. فأبطاله الذين في الضمير الجمعي للأمة «الوطن رغم مصائرهم هذه لم يتحولوا إلى أشرار، ولا إلى مجرمين ـ ليس لأنهم مثقفون أو متعلمون، بل لأنهم لن يكونوا حمقى، فبؤسهم وما يتعرضون له من ترهيب وتجويع لن يحد من حماسهم للحياة فيصيرون ضحايا أو حطب معارك لهؤلاء الفاسدين، إذ يريدنا نبيل أن نبقى مع أبطا ل يكشفون حقيقة صانعي هذا الفساد ـ فساد يتواقح بفظاظة، وبارستقراطية مفتعلة، فاسدون لا تعرف من أين جاؤوا، وكيف ورثوا الأمة، وكيف نشروا، غرسوا غرائزهم في جسم سد زيزون، وكيف صارت شهواتهم وأطماعهم في حديد واسمنت السد الذي انهار وما انهاروا.
درج الليل درج النهار ـ كما كتبها نبيل سليمان ليست تكديسا لأحداث «أخبار/ مقالات/ محاضر اجتماعات، وكأنها جثث لقتلى سرعان ما تنتشر روائحها وقد تعفنت، وقد تحللت، بل أحداث لم يكن فيها نبيل حياديا، بل فجر فيها حقيقة شفنا فيها طوفان نوح ـ نبيل وهو يصف خراب السد إنما يسرد، يكتب بنبرة تهكمية عالية فينتزع ضحكة سوداء ليست فاقعة، سفينة نوح وسد زيزون، ومقر الجمعية الفلاحية التي رست فوقها، والحية التي أحرقها سيدنا نوح وتحول رمادها إلى براغيث تمتص دم محمد نجا في السجن.
خراب سد زيزون ولا طوفان نوح ـ نبيل يهزأ، يسخر بمرارة من المسؤولين الذين جاؤوا يتفرجون على ما خلفه طوفان نوح ـ خراب زيزون وكأنه يوم القيامة. مسؤولون ما هم إلا حرامية وقتلة جاؤوا يتفرجون على ضحاياهم، لأن الفساد باق لم يجتثهم، فالمساعدات التي جاءت لأهل زيزون اثر هذا الطوفان تم سرقة بعض منها مثل البطانيات. ونبيل لا يكفيه أن يتهكم، ويستغرب فحسب. بل يكاد ينفجر، ولأنه الراوي فيقطع السرد: سد زيزون يروي 17000 هكتار نصفها سلامتك، 152 منزلا دمرت بكاملها، و129 منزلا دمرت بشكل جزئي، تقول يا زلمة كأننا في فلسطين!!. لكن بسرد ـ وان قطعه ـ يكشف فظاظة وروعة الحياة وبعين ناقدة هازئة، فبدل أن يبتلع الماء المفسدين والمرتشين، نرى السفينة تنقلب فيقع من عليها، وبعملية مخابراتية يتم تبديل الأدوار ليس لمعاقبة الطالحين وإنما ..، وعندما تطلب حنان من إياس أن يتولى التحقيق في حادثة خراب سد زيزون بتكليف من موسى، فيرد وهو السجين السياسي الذي اكتوى بنار المفسدين: قد يعيدني هذا إلى السجن يا حنان، بل إن نبيل يمعن أكثر في الهزء و السخريةاذ تقول رحاب: فمن كثرة ما سرقوا الحرامية من سد زيزون صاروا يكبروا (طيازهم)، الدكتورة ربى في المجمع 21 كبّرت طيزها في باريس لكن طلعت فردة أكبر من فردة، ضفة أكبر من ضفة، ومدام مرمر بخبرتها وذكائها وبالتعاون مع الدكتور طرفة صححت لها طيزها ولكل أكابر البلد اللواتي مثلها والأصاغر أيضا. وكأن نبيل في هذه الرواية يريد أن يجعل السرد فتنة، أن يساوي السرد سحرا، فتنة الكلمة التي فيها فتنة الصورة ـ فتنة الأسود الذي يخفي نارا فيها لظى، فيه تخييل، تخييل يعيدنا إلى (الرومانسية) تخييل بعد أن تكون القنبلة قد قطعت أوصال يدك يعود فيلملمها فتسري الحياة فيها. رواية مثيرة، رواية قاسية فيها تأمل قاس لمصائر أبطالها ليس لأن نبيل كتبها، صنعها من حوادث حقيقية انسانية،وليس من أفكار و نظريات، بل لأن نبيل كان وهو يكتبها لا يبحث عن خلاص لبطله الفردي. ثمة أمة، أنا جمعية مخترقة ـ يخترقها الفاسد والمفسد والمرتشي الذين سمنوا، انتفخوا من كثرة ما أكلوا من المال الحرام، مال الأمة ـ الأنا الجمعية ـ أنا يحيرني نبيل سليمان ـ من قبل في روايته (سمر كلمات) والآن في (درج الليل درج النهار) أنه وهو يفرجينا هذه الطبقة/ الطبقات من مسؤولي وموظفي وخدم جناب الدولة الفاسدين، الدولة التي لا تنتج سوى الهزائم والنكسات وتلحقها بالوطن أنه يغيّب (الوسيط) سمسار الفساد، سمسار الحروب الخاسرة، يدفره وهو الذي يدفع بالبلاد، الأوطان إلى الانهيار. بل هو يفرجينا ثورجية الوسيط، ثورجيته المستزلمة، فنشوفه أحيانا مثقفا وأحيانا شبحا ثم يغيب. هل الأشباح أشباح الفساد لا ترى بالعين المجردة؟ إن إياس وسهلة وحتى ونسة الكردية الايزيدية التي تعبد الشيطان لا نراهم يعيشون فزعا سياسيا أو أخلاقيا، بل كأنهم يعيشون وسط أشباح يحيلون الحياة/ الوطن إلى جحيم. أشباح يجدفون علينا. درج الليل درج النهار ـ وعلى حساسيتها الفنية والسياسية العالية إنما اعتمدت على الوثائقية ـ هناك توثيق تاريخي، لكن لها أكثر من مبرر سيما وأنها تحكي عن لحظة شمولية و إلا ما كنا عشنا هذه الحساسية المأساوية التي في نسيج الرواية، ما كنا عشنا الحلم ـ حلم الأمة وهو يعنّف، يوطأ بنعال جناب خدام الدولة. سد زيزون انهار من النعومة التي لنعال هؤلاء الخدم و هي تدوس حلمنا الذي كان يختبأ في اسمنت وحديد السد الذي انسرق. نبيل سليمان في روايته هذه ما يفتأ يشرح، يحلل بنى المجتمع السوري وقد امتزجت شرائحه ببعضها ـ اختلطت، خلطت، صارت تخلط. لقد صار من الصعب جدا أن نتحدث عن برجوازيات وإقطاعيات إذ إن جميعها صارت حيازة سياسية، صرت تحتازها بولائك للدولة، بولا ئك لمافيات الفساد. وبقدر ولائك تسرق، وتنجح وتسرق، وتصعد كل السلالم التي تكفل لنا أن نشوفك رثا و وضيعا، رغم أنك فوق في سدة السلطة، في سدرة المنتهى.
مع ذلك فان نبيل سليمان يخرج من ألم الكارثة هذه التي صنع منها روايته / روايتنا ليقول: إن كل عزاء يقدم عن ما جرى لأهل زيزون وللشعب السوري هو في بناء السد الحقيقي المنشود، سد الإصلاح والتغيير، ذلك أن انهيار السد لم يكن بفعل الطبيعة، بل بفعل الفساد الذي استشرى في جسد الوطن .
٭ صدرت عن منشورات الاختلاف الجزائر
انور محمد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد