ياسين رفاعية.. حوِّل مرضك إلى رواية
منذ أكثر من نصف قرن وفد ياسين رفاعية إلى بيروت، مديراً ظهره لعبق ياسمين الشام ولهديل نوافير المياه التي تتوسط بيوتها القديمة، وميمماً قلبه ووجهه شطر المدينة المشرعة على الحرية والتنوع ووعود المستقبل. ولم يكن ياسين وحده الذي أقدم على هذه المقايضة الصعبة والمؤلمة بين أمومتين: أمومة التراب الأصلي وأمومة الرغبات الملفوحة بأكثر النيران صلة بالكتابة على شاطئ المتوسط. ذلك أن الكثيرين قد وفدوا مثله من دمشق، والأطراف السورية الأخرى، ليحطوا رحالهم في العاصمة التي ضاقت بجميع الأسوار قبل أن تعيدها أنظمة القهر المختلفة إلى بيت الطاعةالعربي. ولم يكن «مجد بيروت» صناعة محلية خالصة بأي حال، بل كانت لمبدعي سوريا اليد الطولى في صياغة معنى المدينة وبناء أسطورتها التي سبقت الحرب بقليل، حيث كان هناك أدونيس ونزار قباني ويوسف الخال ومحمد الماغوط وغادة السمان وفؤاد رفقة وكمال خير بك وصادق جلال العظم ونذير العظمة وعشرات غيرهم.
وفي غمرة هذا الزحف السوري الإبداعي نحو بيروت قدم الكاتب الوسيم ياسين رفاعية إلى المدينة بصحبة زوجته الجميلة المتألقة الشاعرة أمل جراح، ليشكل هذا الثنائي الدمشقي المتميز إحدى أجمل الثنائيات العاشقة في بيروت الستينيات، وليتحول منزلهما الزوجي إلى ملتقى دائم للكتاب والشعراء والنخب العربية المثقفة. وحين انفجرت الحرب العاتية في منتصف سبعينيات القرن الماضي لم يلذ الزوجان العاشقان بالفرار، شأن الكثيرين من الذين انفضوا عن المدينة في محنتها، بل تشبّثا بها أكثر من أي وقت آخر بعد ان رأيا فيها مسرح تعلقهما الجامح بالحياة، والمنصة الأمثل لإطلاق النار على الموت واليأس والعقم الإبداعي. وفي تلك المناخات المتقلبة كتبت أمل العديد من الدواوين الشعرية، وكتب ياسين رواياته وأقصوصاته المختلفة من مثل «الممر» و«العصافير» و«مصرع الماس».
غير أن «اللعنة» البيروتية لم تكن لتترك الثنائي السعيد خارج دائرة الشقاء العام الذي ضرب البشر والحجر، وصدّع الروح والنص على حد سواء. وكما يحدث عادة في الروايات والتراجيديات الإنسانية المختلفة، أخذ قلب أمل في الترنح التدريجي قبل أن يودي بصاحبته بشكل كامل قبل عقد من الزمن، بينما كان على ياسين، الذي يقيم على مرمى أمتار قليلة من منزلي في رأس بيروت، أن يستسلم لوحدة مريرة وقانطة، قبل أن تعيده الكتابة والوله بالفتيات الصغيرات مرة أخرى إلى ساحة المواجهة.
لو كانت لي براعة الرسامين لاستطعت بالتأكيد أن أرسم لياسين رفاعية البورتريه الأكثر دقة وملموسية من الكتابة. فهذا الرجل الوسيم الذي يحبو باتجاه الثمانين لم تفقده الشيخوخة أدنى نأمة من وسامته وظرفه وقدرته على الإغواء. لا بل أكاد أزعم بكل ثقة أن السنين المتراكمة لم تعجز عن النيل من سحر الرجل فحسب، بل أضافت إلى وجهه لمسة من الحنو الوادع والغبطة الأليفة والرقة الآسرة بما يفسّر لنا، نحن أصدقاءه، الأصغر سناً، سبب افتتان النساء به، وبخاصة الفتيات الصغيرات اللواتي لا تغادر شقته واحدة منهن إلا لتدخلها الأخرى على جناح اللهفة والوجد. فالزمن الخؤون لم ينل من قامة ياسين الفارعة ولا من صدره العارم ومنكبيه العريضين. ولم ينقص بياض شعره وحاجبيه من منسوب فتنته وسطوته على مجالسيه حيث يستطيع، بملامح الأب أو الجد المنقسمة بالتساوي بين الدماثة وقوة الحضور، يجتذب إليه النساء والرجال على حد سواء. وهو إلى صوته الجهوري على رخامة، يمتلك قدرة غير عادية على القص وتأليف المواقف وسرد الحكايات المشوقة التي لا تعوزها الوقائع والتفاصيل.
هذا العاشق الدائم للحياة يبكي على أمل الراحلة بعين، ويفتح عينه الثانية على كل نساء العالم ولذائذه وأطيابه. وهو شأن ماركيز في «ذاكرة غانياتي الحزينات» يستدرج قاصراته إلى كمائن اللغة الفاتنة ومخدع الكلمات الآمن. وحين يقررن أن يتركنه عائدات نحو مصائرهن الحقيقية يشيعهن إلى مثواهن الأخير بالدموع والتنهدات، وبرسائل الهاتف المحمول وصوره الفوتوغرافية التي تؤكد وجودهن الحسي، قبل أن يحيلهن إلى قصص وروايات مطبوعة.
ياسين رفاعية الكاتب والعاشق والمجذف الماهر ضد الموت. ياسين الصديق الوفي والجار والمحدث الآسر، الذي حسبته ابنتاي ليلة رأس السنة بابا نويل المحمل بالهدايا والمكسو بثلوج السنين، يرقد الآن في مستشفى نجار في رأس بيروت تحت وطأة المرض ومطرقة آلامه القاسية، وحيداً تماماً إلا من ثلة من الأصدقاء والصديقات الأوفياء الذين تنادوا إلى شد أزره. غير أن ياسين الخارج بنجاح من عملية صعبة في «القولون» لا يأبه لكل ذلك، بل ينتظر أول امرأة يصادفها بعد أن يتمكن من السير، كي يحولها إلى بطلة لروايته القادمة.
شوقي بزيع
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد