عن شعب يرتحل إلى الماضي لأنه غير قادر على مجاراة الأمم المعاصرة

21-02-2013

عن شعب يرتحل إلى الماضي لأنه غير قادر على مجاراة الأمم المعاصرة

تعدد الوسائل لغاية واحدة

الجمل ـ محمد الحصني : لنتأمل الأحداث التالية:
1- استخدام الساطور لقتل إنسان، مع كل ما يعنيه هذا الاستخدام من مشهد عنيف وقبيح غير مبرر، يزرع في ذاكرة المشاهد، ابشع طريقة للقتل وأكثرها وحشية.

2- اغتصاب النساء في مجتمعات محافظة، وتكريسه ضمن مفاهيم دينية تستحضر لغة السبايا والجهاد.

3- احياء مصطلحات طائفية وقبلية وخلق واقع اجتماعي محتضن لردود الفعل بكامل شرعيتها، ضمن سياق كاذب مشوه لا يمت للحقيقة بصلة، فتسمع أن طائفة ما تقتل! وأن مثلثا طائفيا ما يناضل! وأن صمتا طائفيا ما لا يتصرف! وأن طائفة ما لا تأخذ موقفا واضحا! وأن قبيلة ما لن تسكت عما يجري بحق قبيلة أخرى!

4- تدمير ما يتعلق بالبنى التحتية والآثار والمؤسسات والمصانع، التي يفترض في أي قادم وأي زائل أن يستفيد منها. هي ليست بناء يحطم أو مصنعا يسرق أو لوحة تحرق، هي جزء من ذاكرة وحيوية المجتمع، جزء من تطاول عمرانه لبنى جديدة، أيا كان القادم إلى الحكم أو الحياة من الأجيال الجديدة معني وبشكل مباشر بوجود ممكنات الحياة المتطورة.

5- اسقاط تبعية الخطأ والدمار على عاتق شخص واحد أو أشخاص أو حزب .. وتحميلهم جريرة ما يحصل. بمعنى آخر ابتسار التاريخ ومشاكله بحقب محددة في ذاكرة المجتمع، وربطها بأشخاص وأحزاب. كأن حياة المجتمعات منقطعة عما سبق، فهو (المجتمع) لم يمهد لأي واقع تاريخي! لتبدأ مصطلحات الاجتثاث والافناء، وكأن بعد الاجتثاث والافناء خير يعم ويفيض، بداية جديدة بلا تاريخ ممسوحة الذاكرة. كأن لا وجود لثقافة مجتمع ولا قيم مكرسة بالوجدان الجمعي.

6- تعريض حدود الوطن لخطر الإلحاق بالدول المجاورة، لتعلم وعلى شكل صدمة أن من يفترض أن يكون طامعا أو محتلا قديما للبلاد، تحول إلى محسنٍ كبير وشهم. من كان يتغنى بأرضك ومنذ عهد قريب ويحشد الجيوش على حدودك، تحول إلى داعم لصراع المجتمع الداخلي وهو يتبنى بشكل موضوعي أحد جهات الصراع بدون أطماع أو أحلام! هو الذي سمح باستحضار، بل جلب مقاتلي الأرض بالتمويل والتدريب والإغراء. من كان عدو الأمس، يرسم أفق صداقة الغد؟ وعلى حساب من؟

7- استهداف المسيحيين وأماكن عبادتهم، والاستهداف قد يكون جسديا أو على شكل ضرب مصالح معينة، أو يكون مهذب الشكل، شتيمه في لقاء صحفي، مقال تافه في جريدة، بيان أكثر تفاهة على محطات التلفاز، مع ما سبق تعداده من الساطور والاغتصاب والتدمير والتهديد. مادام الغرب يفتح صدره لاستقبالهم، لما لا؟ هكذا هو المنطق المشوه بكامل عريه الفكري.

8- التهجير. البعد الاجتماعي النفسي فيه أكثر خطورة من الشأن المادي، رغم أن المهجر يترك خلفه أملاكه، لكن لهذه الأملاك شأن نفسي حياتي ربما مستمر منذ 50 أو 100 عام، في الحي أو القرية أو المدينة، لن يتحقق هذا الوجدان في المتحد الصغير الجديد الذي ينتقل له، خاصة أن سبب التهجير غالبا ما يكون طائفيا أو عرقيا. بالمقابل هناك من سوف يستبيح ذاكرة وجوده باعتباره وافدا جديد أو مهجرا من مكان آخر أو غاصب صامت مستفيد.
9- قتل العلماء والخبرات، استهداف لا يعوض أبدا. خاصة عندما يطاول الأشخاص الذين تخصصوا بعلوم جعلت عودتهم إلى الوطن بعد تخرجهم فيها، شأنا خطيرا يتعلق بالأمن المعرفي القومي وبدخول أوطانهم في حقب معرفية منتظرة وذات شأن.
10- تغليف كل ما سبق تحت شعار انتصار ديمقراطية تعددية والخلاص من ديكتاتورية منفردة شمولية. بدون التفكير، بالثمن؟ بالزمن؟ بطبيعة التعددية الحقيقية؟ بعلاقة المجتمع بهذه التعددية الجديدة الوافدة؟ بالمقدمات المعرفية الواجبة لهذه التعددية؟ بقاء هذه الأسئلة مبهمة بلا إجابة واضحة يعني ببساطة سحق إرادة الاختيار الحر مستقبلا بأي مجتمع انتصرت فيه هذه الديمقراطية التعددية. وهذا ثمن مريع.
11- حضور نماذج لمفهوم الدولة من متحف التاريخ الاجتماعي. إمارة اسلامية، أمير، خليفة، الجهاد ضد الكفار، وبأكثر أشكال الحضور قبحا، كأن مستحضر هذا النموذج اصطفى وبشكل متعمد قاصد كل أشكال السيرة البشعة لهذا النموذج.

12- الحدث منقول (أو بالأحرى مدعوم) على نفس المحطات، وهي الظاهرة الأكثر إثارة للانتباه، بتحولها إلى ما يشبه الناقل الحصري في عقول المتابعين، وانتقالها من مفاهيم العمل الصحفي الاخباري إلى مستجوبة للشهود، إلى مقيمة للأحداث، إلى موصفه للجريمة وللضحية والجلاد، إلى صانعه لمفاهيم محددة، تغدو وبشكل مستبد منظومة فكرية يضطر الجميع إلى الانطلاق منها لتوصيف ما يجري، فيصدم المحاور في هذه المحطات أن هذا التحول والانتقال في عملها أدى إلى صدور حكم قضائي بالجريمة، وهو ليس أكثر من متورط بالتوصيف أو بالانحياز أو ربما بالجريمة ذاتها.
من حق القارئ أن ينطلق خياله أثناء التوصيف أن الحديث يدور عن سورية، ومن حقي أن أذكر أن السابق المذكور هو ما جرى في العراق منذ احتلاله 2003.
إذا أعدت قراءة التوصيف ستجد أن التشابه في اشكال ونهج الحدث اكثر من دقيق، وأن نمطية من السلوك في الجريمة مكرر بشكل مذهل، وتستطيع ان تتذكر كل بند على حدى لتتأكد أن ذات الحدث تماما تحقق في كلا البلدين.
الفرق الابتدائي والحقيقي بين الحدثين، ان توصيف ما جرى في العراق من الناحية السياسية يسمى ببساطة احتلال، أما توصيف الحدث في سورية من الناحية السياسية، وهنا تتبخر البساطة عند الكثير، فيغدو الأمر معقدا تستبعد منه تسميات الخراب أو الفوضى، يغيب عنه توصيف الافناء. وإذا تأملنا بالفارق الحقيقي بين البلدين، أن العراق تعرض لاحتلال مباشر خارجي قام بتصفية مؤسسات الدولة (طبعا إلا وزارة النفط) وسوريا لا، نتأكد أن التشابه المؤلم في الاشكال والنهج لا يغفر لأي شعار أو توصيف للحدث، إن لم ينطلق من هذه الإشكالية الفادحة.
ثورة! بأي معنى؟ بأي منهج؟ وتوقيت؟ وبرنامج؟ وأدوات واموال ..؟
حراك! بأي المفردات؟ بأي الأدوات؟ لأي هدف وغاية؟
إذا طرحنا جانبا هذا التشابه في الاشكال والنهج، بما يعنيه أن عيوننا أكبر من دماغنا، نستمع إلى من يتحدث عن شروط تاريخية ثورية، وأن اهدافا مرحلية ربما قابلة للتحقيق، وأن ثقة ما يجب أن توجد بين الأطراف بعد تاريخ طويل من فقدان الثقة. غالبا ما يتبع هذا الكلام خارطة طريق مقترحة لحل سياسي ما. صراحة، هذا المنطق يخبرنا أن لا عبرة بكميات الدم والتخريب، بل ينطلق من أن زيادتها المطردة، تدل على ما يمكن ان يعتبره ابتعاد عن الحل أو تعقيد للأزمة، كأن لا دول تقدم المال والمقاتلين، ولا خطر المحدق بكيان الوطن والدولة والمجتمع، ولا مستقبل وطن موضوع على مهب رياح القوى العظمى، كل هذه الشؤون لا تغري (أصحاب الكلام عن حلول سياسية) لتأمل أن الواقع الحالي قد جرف حلولهم، فما بالهم بالآتي من الأحداث؟
تنسحب هستيريا هياج الغباء لحدود تتحدى قدرتنا على تذكر نشرة الأخبار البارحة، فهذا معاذ خطيب يريد أن يحقن دماء السوريين، والنظام الذي رسم بكل الشتائم والأوصاف والنعوت البذيئة عبر عامين يبدو أن التفاوض معه معقول الآن! ليس هذا فحسب، بل كل الأخبار الوهمية التي تسوقها المحطات الاخبارية الصانعة للحدث والداعمة لبطولات وهمية لما يسمى الجيش الحر، من سيطرة على 70% من أراضي الجمهورية السورية إلى قصف القصر الجمهوري عدة مرات وأن رئيس الجمهورية يحيا على بارجة روسية قبالة مرفأ طرطوس ولا يعود إلى داخل البلاد إلا ليقابل الضيوف الخارجيين؟ فعلا لا أعلم ضرورة لأن يفاوض من حقق هذه الإنجازات... أو ربما يجب أن نفهم أن القصف الاسرائيلي على 30% الباقية للنظام هي فقط طلقة الرحمة على البقية الباقية المفترضة والوهمية في كيان الدولة السورية؟!
أين تكمن الحقيقية في التوصيف؟ ألسنا نحن من نحيا في الوطن أقدر على الفهم والتدقيق؟
ربما مقاطع الفيديو المفبركة ومنذ بداية الاحداث، كانت تخبرنا أن واجب من يصنع الثورة أن تكون ثورته الأولى ضد مصنعيها ومركبيها ومرسليها ليطهر صفوفه منهم، فليس للكذب والتلفيق مثيل في إجهاض المصداقية خاصة إذا كانت تدعي الثورة... هل أقول أن لا ثورة ومنذ بداية الأحداث الجارية؟ نعم وبهذا المستوى من السخافة، وحذاري أن أنتقل إلى مستويات أكثر تعقيد.
