سبيٌ على طريق دمشق
في بيئة الأزمة تفقد الكثير من تفاصيل الحياة اليوميّة لونَها. تبدأ الصباحاتُ رتيبةً على غير المعتاد.
لا نكهة لشمس الصباح، ولا قهوة تصلح لتعدّل بها مزاجك المنكسر.
الإنسان السوري مثقل للغاية بهموم المعيشة وهواجس الدم اليومي، وما بين صوت قذيفة ودوي شائعة، تفقد الكثير من المعالم الجميلة رونقها.
ضيقة للغاية هي تلك اللغة التي تحكي الإنسان، وتصبح أكثر ضيقاً عندما تمسُّ أوجاعه.. هناك ما هو أبعد من الكلمات في نقل حكايات الواقع، ليس حرفاً، ولا مشافهةً أيضاً. الإحساس وسيلة المعرفة الوحيدة التي تهبُ الإنسان لون الشعور الأقرب إلى ما نصف، إنّما ليس كامله بكلّ تأكيد.
«مطلع» أدبي كهذا جدير بأن يفتتح قصة امرأة عبثت بها الفوضى السائدة حدّ اللاإنسانيّة، والتي كان لها أن تسرق منها زوجاً وأولاداً وأهلاً.. ومعنى الحياة ذاته.
نقل الأسماء هنا حرج للغاية، وقد يكون مؤذياً، غير أننا إذ نحكي جرحا مثالا، يتكررُ على غير إنسانٍ ومكان، قد نضيفُ إلى المشهد لوناً آخر، هو لون الجرأة في الطرح، وتقاسمِ بعض الإنسانيّة.
قصّة امرأة.. سبيّة:
لا ينبغي أن تغرّك الصباحاتُ الهادئة في مدن الاقتتال السوري هذه الأيام، فأي يوم معتاد قد ينقلب في لحظة واحدة مأساةً إنسانيّةً مؤلمة.
عليك أن تعيش حذراً مستديماً، ويقظة لا تتوقف، ولا يجوز أن تسمح لنفسك بالحياة الطبيعيّة «أكثر من اللازم»!
أصوات المعارك، القذائف العمياء، السيارات المفخخة، القناصون... وسواها من مفردات الشارع الحاضرة دائماً، توقظ فيك كل إحساس بالحذر والانتباه الزائد.
في مدينة حمص بدأ نهار طبيعي لامرأة مثقفة. أمّ لأربعة أطفال، لم «تتهوّر» بأكثر من التخطيط لزيارة أختها القاطنة في الحيّ المجاور. الحيّان آمنان، والمسافة بينهما لا تتجاوز كيلومتراً واحداً، لكنّ الطريق استغرق شهراً وسبعة أيام كاملة! وهو ما ينبئك بقسوة الأيام «العادية» هناك.
م . ق امرأة في العقد الرابع من عمرها (32 سنة تحديداً)، لها قسط من الأناقة والجمال المعتدل. بعد طعام الفطور، أجرت اتصالاً هاتفيّاً، وانطلقت في سيارة أجرة لتنتقل من حي الأرمن باتجاه حي الزهراء، حيثُ تقطنُ شقيقتها الكبرى.
لم تكد السيّارة تحيد عن الطريق العام قليلا حتى أشهر السائق سلاحاً فردياً، وصرخ بوجه المرأة أنه سيحرم عائلتها منها إن تجرّأت على التفكير في مقاومته، ولم يكن لها من البأس ما تواجه به موقفاً مخيفاً لامرأة عادية إلى هذا الحد.
في زقاقٍ مغلق قام الخاطف بشد وثاقها، وألقاها في صندوق السيّارة الخلفي، وبعدما بدأ الظلام يُخيّم على المنطقة، استكمل مع أحد أصدقائه مخطط الاختطاف إلى خارج المدينة، ومنها إلى الطريق الدولي بين حمص ودمشق. انطلقت السيارة بها عبر طرق جانبية إلى الأوتوستراد الدولي، وصولاً إلى ريف دمشق، حيث سلّمها «سبيّة» إلى مجموعة من المعارضين المسلّحين (تسمى تجاوزاً «كتيبة»).
لم يعرف أحد عن الأم الشابة شيئا منذ ذلك النهار، ولم يدع الناس رواية إلا اختلقوها. البعض قال إنها اختطفت، والبعض الآخر أقسم أنها هربت مع عشيق مزعوم، فيما أعلن آخرون أنهم شاهدوا جثتها ملقاة بالقرب من حي باب هود بعد أن استهدفها قناص ما.
ولم يهدأ القيل والقال إلا بعد شهر وأيام سبعة، حيث عادت المرأة إلى ذويها في حالة أقرب إلى الموت منها للحياة.
تحدثت المرأة عن محنة بالغة القسوة، والحرج. بقيت أكثر من شهر بين أيدي مجموعة من المقاتلين.
ليس من دواعي الحياء ذكر ما حصل، لكنه من دواعي القيمة الإنسانية التي ينبغي أن يضاء على تفاصيلها ومواجعها. تناوبت على انتهاك جسدها مجموعة كاملة من المسلحين، بلحى طويلة وقصيرة. لم تُسرق منها أنوثتها فقط، بل لعّلها فقدت الكثير من معالم الإنسان الذي يموت داخلنا عند تجربة بهذه القسوة.
عادت إلى أسرتها مهيضة الوجدان، في صدرها أربعة أضلع مكسورة، وفي نفسها المثقلة بالجراح خوف من بيئة أقلّ وعياً من أن تتفهم أو ترحم. لم تعد المرأة ذاتها. هكذا كان حكمُ المجتمع المسكون بمثاليّة الجسد.
الزوج - في بيئة كهذه - لا يُطيق العيش مع امرأة انتهكت «سمعتها»، وإبعادها عن أطفاله رُبّما يُجنبهم بعضاً من تعيير الناس! حتى أنّ فراق أطفالها الأربعة كان ضريبة شبه طبيعية لا يكادُ أحد يعترض عليها!
المجتمع التقليديّ (والتوصيف مخفف للغاية) أقسى من أن يغفر ذنباً لم ترتكبهُ المرأة أصلاً، وأقلّ وعياً من أن يُبلسم جرحاً بهذا الحرج. ذووها وأهلها لم يكونوا أبعدَ موضوعية، لكنهم «مجبرون بابنتهم» كما هي لغة البيئة، فانتقلت لتعيش لديهم أيامها المتبقية، على أمل أن ينسى النّاس مصيبة لم يكن لها فيها يد، وهم لا ينسون عادة.
حملت المرأة معها جرحاً نفسيّاً عميقاً ينبغي لمجتمعٍ بكامله أن يُسهم في بلسمته، فضلاً عن مختصّين نفسيين.
تجربة «السبي» تركت فيها ما هو أكثر أذى من أضلعها المكسورة، ربما لم تكن - والحال هذه - لتشعر بها أصلاً أمام قسوة البيئة الاجتماعية ورجعية أفكارها.
المؤلم - إنسانيّا - في المشهد برمّته أنّ هذه الخطيئة التي ارتكبت بحقّ امرأة (أم، بنت، وأخت) كانت باسم الله!!.. وتحت ذريعةٍ «شرعيّة» نقلتها بين يوم وآخر من مواطنة محفوظة الحقوق، إلى «سبيّةً» يجوز تداولها بين مجموعة من المهمّشين، لم يكن يُعرف لهم شأن اجتماعي قبل أن يحملوا بندقية ويتعلّموا إطلاق النار.. والفتاوى.
واقع حال:
وما يجدرُ إيرادهُ في عموم المشهد، أنه بطريقةٍ وأخرى، عززت الأزمة الصور النمطية للمرأة، وزادت بالفعل من التمييز السلبي تجاهها، وهو ما حذّر منه ناشطون كثر في مجال حقوق المرأة.
كما عرضت العديد من الدراسات الدولية لهذا الموضوع، بأرقام هي أقرب إلى التوصيف منها إلى تلمّس حجم المعضلة الحقيقية. فقد أشار بحث، أجري بدعم من منظمة «اليونيسيف»، إلى أنّ 10.8 في المئة على الأقل من النساء والفتيات السوريات بتن يتعرضن لاعتداءات وعنف جسدي. كما تتعرّض أكثر من نصف النساء المهجّرات إلى تحرّشات مباشرة في مجتمعاتهن المضيفة، خلال الأشهر الثلاثة الأولى من التهجير، وصاعدا.
غير أنّ طبيعة مساحات الاقتتال في الداخل، والتهجير خارج البلد، تجعل إنجاز دراسات دقيقة حول قضايا المرأة تحديدا أكثر صعوبة، وتلقي على استغلالها صمتاً ثقيلاً، يزيد قسوة الانتهاكات.
الأزمات الحرجة تقتل الكثير من الإنسانيّة في وعي الناس، والجهل بتعاليم الدّين يقتل الناس أنفسهم.
الأحلام والمشاريع والأماني تزهق على مذبح الفتنة، والكرامات تراق تحت وطأة السلاح، أمّا عُقد المجتمعات فهي تتفاقم وتستفحل في زمن الأزمة أكثر من أي زمن آخر، إذ لا خطاب معتدلا يضبط أفكار الناس، ولا دولة تضع سقفا واحدا فوق رؤوس الجميع.
قسوة الواقع المستجد أضرت بجوهر البنية الاجتماعيّة السوريّة، وبالسلوك العام لجيل ألفَ لغة العنف وقتال الآخر. لعلّه التحدي الأكثر حرجاً أمام مستقبل البلد، وبناء إنسانه.
علي عبد المجيد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد