دعوا الوهابيّة للوهابيين واستعيدوا إسلامكم الشامي
الجمل ـ بسام حكيم: منذ ربع قرن تقريباً وأخبار الإسلام والمسلمين تتصدر معظم نشرات الأخبار العالمية بحيث لم يعد هناك من نزاع بين أهل الأرض إلا والمسلمون أبطاله أو مشاركون رئيسيون فيه, الغريب في الأمر أن أبشع النزاعات العالمية وأشدها عنفاً وتدميراً في التاريخ الحديث لم يكن للمسلمون فيها أي دور أو مشاركة تذكر من الحرب العالمية الأولى إلى الحرب العالمية الثانية ومن بعدهما الحرب الباردة, والأغرب أكثر أن أعلى الأصوات التي تتحدث اليوم باسم السلام وحقوق الإنسان هي ذات أصوات أولئك الذين صنعوا أبشع حروب البشرية والتي لم يسبقهم إليها أحد وأودت بحياة عشرات الملايين من البشر, فما الذي حدث منذ هذا التاريخ حتى نام المسلمون فجأة ليصحوا والإرهاب يجري في عروقهم فلا يتواجدون بمكان إلا وحولوه ساحة حرب وخراب وإرهاب ؟
ما حصل هو أن امبراطورية العالم الأول متمثلة بأمريكا نامت فعلاً وصحت وقد تبخر عدوها الشيوعي الحقيقي متمثلاً بالاتحاد السوفيتي مما أوجد حاجة ماسة وسريعة لاختلاق عدو مزيف وبديل وشيطنته وتخويف الناس منه للحفاظ على تماسك شعوب هذه الامبراطورية وتوحدّها بمواجهته, ولتبرير استمرارية دوران عجلة مصانع السلاح والحفاظ على الميزانيات العسكرية الخيالية التي ترصدها حكومات هذه الامبراطورية أمام شعوبها. ولأن السرعة مطلوبة في تصنيع هذا العدو المزيف فكان لابد من البحث عن فكرة عالمية غير مُكلفة تستمر بتزييف الترهيب والتخويف لشعوب هذه الامبراطورية بدون أن يكون لهذه الفكرة أي تهديد حقيقي يُذكر, وقد وجدوا غايتهم في عقيدة الوهابيين الصحراوية التي تعتنقها قبائل شبه الجزيرة العربية, فليس أنسب من قبائل مازالت حتى اليوم وفي القرن الواحد والعشرين صامدة في وجه أي حضارة أو مدنية وتملك من الثروة ما يكفي ثلث العالم بأجمعه وتتشارك بعقيدتها مع أكثر من مليار مسلم يتكاثرون كالأرانب ومكلفين بالحج لأراضيها من كل أصقاع الأرض, خصوصاً وأن هذه القبائل أثبتت نجاحاً منقطع النظير في طواعيتها عند تجربتها سابقاً بمواجهة العدو الشيوعي في التجربة الأفغانية.
بغض النظر عما يذكره تاريخ الحروب الدينية في العصور الوسطى من عنف يعتقد أصحاب كل دين فيه أنهم كانوا بموقع الأخيار ومخالفيهم بموقع الأشرار وعلى الرغم من كل ما في تلك الحروب من همجية وسعي لاجتثاث المخالف من جذوره إلا أن الواقع يؤكد أن حداً أدنى من التعايش بقي موجوداً بين المتحاربين باستثناء الجزيرة العربية التي لم تعرف في تاريخها سوى لون واحد هو لون الصحراء, والدليل هو استمرار الوجود المسيحي واليهودي ومذاهب أقلوية كثيرة في معظم الدول التي تقطنها أكثرية إسلامية وخصوصاً بلاد الشام وهي ما يهمني في هذه المقالة.
اعتذر عن الاطالة في هذه المقدمة والتي وجدتها ضرورية كبداية للحديث عن الإسلام الشامي الذي نشأت عليه وترعرت معه في سنين مراهقتي وشبابي والذي أجزم أنه يختلف جذرياَ عما يروَج له اليوم من إسلام بنسخته البدوية المشوهة بفضل الثروة النفطية التي مكنت قبائل شبه الجزيرة العربية من إحلال ثقافتها الصحراوية البدائية محل الحضارة الشامية المدنية الضاربة في أعماق التاريخ، الأمر لا يحتاج لكثير من البحث والتمحيص فبمجرد مراجعة بصرية سريعة لألبومات صور آباءنا وأمهاتنا في الستينات والسبعينات أو الأفلام التي قدمتها السينما السورية في تلك المرحلة ومقارنتها بما نراه اليوم في واقعنا الحالي كفيلة بكشف حجم التشويه الذي حدث في مجتمعنا، فصار مجرد انكشاف خصلة من شعر البنت يثير سخط الآباء اليوم مع أن هؤلاء الآباء أنفسهم عاصروا موضة المايكروجيب وتفاخروا بها!! وتحوّل غطاء رأس المرأة المعروف شامياً بالإيشارب من مجرد زيّ إلى حجاب ذو هوية دينية خاص بالمسلمات، وانتشرت الدعاوي إلى أسلمة المجتمع الشامي وكأن الشاميّون لم يعرفوا الاسلام قبلاً وكأن الشام لم تكن منارة لكل المسلمين!
لم اسمع بالتقسيمات الدينية والطائفية إلا بعد أن جاوزت العشرين من عمري، كنت أرى مُصليّن وغير مُصليٌن، كنت أجلس في رمضان مع صائمين ومُفطرين، كانت معظم المطاعم التي يرتادها الشاميون في سيران يوم الجمعة الشهير تقدم المشروب لمن يريد أن يشرب، كانت علاقات الشاميّين الاجتماعية محكومة بشكل رئيسي بالأخلاق وبعيدة كل البعد عن العبادات والالتزامات الدينية، كانت اللحية حكراً على رجال الدين ودليلاً على وقارهم لا على تديّنهم ولا سعة علمهم، كنت أمضي عُطلي المدرسية في دكان أبي بسوق الصالحية وهناك كنت أرى الجميع يأكلون سندويش السجق والبسطرمة من محل سيروب ويشترون لأولادهم الملابس من محل قصر الأطفال وقد عرفت فيما بعد أن ذاك مسيحي وهذا يهودي, كان معظم التجار يجتمعون في مقهى الروضة وكنت أسمعهم أحياناً يتمازحون بمواعدة بعضهم عند فريدي والتي اكتشفت فيما بعد أنها خمّارة شهيرة وقديمة جداً في شارع العابد, كان الطفل يطلب أن يصوم رمضان ليتشبه بالكبار وكان أهله ينهونه وعندما يُصرّ كانوا يضحكون عليه بصيام درجات المادنة, كان الشاب منا يدخل بيوت أصدقاءه وأقرباءه كواحد من أهل البيت وكان أي اعتراض انثوي يُقابل فوراً برد حازم كهذا مثل أخوكي أو ابنك, كانت الشام كلها تنتظر ليلة الميلاد ورأس السنة بفارغ الصبر لتنزل إلى الشوارع وتضحك مع أناس تفتعل المقالب بغيرها وغايتها بث الضحكة والبهجة في قلوب الجميع, هذا جزء يسير من حالة أهل الشام التي عشتها أنا ولم أقرأ عنها في كتب التاريخ ولا سمعتها من أحد, أما أهل الشام الذين أعيش معهم اليوم فهؤلاء قد يُشبهون أهل الرياض أو الشارقة أو أبو ظبي أو الدمام أو أهل الخوالي وباب الحارة ولكنهم بالتأكيد لا يشبهون أبداً أهل الشام !
في الشام اليوم طفل في الصف السابع يبرر رسوبه بمادة اللغة لأن المعلمة تحقد عليه كونها من غير دينه ! في الشام اليوم أهل شارع العابد الجُدد لم ينزعجوا من صاحب مطعم تمدّد في حارتهم وحولها إلى كتلة من الفوضى بل أزعجهم الجار القديم فريدي فطفشوه وأغلقوا خمارته لأن تقديم الكحول حرام ! في الشام اليوم صار تقديم الأركيلة منكراً يجب النهي عنه فتتشرد أكثر من مائة عائلة لأن أحدهم قرر تغيير هذا المنكر وأوقف بيع الأركيلة في منشأته ! في الشام اليوم زوجة خالي التي ربتني وأعتبرها مثل أمي ترفض مصافحتى لأن المصافحة حرام ! في الشام اليوم إذا أردت زيارة منزل خالتي الذي تربيّت فيه فعليّ الانتظار لدقائق طويلة على الباب قبل الدخول حتى ينتهوا بنات خالتي من ارتداء المانطو والحجاب ! في الشام اليوم أطفالُ يُجبرهم أهاليهم على الصيام في عز دين الصيف ! في الشام اليوم طفلة بعمر الزهور تتحجب حتى لا يفتتن بها الرجال ! في الشام اليوم تنبت للنساء شوارب ولحى لأن النامصة والمتنمصة في النار ! في الشام اليوم بتنا نحكم على أخلاق الرجال من طول لحاهم وعلى أمانتهم من صلاتهم وعلى صدقهم من صيامهم أما الحجيّ منهم فبات مرجع نحتكم إليه في تعاملاتنا ! استبدل الشاميّون أمثالهم الشهيرة ككل الناس خير وبركة وكل مين على دينو الله يعينو بتكفير كل من يخالفهم وإرساله لجهنم ! الشاميّون صارت أغاني حسين الجسمي تطربهم اليوم مثل قدود حلب وصار طاش ما طاش يُضحكهم مثلما أضحكتهم مقالب غوار ! الشاميّون تركوا مصايفهم في الزبداني وبقين وبلودان لأهل الخليج يسوحون فيها وصاروا يستجدون السياحة في دبي وجدة وقطر ! وباتت الشام ترسل شيوخها ليتعلموا الإسلام عند مفتيّين آل سعود وآل نهيان وثاني وثالث بعد أن كانت ترسل لكل أهل الجزيرة أساتذتها ليعلموهم القراءة والكتابة, وصار عبد الرحمن الراشد أشهر من عبد الرحمن الكواكبي ومحمد بن راشد أشهر من محمد كرد علي حتى خرج من بين ظهرانينا أناس تستجدي الحرية من ملك السعودية وتتوسل أن يكتب دستورها أمير قطر!
وهكذا نجحت الإمبراطورية التي تحكم العالم اليوم وعبر رعايتها الكاملة والمباشرة لسلالات الوهابيين بتصنيع قاعدة عالمية تـُرهب العالم بفكرها الإسلامي المشوّه وتحل محل منابعه التاريخية الحقيقية من مدارس الشام الفقهية إلى الأزهر المصري وتظهيرها على شكل عدو يبذل العالم كل ما بوسعه لمحاربتها, بينما الحقيقة أن كل رموز هذا الفكر وبدون أي استثناء هم صناعة أمريكية أو بريطانية بامتياز من أسامة بن لادن إلى عمر عبد الرحمن أو أبو قتادة خطيب جوامع لندن! الحدث الأهم ولربما الوحيد الذي لا تزال أمريكا وحلفائها تحتج به لتبرير استباحتها للقتل والتدمير في العالم هو تفجيرات الحادي عشر من أيلول التي نفذها سبعة عشر سعودياً من أصل تسعة عشر, ومع هذا بقيت السعودية حليفاً استراتيجياً للغرب يزورها زعماء أمريكا وفرنسا وبريطانيا ليُراقصوا حٌكامها بالسيف الذي مازال حتى يومنا هذا تـقطع فيه الرؤوس, وللحديث بقية...
إضافة تعليق جديد