أو ربما انتقلت السياسة الامريكية إلى مستويات جديدة ومدهشة في فكرة خصخصة الحروب، حيث كتب مفكروها في السنوات الاخيرة الكثير عن هذا الموضوع (حروب الامبراطورية السرية).
أو ربما باختصار (ليقصف طيرانك يا اسرائيل مواقع في الكيان الشامي بالمقابل نحن نصدر مذكرة لاعتقال السيد حسن نصر الله) فالعلاقة ليست علاقة تبعية أو سيد وعبد أو تحالف، بل علاقة تتمة أو بالأصح عضوية كالرأس والجسد.
إن الوحيد الثابت والواضح أن جيش الوطن وبخطة قوية جدا حتى الآن مازال سيدا وحارسا جبارا، وأن رئيس الجمهورية هو من فاجأ الجميع ووضع مخطط واضح ببنود متسلسلة لتغيير وجه سورية إلى الأبد ... وحقق منها الكثير كما وعد.
بقيت قصة صغيرة لا بد ان تحكي عن بلد قريب منا تعرض للاحتلال من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، حيث استخدمت أمريكا في حربها عليه أسلحة مصنعة بمكونات اليورانيوم، من الرصاص إلى قذائف الدبابات والمدفعية إلى مختلف انواع القنابل الذكية والغبية، وتقول الدراسات أن صاروخ (كروز) مثلا يحتوي على 800 رطل من هذه المادة، ليتبين مع الدارسين أن كمية اليورانيوم المرمية في ذلك البلد أربعة ملايين رطل، تزيد أو تنقص قليلا. لنكون فكرة واضحة عن مفعول هذه المادة يقول الخبراء أنفسهم أن انفجار هذه القذائف يؤدي إلى تحول اليورانيوم إلى جزيئات دقيقة جدا جدا، وإذا تنفس جندي أمريكي (لنضع السكان المحليين جانبا) ولو أقل من غرام واحد، فهذا يعادل إجراء كشف بأشعة إكس كل ساعة في كل الزمن الباقي من حياته التي قصرها هذا الأثر.
حسنٌ، لتكون القصة أكثر تبسيط. قرر ادميرال سابق للعمليات البحرية الهندية أن يعرف كم تماثل هذه الكمية من الاشعاع ليعبر عنها برقم يستطيع العالم (خاصة غير الامريكي) أن يفهمه بسهوله. فأجرى مقارنه قريبة بين كمية الإشعاع من القنبلة النووية التي ألقيت على ناغازاكي في اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية، وكمية الإشعاع المرمي في هذا البلد.
حسب الادميرال في الهند عدد الذرات المشعة في قنبلة ناغازاكي وقارنها بالملايين الأربعة من أرطل اليورانيوم، الأمر أعقد من ذلك بكثير، ولكن جوهريا هذا ما فعله خبراء الهند.
فكان السؤال الفاجعة على الشكل التالي: كم من قنابل ناغازاكي يعادل الإشعاع الذي في الحرب على لذلك البلد؟ ليكون الجواب القاتل: 250 ألف قنبلة نووية. نحن هنا نتحدث عن العراق والاحتلال الأمريكي له عام 2003م، ولمن يشك بالرقم يستطيع العودة إلي دراسة (بوب نيكولز) المنشورة في مجلة المستقبل العربي، عدد آب 2005م.
وللعلم أدخلت مادة اليورانيوم إلى مجال الصناعات العسكرية (الرصاص والقذائف والقنابل) في عهد رونالد ريغن، فلا عجب أن أطلق على هذا الرئيس اسم للتدليل الشعبي له (Ronnie Ray-gun) (روني البندقية المشعة) شعب لطيف أليس كذلك؟
أمام أمة ساقطة اخلاقيا بهذا الشكل، لا تحكمها سوى مفاهيم الإبادة، منذ تأسيسها (أبادة الهنود الحمر) إلى الآن وبهذا الشكل القذر والغير مسبوق من الحروب حول العالم.
ما هي طبيعة العقل الذي يطلب الأمة الأمريكية أن تخلصه من نظامه السياسي؟ مها كان شكل هذا النظام.
من هو هذا الناشط الإنساني أو الحقوقي الذي ينطق من منابرها الإعلامية؟ عن ماذا يتحدث؟
ما هي طبيعة أي تجمع أو حركة أو فرد يناهض دولته العداء ويعقد الاجتماعات واللقاءات مع مؤسسات تلك الأمة، الحكومية أو الخاصة، في سبيل بناء نظام سياسي جديد في دولته؟
في تشابه الاشكال والنتائج لغة قديمة جديدة، لعصر قادم، تتسطح فيه تضاريس عقولنا وبلادنا .. و مايسترو أمريكي يبتسم لوجوه ليبرالية صفراء اللون.

الجمل

 

التعليقات

تحليل رائع ... وللأسف مازالت بعض العقول مغيبة ... إن الضلالة تدعو نفسها رشدا !!

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...