في رحيل نور الشريف

12-08-2015

في رحيل نور الشريف

من السيّدة زينب إلى عرش الشاشة العربية
يقول مولانا جلال الدين الرومي: «ليس في العالم خيال دون حقيقة». مقولة رافقت نجمنا الكبير نور الشريف (1946 ــ 2015) طوال مشواره الذي طواه الموت أمس. رحل الممثل المعروف في «مستشفى الصفا» في القاهرة بعد معاناة شديدة مع المرض، إذ كان يعاني من سرطان الرئة، وخضع لجلسات علاج عدة في أميركا.

كان الشريف دائماً يقف على أرضية صلبة لينطلق منها ويحلق في عالم الخيال ويبدع، مهما كان شكل الإبداع. بداية من لعب كرة القدم في شوارع «السيدة زينب»، ذلك الحي القديم والأصيل الذي انعكس على كل تفاصيل شخصيته، مروراً بموهبته في التمثيل والإخراج، وحتى في اكتشاف المواهب. في هذا المجال، امتلك نور الشريف عين خبير في الألماس، ورحابة تبنّي المواهب الجديدة والصبر على صقلها. هذا ما تؤكده مكتبته الخاصة في الركن المميّز في منزله الذي كان يجلس فيه ليقرأ ويتأمل.
من يخطو داخل هذا الركن سيعرف أكثر كيف امتزجت الموهبة بالحس الإنساني. فالجدران المصنوعة من خشب معشّق ذي طابع فني فريد، تضم كلمات لابن عربي وجلال الدين الرومي وغيرهما من المتصوّفة، وهو ما يعكس الجهد الذي بذله الممثل المصري ليصل إلى ما يُعرف بـ«فضيلة الاستغناء» من خلال عشقه للتأمل. هو يتحدّث متى كان للحديث ضرورة، ويفضّل الإنصات. تلك عادته منذ الشباب، حين كان سلاحه الصمت والتأمل في مواجهة ما لا يرضيه.
أوّل أدواره السينمائية كان مع المخرج حسن الإمام في «قصر الشوق» لنجيب محفوظ

ويبدو أنّ الفتى العاشق لكرة القدم والتمثيل في شوارع مصر القديمة، كان يدرك ضرورة أن يحلّق بخياله. رغم يتمه، عرف أنّ اللحظة ستأتيه ويملك الخشبة، سواء خشبة الملعب أو المسرح. كان يعشق الكرة والفن، لكن الشغف الأكبر كان لخشبة المسرح. دخلها وقدّم تجربته الأولى «الشوارع الخلفية»، ومن بعدها انطلق كموهبة واعدة، مع كبار المخرجين.
محمد جابر محمد عبدالله أو نور الشريف هو واحد من نجوم الفن العربي والمصري الذي يمتلك تاريخاً شديد الثراء والتنوّع، ويدرك جيداً أهمية ودور الفن، وضرورة التنوع. لذلك، فهو من النجوم القلائل الذين نجدهم يمتلكون مشواراً حافلاً بأفلام تجارية سارت جنباً إلى جنب مع الأفلام ذات القيمة الفنية، التي تعد من كلاسيكيات السينما المصرية والعربية، إضافة إلى مسرحيات ومسلسلات لا تقل تنوّعاً. عمل نور الشريف مع معظم المخرجين، بدءاً من حسن الإمام ومحمد فاضل، وداود عبد السيد وعاطف الطيب ويوسف شاهين وسمير سيف، وصولاً إلى أمير رمسيس آخر المخرجين الشباب الذين تعامل معهم في فيلمه «بتوقيت القاهرة» (2015).

ومن يتأمّل وضع السينما المصرية، سيجد أنّ تجربة جيل الثمانينيات شديدة التميّز ويصعب تكرارها، ليس فقط على مستوى الإنتاج بل لأنّها قدّمت أفضل الإنتاجات لمخرجين مثل عاطف الطيب، وداود عبد السيد، وعلي عبد الخالق، وخيري بشارة، ورضوان الكاشف، وشريف عرفة. وساهم نور في إطلاق مواهب البعض وقدّمهم وأنتج لهم أولى تجاربهم السينمائية، ومنهم سمير سيف ومحمد النجار وداود عبد السيد ومحمد خان. لذلك وكما قال عنه الكاتب الكبير خيري شلبي عندما قرّر أن يصف موهبته: «رق الإناء وراقت الخمر... فتشابها واختلط الأمر... فكأنما خمر ولا قدح... وكأنّما قدح ولا خمر». هنا، يقصد شلبي أنّ موهبة نور الشريف تماهت مع الفن وصار كل منهما مرادفاً للآخر. لذلك فإنّ أي قراءة فنية لسينما نور الشريف، والمرور على ملامح البطل الذي قدّمه في أفلامه التي تجاوز عددها الـ 200، إنّما هي أيضاً مراجعة اجتماعية خلال أربعة عقود. نلاحظ تنوّع الشخصيات التي جسّدها الفتى البريء المكافح ضحية الفساد في بعض الأحيان، أو «الفتوّة» الشعبي أو المواطن المقهور ضحية الانفتاح الاقتصادي الذي يقرّر أن يأخذ حقه بيده، أو الشاب السياسي الحالم الذي يفرمه نظام ديكتاتوري مستبد. لذلك، فمراجعة سينما نور الشريف في جزء كبير منها مراجعة أيضاً للتاريخ السياسي والاجتماعي للحياة المصرية والعربية، ومنها مثلاً دور «حسن سلطان» في فيلم «سوّاق الأوتوبيس» (1982) الذي يعد إحدى أيقونات السينما العربية. القصة لمحمد خان والسيناريو والحوار للكاتب بشير الديك، والإخراج للمبدع عاطف الطيب الذي شكل مع بشير ونور ثالوثاً يقدّم سينما متفرّدة في مفرداتها الإبداعية. وقد أدّى نور الشريف دور «حسن سلطان» باقتدار شديد وتماهٍ مع الشخصية إلى درجة التألق، ما أسهم في حصوله على جائزة «مهرجان نيودلهي الدولي»، ليكون أوّل ممثل مصري ينال جائزة دولية. وكان الفيلم من أعمال الواقعية الجديدة في السينما المصرية، وحمل إدانة كاملة لعصر الانفتاح وتآكل الطبقة المتوسطة، كما أنّه انتهى بصرخة نور الشهيرة «يا ولاد الكلب» في إدانة لكل ما يحدث من تحوّلات اقتصادية وسياسية واجتماعية.
واستمرت رحلة الإبداع بين نور وعاطف وتوالت الأعمال المهمة ومنها «الزمار» (1985) و«ضربة معلم» (1987). الأوّل مأخوذ عن مسرحية «هبوط أورفيوس» للكاتب تينسي ويليامز وسيناريو رفيق الصبان وعبد الرحيم منصور، والأغاني لبليغ حمدي. يتناول الشريط قصة الشاب الطالب في كلية الهندسة الذي يقدّم مسرحية تجعله مُضطهداً ومُطارداً من قبل السلطة، ويعد محاولة أخرى من عاطف الطيب ونور الشريف لفضح الفساد أوّلاً ثم الثورة عليه.
وكما شكلت سينما عاطف الطيب ونور وبشير حالة خاصة، نلاحظ أيضاً أنّ نور الشريف هو أكثر فنان قدّم أفلاماً للسينما العربية مأخوذة عن روايات لنجيب محفوظ. ولم تكن مصادفة أنّ أوّل دور يقدّمه نور في السينما مع المخرج حسن الإمام كان «قصر الشوق» لنجيب محفوظ، وقد نال عنه جائزة وزارة الثقافة كأفضل ممثل وكانت أوّل جائزة في حياته. كان نور عاشقاً لأدب محفوظ، وخصوصاً أنّ الاثنين ابنا حيين من أعرق أحياء القاهرة «الجمالية» و«السيدة زينب». وحسبما قال نور في تصريحاته إنّه «وقع في غرام أدب نجيب محفوظ منذ أن كان طالباً في المدرسة ووجد نفسه مفتوناً بفلسفته ومكوناتها وأفكاره وشخصياته الدرامية».
ومن أهم الروايات التي قدمها للسينما وحققت جماهيرية ونجاحاً: «الحرافيش»، و«السراب»، و«أهل القمة»، و«المطارد»، و«قلب الليل»، و«الكرنك»، و«الشيطان يعظ». وكان محفوظ قد أعطى شهادة عن تجسيد نور الشريف لشخوص رواياته في حوار مع الصحافية نعم الباز نشر في مجلة «آخر ساعة» ( كانون الأوّل (ديسمبر) 1980 ). أكد محفوظ أنّ نور أدهشه بأدائه لأدوار بعض أبطاله، قائلاً إنّ «نور الشريف حينما يمثل لا يكون ذاته وإنّما يكون الشخصية التي رسمتها. والحقيقة أنّه مثل لي روايات عديدة ودخل في نسيج العديد من رواياتي، لكن إذا بحثت عن شخصيته الأصلية لا تجدينها، وحين رشّحه المخرج حسن الإمام لشخصية كمال عبد الجواد كان أهم ما يعنيني أن يجسّد الخيال كما صوّرته تماماً. وفعلاً جسّده أجمل تجسيد وأحسست بالتوحّد. فهو يتجسّد لي في كل شخصية بقدرة كبيرة، لكنني تعجبت جداً حينما رأيته يجسّد شخصيات أبعد ما تكون عن شخصية كمال عبد الجواد مثل دور «زعتر النوري» في «أهل القمة» و«الشيطان يعظ». وحين أخبروني أنّه سيمثل أهل القمة فرحت وقلقت، فرحت كونه نجماً وفناناً كبيراً، وقلقت لأنّ الدور بعيد عن مكوناته، لكنه نجح نجاحاً دلّ على مرونة فنية. لذلك أكون سعيداً جداً حين أعلم بأنّه سيمثل رواية لي».
ولأنّه نور الشريف صاحب الرؤى السياسية والقومي العروبي، لم يتردد في تقديم فيلم عن «ناجي العلي» أثار موجات من الغضب والنقد وحملات الهجوم الشرس من قبل صحيفة حكومية شهيرة (أخبار اليوم) كُرست بالكامل للهجوم على نور الشريف وعاطف الطيب، إلى حد اتهامهما بالخيانة. الهجوم بدأ قبل عرض الفيلم، وبمجرد العلم بأنّ الثنائي يشرعان بتقديم شخصية رسام الكاريكاتور الفلسطيني ناجي العلي من خلال فيلم.
نور الشريف ليس مجرّد فنان، بل هو من أصحاب الرؤى في الفن والحياة والسياسة. شعاره هو «الحرية»؛ حرية الإنسان أو كما جاء في فيلمه «حدوتة مصرية» مع المخرج يوسف شاهين: «لا يهمني اسمك ولا يهمني عنوانك لا يهمني لونك ولا ميلادك، يهمني الإنسان ولو مالوش عنوان». لذلك، دفع نور ثمناً للكثير من آرائه السياسية والفنية.

علا الشافعي

 

في إدارة يوسف شاهين
بين المخرجين الكبار الذين عمل معهم نور الشريف على امتداد نصف قرن، و200 فيلماً، من حسن الإمام إلى سعيد مرزوق، مروراً بعاطف السيد وداود عبد السيد ومحمد خان، شخصية «ابن رشد» في فيلم المصير يبقى لقاؤه السينمائي بيوسف شاهين استثنائيّاً. إذا كان النجم الإيطالي مارتشيللو ماستروياني بالنسبة إلى المايسترو فدريكو فلليني، بطله المضيء وصنوه ومجسّد شخصيّته في فيلم «ثمانية ونصف» تحديداً، فإن النجم المصري نور الشريف جسّد بمهارة نادرة صورة المعلّم يوسف شاهين على الشاشة، في «حدّوتة مصريّة» (1982)، الجزء الثاني من ثلاثيته البيوغرافيّة (بين «إسكندريّة ليه؟» و«اسكندريّه… كمان وكمان»).

تقمّصَ نور، بأداء مدهش، شخصيّة المخرج الكبير، بالنظارتين الشهيرتين والسيجار الأبديّة، في مرحلة النضج الفنّي والسياسي: شاهين رجل الرهانات الطموحة، والخيارات القوميّة الجذريّة التي لازمته حتى الرمق الأخير. هذا النفس النضالي نفسه، طبع مسار نور الشريف الذي كنّا نجده داخل مصر وخارجها، على خطوط المواجهة في كل المبادرات التضامنيّة والتحركات الشعبيّة. تحديداً قضيّة فلسطين: «ناجي العلي» عاطف الطيّب (1992) الذي كلّفه الكثير، وقبلها بعامين مسرحيّة «القدس»، على سبيل المثال… وأيضاً فكرة الممانعة ومواجهة الاستعمار التي كانت ذروتها دوره في سجن أبو غريب العراقي («ليلة البيبي دول»، عادل أديب/ 2008). وبعد خمسة عشر عاماً، حين خاض يوسف شاهين معركة العقلانية والتنوير، والمد التكفيري في بداياته، لم يجد أفضل من نور الشريف لتأدية دور ابن رشد على الشاشة، فكان فيلم «المصير» الذي يعد ذروة في مسيرة يوسف شاهين السينمائيّة.

 

دافع عن العروبة ورفع راية التنوير
صحياً، لم يستطع الشريف الذهاب إلى بلد المليون شهيد لتسلم الجائزة. لكنّه أصلاً لم يكن بحاجة إلى المزيد من الجوائز. جائزة الفنان الحقيقية هي تلك التي يحصل عليها تباعاً من الجمهور عقب كل فيلم. هذا هو الإنجاز الحقيقي لمحمد جابر محمد عبدالله الذي أصبح نور الشريف بعد احتراف التمثيل. ابن حي السيدة زينب العتيق في قلب القاهرة بحث عن الأضواء أولاً عبر «نادي الزمالك»، وكاد أن ينضمّ إلى نجومه رسمياً كلاعب كرة بارع. لكنه انحاز بسرعة إلى موهبته الأهم: التمثيل وعشق الفن بشكل عام. دخل المجال بدعم من عادل إمام الذي قدّمه للمخرج حسن الإمام ليشارك في بطولة فيلم «قصر الشوق» عام 1966، ثم اختاره المخرج محمد فاضل ليكون أحد أبطال مسلسل «القاهرة والناس» الذائع الصيت في ذلك الوقت.
شكّل منافساً شرساً ليحيى الفخراني في الدراما التلفزيونية
كل ذلك تزامناً مع دراسته في «المعهد العالي للفنون المسرحية» الذي تخرج فيه عام 1967 وكان الأول على دفعته وعمل في سلك التدريس لفترة. وفي بداية السبعينيات، تعرّف إلى رفيقة مشواره بوسي وارتبطا عام 1972، ثم بدأ مشواره مع السينما في أدوار غير رئيسية. عرف الطريق إلى الأفيشات بسهولة. وبعد فترة من عدم الانضباط بسبب النجومية السريعة، استعاد الشريف في الأعوام الأخيرة في السبعينيات اتزانه وبدأ مشواره الحقيقي مع الاحتراف الذي ظل ملتزماً خلاله بالمبادئ والقيم التي تربى عليها حتى وفاته. قدم الشريف في تلك المرحلة مجموعة من الأفلام المهمة، أبرزها مع المخرج علي بدرخان كـ«الكرنك» (1975)، و«أهل القمة» (1981). الأول كان ضد مافيا التعذيب في عهد جمال عبد الناصر، والثاني كان يحذر من خطورة سياسات الانفتاح في عهد السادات. في تلك المرحلة أيضاً، قدّم الكثير من القصص المنوعة سينمائياً على مستوى الكوميديا مع عادل إمام وسمير غانم مثل «البعض يذهب للمأذون مرتين» (1978)، وفيلم جريء بمقاييس ذلك الوقت هو «قطة على نار» (1977) مع بوسي عن المثلية الجنسية. ويمنح المخرج سمير سيف ضربة البداية في فيلمه الأول «دائرة الانتقام» (1976) ويكررها مع محمد خان حيث كان الشريط الأول لخان هو «ضربة شمس» (1980) من بطولة نور الشريف. وشهدت الثمانينيات أهم ثنائي سينمائي جمع نور الشريف مع المخرج الراحل عاطف الطيب. حتى وفاة الأخير، قدّما سلسلة من الأفلام التي دخلت تاريخ السينما المصرية من أوسع الأبواب، أهمها «سواق الأوتوبيس» (1982) الذي وثق انهيار الطبقة الوسطى في مصر، وفيلم «كتيبة الإعدام» (1989) حيث شخصيته الشهيرة حسن عز الرجال، إلى جانب فيلم «ناجي العلي» (1992) الذي سبّب له صداعاً سياسياً كبيراً. كما برع الشريف في العديد من الأفلام خلال هذه المرحلة؛ منها «آخر الرجال المحترمين» (1984 ــ تأليف وحيد حامد وإخراج سمير سيف) حيث شخصية المدرس المثالي جداً فرجاني الذي أجبر الدولة على البحث معه عن طفلة تائهة. ومع المخرج علي عبد الخالق والمؤلف محمود أبو زيد، قدم الفيلمين الشهيرين «العار» (1982) و«جري الوحوش» (1987) وكلاهما بمشاركة حسين فهمي ومحمود عبد العزيز، في إشارة إلى تقليد لا يؤمن به إلا الكبار وهو وجود أكثر من نجم في عمل واحد. وكانت للشريف علاقة تعاون خاصة مع يوسف شاهين عبر أفلام عدة؛ منها «حدوتة مصرية» (1982) و»المصير» (1997).

ومع نهاية التسعينيات، عاد الشريف للاهتمام بالدراما التلفزيونية وقدم العديد من المسلسلات البارزة. وكان منافساً قوياً للنجم الأول للشاشة الصغيرة يحيى الفخراني. على المستوى الاجتماعي، قدم مسلسلات مثل «لن أعيش في جلباب أبي» مع عبلة كامل، و«عائلة الحاج متولي» مع مصطفى شعبان، وكلاهما يحظى بإعادة عرض متتالية على كل الفضائيات المصرية تقريباً، رغم مرور 15 عاماً على إنتاج الثاني و20 عاماً على إنتاج الأول. كذلك برع في المسلسلات التاريخية مثل «هارون الرشيد» و«عمر بن العزيز» و«رجل الأقدار» وكان يتمنى تجسيد شخصية الحسين لو وافق الأزهر على ذلك. ويعدّ مسلسل «الرحايا» وثلاثية «الدالي» من أبرز أعماله التلفزيونية في السنوات العشر الأخيرة. كما عاد إلى السينما بقوة ومن دون شرط البطولة المطلقة فى أفلام «ليلة البيبي دول» مع محمود عبد العزيز وجمال سليمان، و«مسجون ترانزيت» مع أحمد عز، وأخيراً «بتوقيت القاهرة».

 

مغامر ومحبّ للتجريب
المواطن المصري «الزملكاوي» محمد جابر محمد عبدالله، الشهير بنور الشريف هو إحدى أهم علامات الفن في مصر منذ سبعينيات القرن الماضي. لمع نجمه خلال الثمانينيات والتسعينيات ليصبح أحد رموز السينما والتلفزيون المصري في تلك الحقبة حتى وفاته أمس.

حظي بمشاركته الأولى على شاشة السينما في «قصر الشوق» (1966 ــ الجزء الثاني من ثلاثية نجيب محفوظ)، حيث قدّم دور «كمال» الابن الأصغر لبطل الرواية السيّد أحمد عبد الجوّاد. حصل الوجه الفنّي الجديد نور الشريف على شهادة تقدير كأفضل ممثل شاب عن دوره الأول على شاشة السينما لهذا الدور.
خلال مشواره الفنّي، كان الشريف رجلاً محبّاً للتجربة ومغامراً بدرجة كبيرة في تقديم أعمال جديدة لمخرجين جدد أو تجارب فنّية قد تقلّب عليه رأي هذا وذاك. عام 1992، أدى بطولة فيلم عن سيرة المناضل والفنان الفلسطيني ناجي العلي، مقدّماً من خلال أحداث الفيلم موقفاً معادياً لاتفاقيّة «كامب دايفد»، ما أثار حفيظة الكثير من زملائه وأغرقه في انتقادات ظلّت تلاحقه حتى وفاته.
وبينما كان شاباً في بدايات مشواره الفنّي، أنتج فيلم «ضربة شمس» من إخراج القدير محمد خان. كانت مغامرة كبرى أن يدخل كمنتج لفيلم من هذا النوع الذي ينجح على المستوى النقدي والفنّي، لكنّه لا يجد نجاحاً تجارياً وخاصة في فترة أفلام المقاولات.
اختاره المخرج الراحل يوسف شاهين لبطولة «حدوتة مصرية» عام 1982. هنا، قدّم شخصيّة «يحيى شكري مراد» التي كانت تجسيداً للسيرة الذاتية ليوسف شاهين. خلال هذا الفيلم، تجلّت ميوله القوميّة العربيّة التي لم يكن ليخفيها من خلال أحاديثه وأعماله المختلفة.
«كتيبة الإعدام» روى فترة المقاومة الشعبية للاحتلال الصهيوني

واستمراراً لرحلة الحظ السعيد والفن المتميّز، اختاره شاهين مرّة جديدة لتقديم دور الفيلسوف العربي الأندلسي ابن رُشد خلال أحداث فيلم «المصير»، تلك الشخصية التي حارب من خلالها الفكر المتطرف وحارب أيضاً الفصل و«العداوة» بين الفن والدين. تلك الظاهرة الشائعة في المجتمع الشرقي فنّدها الفيلم الذي نال العديد من الجوائز ورشِّح لسعفة «مهرجان كان السينمائي».
من أشهر أدوار الشريف خلال مشواره الفنّي، دوره في فيلم «كتيبة الإعدام» (1989) الذي كان يروي فترة المقاومة الشعبية للاحتلال الصهيوني في منطقة قناة السويس، وأخرجه الراحل عاطف الطيّب وأدى بطولته نور الشريف والراحلة معالي زايد. من أفضل مشاهده التمثيلية، بل من أقوى المشاهد في تاريخ السينما المصرية، كان مشهده في فيلم «المصير» حين كان الشريف يواجه الشاب المتطرف (هاني سلامة) الذي ترك الرقص والغناء والفن لينضم إلى جماعات متشددة تكفّر المجتمع بأكمله. في هذا المشهد، أخبر الشاب المتطرف الفيلسوف ابن رشد بأنه يريد أن ينقل علوم الله إلى الناس، ليجيبه الفيلسوف بأنّ الفلسفة ليست علوم الجن. سأله عما يعرف في علوم الكيمياء والطبيعة والفلسفة والرياضيات والفلك واللغات والحب والموت والشِعر، وأخبره بأن هذه علوم الله، الله الذي خلق الجمال ولا يرضى بالقُبح. وقد قدّم الشريف هذا المشهد باقتدار بالغ حتى كانت ترتج قاعات السينما بالتصفيق في نهاية هذا المشهد بانهيار الشاب أمام ذلك التوبيخ.
رحل الشريف ليترك لأجيال حالية وقادمة رصيداً بحوالى 243 عملاً فنياً يتعلم منها هواة الفن ويستمتع بها المشاهدون، ليمكث له ما قدّمه للناس حتى بعد رحيل جسده الذي أنهكه المرض.

مايكل عادل

حبيبي دائماً
إذا كانت لنور الشريف عشرات الأفلام التي حققت نجاحاً كبيراً لدى الجمهور المصري والعربي، سيظل لفيلمه الأشهر مع الفنانة بوسي «حبيبي دائماً» مكانته الخاصة في قلوب محبي السينما الرومانسية في كل مكان. الفيلم الذي رسّخ قصة الحب الكبيرة بين النجمين المحبوبين، ربّما كان السبب في عودتهما أخيراً إلى بيت الزوجية من جديد بعد انفصال دام تسع سنوات. حمل «حبيبي دائماً» (1980 ــ سيناريو رفيق الصبان، وحوار كوثر هيكل) توقيع المخرج الكبير حسين كمال، وشارك في بطولته سعيد عبد الغني وسوسن بدر ونعيمة وصفي. ظل هذا الفيلم ثابتاً على الشاشات المصرية في سهرة «عيد الحب»، وكان له جمهور دائم يتابعه حتى مشهد النهاية التي يحفظها محبّوه عن ظهر قلب: مشهد وفاة البطلة في حضن البطل بسبب المرض العضال.

لاحقاً، وتحديداً عام 2006، جاء خبر طلاق الثنائي (الصورة) بعد أكثر من ثلاثين عاماً من الزواج ليصدم الجمهور الذي حُفرت في ذهنه صورة العاشقين نور وبوسي في الفيلم الشهير. مع ذلك، ظل الاحترام المتبادل واضحاً بين النجمين، فيما طغى ارتباطهما بابنتيهما «سارة» و«مي» على أي خلافات زوجية. مرض «سارة» في البداية، وضرورة وجودهما إلى جوارها خارج مصر أسهما في ترسيخ هذه الصورة، ثم جاءت محنة مرض نور الشريف نفسه وظهور «بوسي» إلى جواره دائماً ليشير إلى أنّ علاقة «العاشقين» أكبر من كل شيء.
لم يعد الموضوع مرتبطاً إذاً بالتعاون الفني الطويل عبر أفلام مثل «قطة على نار» و«العاشقان» و«كروانة»، بل هي علاقة إنسانية من نوع خاص. ومع إعلان عودة المياه إلى مجاريها قبل فترة وجيزة، شعر الجمهور بالسعادة، قبل أن يرحل نور الشريف في النهاية وهو رسمياً زوج «بوسي» التي لن تنسى حبيبها الدائم.

 

رفاق الطريق يلقون التحية الأخيرة
الإنسانية صفة لم تهاجر صدر الراحل نور الشريف. الفنان الذي لم يتردّد ذات مرة في حمل أحد العاملين إلى المستشفى، عندما تعرّض لبتر إحدى أصابعه أثناء عمله بآلة المنشار الكهربائي خلال تصوير فيلم «العاشقان» (2001 ــ كتابة كوثر هيكل، وإخراج نور الشريف). وقتها، أصرّ نور على أن يحمل العامل في سيارته ويذهب به إلى المستشفى لدفع كلفة العلاج. ولم يكتف بهذا، بل منح العامل راحة من العمل إلى أن يبرأ ويشفى من التعب. وحرص على أن يُرسل إليه راتبه الذي كان يتقاضاه يومياً. هذا هو نور الإنسان الذي ما إن يدخل «لوكيشن» التصوير حتى يلتفّ الجميع حوله وهم يردّدون «نوّرت يا أستاذ».

سار الراحل في رحلة الشقاء والرزق والترحال، ولم تتخلّ عنه إنسانيته، فهو ابن «السيدة زينب» أكبر الأحياء الشعبية في القاهرة. يعشق البساطة والكلاسيكية في كل شيء، حتى الملابس سواء للرجل أو المرأة، ويفضّلها دائماً أن تكون وقورة. يحبّ لمّة العائلة ويفرح بها كالطفل الصغير، وربما كان هذا يعود إلى نشأته الصعبة. توفي والده وهو لم يُكمل عامه الأوّل، وقضى سنوات عمره الأولى في منزل عمّه في شارع قدري في «السيدة زينب». وعندما كان طفلاً كان يبحث في كل مكان عن صور فوتوغرافية لوالده ليعرف من خلالها شكله وملامحه.
لم يتغيّر نور بعدما صار شاباً ونجماً وأصبح اسمه يملأ السمع والبصر في العالم العربي. لم تدفعه المنطقة الراقية التي سكن فيها أخيراً («الشيخ زايد» في أكتوبر ــ القاهرة) لينسى عاداته وتقاليده. كلمة السرّ في حياته تتمثّل في «عواطف»، شقيقته التي تقطن في مدينة الإسكندرية. دائماً ما كان يتردّد إليها وتأتي هي لزيارته. يحكي لها عن طفولته وشوارع «السيّدة» ومقاهيها وأصدقائه الذين لا بقوا يسألون عنه.
كان الشريف يميل إلى الحديث عن الماضي مع شقيقته، حيث ذكريات الصبا والأشياء الجميلة، وتذكّره عواطف بأشياء تضحكه عن شقاوته عندما كان طفلاً. كان الراحل يرفض القسوة والعنف، وعمل على تربية ابنتيه «سارة» و«مي» بالحنان والحبّ، واتخذهما صديقتين له. كان يتناقش معهما في كل شيء، إلى جانب زوجته وحبيبته الممثلة «بوسي» التي عاد إليها أخيراً بعد فترة من الانفصال.
تجربة نور مع الحياة طويلة، اكتسب فيها معلومات وعاصر أعظم حقبة في تاريخ الإنسانية. شاهد اختراع التلفزيون وتفجّر الذرّة واستخدام الموبايل، وارتبط بصداقات مع نجيب محفوظ ويوسف شاهين ومحمود درويش وياسر عرفات. وقدّم أجيالاً في الفنّ المصري، منها إلهام شاهين وسوسن بدر والمخرج داود عبد السيد ومحمد خان ومحمد النجار، وأخيراً أمير رمسيس مخرج فيلمه الأخير «بتوقيت القاهرة» (تأليف أمير رمسيس).
يكشف أحد المقربين من الشريف لـ«الأخبار» عن الجانب الإنساني في حياته والذي لا يعرف أحد شيئاً عنه، قائلاً: «كل عام يكلّف نور أحد أصدقائه في نقابة «المهن السينمائية المصرية» بتقديم كشف يضمّ أسماء السينمائيين الذين يحتاجون إلى الأموال، خصوصاً في شهر رمضان، فيقوم بإرسال ظرف يحتوي على مبلغ من المال لهم من دون أن يعلم أحد. ويضع سنوياً مبلغاً كبيراً في صندوق المعاشات في «نقابة الممثلين» لتحسين الأحوال». ويضيف: «عندما علم ذات مرّة أن زوجة مدير إنتاج كان يعمل معه في إحدى أفلامه مريضة صمّم على أن يعالجها على نفقته الشخصية إلى أن شفيت. وظلّ يدفع راتباً شهرياً لأحد المنتجين الفنيين عندما توقف عن العمل في أيّامه الأخيرة، وعقب وفاته لم يترك زوجته وكان يرسل لها إعانة مادية».
أصدقاء نور يشهدون له بالرقيّ والإنسانية، وعلى رأسهم النجم محمود ياسين الذي يقول: «شاء القدر أن ألتقي الراحل الذي كانت شهرته تغطّي حي «السيدة زينب» بأكمله قبل دخوله «معهد السينما». اتفقنا في الرؤى وتتشكّل ثقافتنا الفنية بعلم من سبقونا. لكلينا تجربة واحدة على المستوى الفني والإنساني تحديداً. نحن أكثر اثنين احتفينا بالمواهب الجديدة، وتلاقينا مع الأجيال من النجوم في مختلف الأعمار، الأمر أوجد بيننا نوعاً من التآخي والوئام. كما خضنا معاً مجال الإنتاج في عمر واحد تقريباً، وكنّا لا ندرك شيئاً عن هذه المهنة. ولم ننضج بالشكل الذي يجعلنا ندير عجلة الإنتاج جيداً. أذكر وقتها أنّه من شدّة ارتباط فكري بفكر نور، كنت عندما أتحدّث مع منتج عن مسألة سينمائية معينة يقول لي هذا رأي نور أيضاً، وكذلك كان هو».
ويكمل ياسين موضحاً أنّ «مشواري مع الشريف طويل ولا أعرف متى بدأ تحديداً، ربما وقت كنّا نفتح بيوتنا للأجيال السينمائية الجديدة، بعدما نهلنا المعرفة من مدارس فنية حقيقية وارتبطنا بالحركة الفنية ارتباطاً واقعياً. وهذه الخطوة خلقت حالة من الصداقة المبكرة بيني وبينه». ويؤكّد ياسين أنّه على مدار تاريخه الطويل يتذكّر أنّ أكثر بيت دخله من بيوت أصدقائه هو منزل الشريف: «هناك ترابط بين أسرتينا».
رجل إنساني ومعطاء عاشق للبساطة والكلاسيكية

النجمة نادية لطفي تقول عنه: «كان لقائي بالراحل في أواخر الستينيات عندما كان شاباً صغيراً ورشّحه المخرج حسن الإمام للمشاركة في فيلم «قصر الشوق» رائعة نجيب محفوظ، وبطولتي إلى جانب يحيى شاهين. رغم صعوبة الشخصية التي امتازت بالعمق والبساطة، إلا أنّ نور برع فى تقديمها». وتضيف: «في دفتر ذكرياتي مع نور حكايات، منها يوم سافرت إلى الجزائر لحضور المؤتمر الـ 16 لـ«منظمة التحرير الفلسطينية» بدعوة من الرئيس الراحل ياسر عرفات، والتقيت نور هناك. وأثناء المؤتمر ألقى الشريف قصائد وطنية للشاعر محمود درويش وتفاعل معه الحضور. هو من الفنانين الذين لهم فضل في الثبات والمواجهة والإصرار، وله دور في تقديم التنوير والثقافة العميقة في اختياراته لأعماله الفنية. لا أنسى مسلسلاته «هارون الرشيد» وخامس الخلفاء الراشدين «عمر بن عبد العزيز»، وفيلمه «ناجى العلي»، فهو ليس فناناً عادياً، بل محترف وفيلسوف لديه فكر خاص. ومن أعظم المواقف التي تُحسب له، موقفه في «ناجي العلي» الذي قام بإنتاجه وتعرّض يومها للهجوم. كنت قد التقيت العلي وتحدّثت إليه، لكنّني لم أستطع تخليده مثلما خلّده نور سينمائياً. هذا العمل يستحقّ الإشادة والتحية، وبيني وبين نور وأسرته صداقة إنسانية ودائماً يهاتفني للاطمئنان عنّي وكذلك كنت أنا».
الكاتب وحيد حامد يعتبره ركناً من أركان السينما المصرية، منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، ويشدد على أنّه «ممثّل كبير وقادر على التأثير في الوجدان ونفوس المشاهدين. لم يكن مجرّد ممثّل، بل صاحب موقف حقيقي، أنتج وأخرج وأخلص تماماً للمهنة»، موضحاً أنّ له «فضلاً كبيراً في تقديم وجوه جديدة فى مجال الإخراج والتمثيل».
بدورها، تصف النجمة نبيلة عبيد الراحل بـ«الفنان المهم» الذي منح حياته للسينما، ولم يبخل يوماً عليها: «نور من أبرز نجوم جيله، ويمتلك حساً وطنياً وثقافياً. هو فنان صاحب رؤى وموقف». من جهته، يفلت المخرج علي عبد الخالق إلى أنّ نور الشريف لطالما كان يحمل كاميرا ليصوّر بها كل من يجده في «لوكيشن التصوير»، إضافة إلى تصوير لأصدقائه: «يحبّ التصوير جداً لدرجة أنّه كان يدخل البلاتوه وينظر إلى أماكن وضع مصابيح الإضاءة ويطلب من العاملين بعض التعديلات عليها».


--------------------------------------------------------------------------------

تسقط كامب دايفد!

إذا كان فيلم «ناجي العلي» (1992) هو الأبرز «سياسياً» في مشوار نور الشريف السينمائي، فالأمر مرتبط بالحملة العنيفة التي طاردت الفنان الكبير. فهو أوّل وآخر ممثل مصري يفكر في تجسيد شخصية رسام الكاريكاتور الفلسطيني الشهيد. كادت الحملة أن تدفع به إلى الهجرة خارج مصر، بعدما شنت عليه الصحف القومية حرباً شعواء لا هوادة فيها، وأُعلنت مقاطعة أعماله في الخليج لفترة ليست بالقصيرة. لكن «ناجي العلي» لم يكن الحدث السياسي الاستثنائي في مشوار «نور الشريف»، فقد كانت آراؤه السياسية حاضرة دائماً وإن امتنع عن الإدلاء بها إلا في الوقت المناسب. رفض عروضاً كثيرة للكلام خلال «ثورة يناير»، وخرج فقط في حوار حصري مع الإعلامي والمخرج عمر زهران في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 على قناة cbc. قال وقتها إنّ حال الإعلام بعد خلع الرئيس حسني مبارك لم يكن يرضيه، فالتزم الصمت، وأكد سعادته بالثورة وخوفه مما قد يحدث بعدها. طوال 30 عاماً قضاها مبارك في السلطة، لا يصطاد أحد نور الشريف، وهو يحاول الاقتراب من قصر الحكم. حقق نفوذه الدائم عبر فنّه وجمهوره فقط. في حواره مع زهران، تفوّه بأهم تصريحاته، إذ اعتبر اتفاقية «كامب دايفد» التي وقّعتها مصر مع العدو الإسرائيلي «كارثة»، مؤكداً أنّه لم يغير رأيه فيها بعد أربعة عقود. أما السبب، فهو تحييدها للجيش المصري. وقال الشريف أيضاً إنّ حركة «حماس» أخطأت عندما فصلت قطاع غزّة عن الضفة الغربية، مضيفاً أنّ حماسه لتجسيد مؤسس الحركة الراحل أحمد ياسين جاء على خلفية إيمانه بأنّ الرجل عاش ومات على مبادئه. وكان الشريف متحمّساً أيضاً لتجسيد شخصية الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ولتقديم فيلم عن القدس. كلّها مشاريع لم تتحقق، لكنّها تؤكد البعد العربي الدائم في فكر نور الشريف، وترسّخ حقيقة أنّ «ناجي العلي» لم يكن استثناءً أو مغامرة. لقد كان تعبيراً عن ثقافة وقناعة فنان كبير نعاه الملايين بحزن حقيقي ولم يتذكّر أحد من هاجموه وكادوا أن يرغموه على مغادرة مصر.

عباس محمد

 

قال وداعاً «بتوقيت القاهرة»
«بتوقيت القاهرة» قال نور الشريف: وداعاً. في فيلمه الأخير، صدّر وقوفه أمام عدسة أمير رمسيس الكثير. لعب «يحيى شكري مراد» مقابل أجر رمزي، لأنّه أعجب بفكرة الفيلم. كان اعتراضاً عملياً على أجور فلكيّة لبعض النجوم، ما يؤثّر سلباً على عجلة الصناعة. هو نفس اسم شخصية يوسف شاهين في «حدوتة مصرية» (1982). كان ذلك جزءاً من تركيبة فيلم يلقي تحيّة حب على السينما المصرية، التي كان «نور» مهووساً بحركتها، مرهوناً لبقائها في صحّة وعافية. «يحيى» عجوز مصاب بالزهايمر.

سخط ابنه المتزمّت دينياً، يولّد خذلاناً أشدّ وطأةً من خيانات الذاكرة. ابنته المحبّة تهبّ نسمةً وحيدةً في صحرائه. لم يعلق من الماضي سوى صورة حبيبة قديمة (من أنسب من رفيقة دربه ميرفت أمين للعب الدور؟). هكذا، يقرّر السفر من الإسكندريّة إلى القاهرة للبحث عنها. نور الشريف في واحد من أبهى تجليّاته، يقطع رحلةً وجوديّة أخيرة على شاشة لازمها نصف قرن. الفرق أنّ الممثّل حاضر الذاكرة، متوقّد الذهن، صاحب مشاريع لا تنتهي. كان يستعدّ لمسلسل «أولاد منصور التهامي»، سيناريو مصطفى محرم وإخراج سميح النقاش. في تاريخه الكثير من الجوائز والتكريمات، آخرها أفضل ممثّل في «مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي 2015» عن الدور نفسه. يبقى أحبّ التكريمات إلى قلبه احتفاء العام الفائت في مهرجان الإسكندرية السينمائي. يومها، شهد بعينيه أكبر ندوة تكريم في تاريخ المهرجانات المصريّة، حتى أنّ مكانها تغيّر من داخل الفندق إلى قاعة أفراح ملحقة به لاستيعاب الحضور. عدد هائل من مختلف أجيال المخرجين والممثّلين والنقاد والمحبّين، بدوا كما لو أنّهم نفروا لوداعه. للرجل أفضال كبيرة على كثيرين بالفعل.
لم يمانع الظهور عارياً في «ليلة البيبي دول» (2008) لعادل أديب

نور الشريف نموذج صارخ للفنّان المثقف. قارئ مثابر، ومبدع مهموم بتطلّعات البسطاء، تماشياً مع القضايا الكبيرة. «ناجي العلي» يختصر ما عمل عليه طوال حياته: «الوطن والحريّة». الانتماء الذي يطمئنّ لمصريته أولاً، قبل الانخراط في الشأن القومي. الحريّة بكافّة أشكالها الفكرية والدينية والفنيّة، وصولاً إلى اليوميات الصغيرة. هكذا، لم يمانع الظهور عارياً في «ليلة البيبي دول» (2008) لعادل أديب، لنقل جحيم سجن أبو غريب كما يجب. حرص نادر على التنوّع. هنا، لا يمكن استغراب كثرة العناوين التجارية في فيلموغرافيا نور الشريف، توازياً مع أشرطة صارت من علامات السينما العربيّة.
هو الصانع النشيط في مطبخ الصناعة. دخل معترك الإنتاج في عمر 29 سنة. قدّم مخرجاً يصغره بعام واحد هو سمير سيف، الذي أنجز باكورته «دائرة الانتقام» (1976)، بحضور الشريف أمام الكاميرا أيضاً. مهلاً، هو من قدّم محمد خان كذلك في «ضربة شمس» (1980)، مطلقاً تيّار المرحلة الثانية من الواقعية في السينما المصرية أو «الواقعية الجديدة». في جعبة نور الشريف المنتج أسماء عديدة. كمال عطيّة في «مدينة الصمت» (1978)، وحسين كمال في الأيقونة الرومانسية «حبيبي دائماً» (1980)، ومحمد النجار في «زمن حاتم زهران» (1987)، مختتماً بنفسه مخرجاً لمرّة وحيدة في «العاشقان» (2001). في عام 1992، اشترك مع مجلة «فن» اللبنانية في إنتاج «ناجي العلي»، تحت إدارة عاطف الطيب. كان واحداً من تسعة أفلام توهّج خلالها نور الشريف في سينما الطيب، الذي أسّس لذاته كياناً مختلفاً عن مجايليه الواقعيين الجدد، من أمثال محمد خان وخيري بشارة وداود عبد السيد. لا شكّ أنّ «سواق الأتوبيس» يمثّل التعاون الأرفع بين الشريف والطيب. درس كبير في اشتغال ممثّل، ورؤية مخرج، وقراءة مجتمع. نور الشريف صاحب أكبر عدد من الأفلام المأخوذة عن روايات محفوظ. لا أفضل من «كمال عبد الجواد» من الجزء الثاني من ثلاثية صاحب نوبل «قصر الشوق» (1966)، ليقدّمه إلى الجمهور بشكل لائق. هذه نصيحة عادل إمام للمخرج حسن الإمام، بعد أن شاهد نور الشريف يلعب «هاملت» على المسرح. الشاب المثالي المتحمّس مفصّل على الوجه الجديد. بالفعل، وقف بتمكّن أمام يحيى شاهين، كما فعل مع محمود مرسي في رائعة سعيد مرزوق «زوجتي والكلب» (1971). توّج «عبد الجواد» بأداء أعلى لمرحلة الكهل الأربعيني في الجزء الثالث «السكريّة» (1973) لحسن الإمام. خلال مسيرته، تابع مع أدب نجيب محفوظ في «السراب» (1970) لأنور الشناوي، و«الكرنك» (1975) و«أهل القمة» (1981) لعلي بدرخان، و«الشيطان يعظ» (1981) ليحيى العلمي، و«دنيا الله» (1985) لحسن الإمام في التعاون الثالث، و«المطارد» (1985) لسمير سيف، والعلامة الفلسفية اللافتة «قلب الليل» (1989) لعاطف الطيب، وأخيراً «ليل وخونة» (1990) لأشرف فهمي. محفوظ نفسه قال لنعم الباز في مجلة «آخر ساعة» أواخر عام 1980: «نور الشريف حينما يمثل لا يكون ذاته، وإنّما الشخصية التي رسمتها (..) حين رشحه المخرج حسن الإمام لشخصية «كمال عبد الجواد» كان أهم ما يعنيني أن يجسّد الخيال كما صوّرته تماماً، وفعلاً جسّده أجمل تجسيد، وأحسست بالتوحد (..)، وحينما أخبروني أنّه سيمثّل «أهل القمّة» فرحت وقلقت. فرحت لكونه نجماً وفناناً كبيراً، وقلقتُ لأنّ الدور بعيد عن مكوناته، لكنه نجح نجاحاً دلّ على مرونة فنية، ولذلك أكون سعيداً جداً حينما أعلم أنّه سيمثّل روايةً لي».
رحل نور الشريف حزيناً لأنّ تاريخه المسرحي الذي لم يوثّق. هو الأساس الذي جعله قادراً على الذوبان في الشخصية. عن قدرته العالية على التماهي، قال خيري شلبي: «رقّ الإناء، وراقت الخمر، فتشابها واختلط الأمر. فكأنما خمر ولا قدح، وكأنّما قدح ولا خمر». في المقابل، بقي شيء من شخصه ونمطه في بعض الأفلام، التي لم تضف له شيئاً. من البديهي أنّ السيناريو الجيّد يقترح إمكانية التحليق على الممثل. هذا حال أبناء جيله، الذين تفوّق منهم أحمد زكي باعتراف نور نفسه، فيما عمل مراراً مع محمود عبد العزيز وحسين فهمي، كما في «العار» (1982) و«جري الوحوش» (1987).
في «دم الغزال» (2005) لمحمد ياسين، قال عبارةً لا تُنسى قبل موته الاختياري: «نورها كان دايماً يسبق نور الشمس». سأل في «الزمّار» (1985) لعاطف الطيب: «بسافر بسافر، بهاجر بهاجر. إيمتى هتلقى المحطة وترسى يا حاير؟». بعد أكثر من 170 إبحاراً، ها قد رسوت يا ابن رشد. وداعاً.

علي وجيه

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...