محمود درويش «في حضرة الغياب»
فاجأنا محمود درويش في كتابه الأخير «في حضرة الغياب» منذ العبارة الأولى على الغلاف الأول، حيث لم يذّيل عنوان المجموعة كالعادة بكلمة شعر أو بلا شيء يقابله.
مما أعطى انطباعاً قوياً بأن كلمة «نص» الموجودة في أسفل العنوان تعد بالكثير من المفاجأت إذا ما حسمنا امرنا وبدأنا القراءة بين دفتيه..
رغم أن الكثيرين يعتقدون بأن درويش كان قد بدأ برسم مسار آخر لنفسه منذ زمن طويل نسبياً يعود الى منتصف الثمانينيات إلا أن انعطافة «في حضرة الغياب» تعد الأكثر شدة وانقلاباً، فشاعر القصيدة الموزونة والمقاومة جنح أخيراً إلى كتابة النثر وقد يهرع كثيرون الآن للاستقواء بكتابته هذه والاستدلال بها من أجل تكريس مكانة النثر كفن شديد الالتصاق بالشعرية والشعر رغم ما يقال عن انتهاء تلك المعركة التقليدية التي نشأت منتصف القرن الماضي بين ولاة ألوان الكتابة المختلفة.
يقوم درويش بعملية نفسية معقدة يحاكي فيها نفسه فيما يشبه مرثية طويلة تعيد نبش الوجع الفلسطيني على نحو أكثر حدة وألماً. ذلك أنه على ما يبدو استطاع الخلاص من الاعاقات السابقة كلها التي حكمت تفاصيل تلك المأساة وغيبت جزءاً مهماً منها يتصل بتجربة الكتاب كأشخاص لهم تاريخهم الذاتي ولهم أحداثهم ورؤاهم، لذلك فهو يفتتح ديوانه الجديد ببيت مالك بن الريب الشهير: يقولون: لا تبعد وهم يدفنونني/ وأين مكان البعد إلا مكانيا.
تحوّل درويش هذا لا يقتصر على شكل الكتابة فقط، وإنما أصاب المضمون أيضاً وهو يأتي بعد عدة تلميحات ودلالات حملتها مجموعاته السابقة التي كانت تنذر رويداً بقرب حدوث هذا التحول دفعة واحدة، فالتغير هنا يبدو منطقياً ولازماً وذلك انسجاماً مع عدة اعتبارات ذاتية تتعلق بتجربة الكاتب في مراحله المختلفة ولها صلة أيضاً بتطورات الهم الفلسطيني والانقلابات المتعددة التي تعرض لها، ويكفي ان نشير هنا إلى الكثير من الدراسات النقدية الخاصة بالشعر الفلسطيني بعد اتفاقات أوسلو حيث لاحظت جميعها أنه انتقل من شعر المقاومة الى جلد الذات والاغراق فيها تبعاً للتغيرات التي طرأت على هذا المسار عموماً، لكن ورغم ذلك فإن كتابة درويش الأخيرة لها علاقة بتطوراته الذاتية تحديداً ولا تتصل بتداعيات سياسية معينة.
إنها الرحلة الفلسطينية القاسية ذاتها، بكل ما تحمله من احتمالات لكنها أشد فتكاً هذه المرة. لأنها تسرد في جانبها الذاتي والشخصي بعيداً عن الشعارات المألوفة في مرويات العقود الماضية، وكأنها جردة حساب كاملة لجميع أغصان الزيتون والكروم والنوافذ التي تركت مفتوحة على أمل أننا سنعود بعد يومين كي نغلقها كعادتنا، ثم نخلد للنوم العميق.. يعيد درويش الحكاية كاملة، لكنه يضيء الجوانب المظلمة فيها، ويعيد إحياء الكلمات الميتة في المشاهد التي قضمتها الثورة حيناً أو غيبتها أحادية الهم كنمط طبع الفلسطينيين عموماً، وتلك مسألة ما كانت لتتم إلا في هذه المرحلة من العمر التي تعد تربة خصبة لهذا النوع من القراءات أو محرضة عليها.
هنا يبدو السؤال مشروعاً عن سبب اختيار درويش للنثر في تعبيره عن تلك الحالة أو المرحلة وهل انحاز إليه لأنه أيسر أسلوباً وتعبيراً من الغنائية المعهودة؟ أم أن درويش أخذ قراره بالتغير هكذا محبة في اقتراف الجديد من ألوان الكتابة انسجاماً مع الجديد من المشاعر والأحاسيس المترافقة مع خريف العمر؟
بغض النظر عن الأسباب والدوافع، فلاشك أن درويش قد قدم زخماً هائلاً بالصور والألفاظ والعبارات كعادته، لكنه في أشد انحيازاته للنثر كان ملتصقاً بأسلوبه القديم المعهود حتى أن التفعيلة كانت تتسلل دون أن يدري إلى الجمل والتركيب فيضطر إلى وضعها بين قوسين حرصاً على التمييز بينها وبين سواها من النثر غير الموزون، بالرغم من أن العملية كانت تظهر إرادية قرر الشاعر من خلالها أن يمزج اللونين في القصيدة الواحدة.
ظل نثر درويش في كتابته الجديدة هذه شديد الالتصاق بأسلوبه القديم المعهود في كتابة القصيدة المفعلة، فتراوحت معظم النصوص بين لونين يتنازعان السيادة وهما شديدا التشابه والاختلاف بآن معاً!
لا بد من الاشارة هنا الى مطبات النثر المتكررة عند درويش في حضوره الجديد، وأهمها التورط بالسرد والحكائية في بعض الأحيان، فظهر وكأنه لم يبلور بعد ماهية النثر الذي يريد، فالتواتر بين القص أحياناً والجزالة والتكثيف في أماكن أخرى يعطي انطباعاً بتردد الشاعر في حسم الخيارات الأسلوبية لديه: «السجن كثافة، ما من أحد قضى ليلة فيه إلا درَّب حنجرته على مايشبه الغناء، فتلك هي الطريقة المتاحة لترويض العزلة وصيانة كرامة الألم..» ص59.
في كل الأحوال، فمن الواضح أننا أمام تجربة جديدة سوف تتضح معالمها بشكل أشد وضوحاً في الكتابات القادمة لدرويش، وأعتقد أنه فعل خيراً بالخروج من عباءته القديمة فربما ذلك يتيح أمامنا استكشافاً مختلفاً يضيف جديداً إلى تجربة الكتابة العربية بشكل عام وقد يشكل عاملاً تحريضياً على اقتحامات كانت مؤجلة حتى وقت قريب.
يبدو أن درويش في مرثيته الطويلة، يتعدى بيت مالك بن الريب الشهير الذي افتتح به هذا الغياب الجديد، ومن يدري فربما يمتد رثاؤه لنفسه كي يطول مرحلة وقيماً وأيضاً أساليب كتابة.!
زياد قطريب
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد