جريمة دمشق فصل جديد في كتاب الخيانة العربية
الضربة قاسية. ليس ما حصل عملاً مفاجئاً في سياق الأزمة السورية، لكنه حدث كبير يصيب أعمدة في بناء النظام في سوريا. وجود شخص الرئيس بشار الأسد، والهرميّة التقليدية في بنية الدولة والجيش، والاستنفار الشعبي الداعم، كل ذلك يساعد في احتواء الموقف. لكن البحث يبقى في مكان آخر، والسؤال المفترض الآن هو: كيف سيكون الفصل التالي من الأزمة السورية؟
النقاش سيأخذ شكلاً يشبه حكايات وسيناريوات الأزمة السورية، من المؤامرة إلى الاختراقات إلى الأيدي الطويلة التي وصلت إلى أعلى هيئة قيادية. لكن طبيعة ما حصل تظل، في جانبها الحدثي، عملية أمنية محكمة، تقدر مجموعات صغيرة على تنفيذها بالنظر إلى تجارب سابقة، وأخذاً في الاعتبار أن الإجراءات الأمنية حول المقار القيادية السورية ليست بالشكل الذي يمكن تصوره في حالة سوريا اليوم. وإذا كان المنفذون يملكون حرفية جدية، فإن النشاط الاستخباري الواسع في سوريا الذي تشارك فيه عواصم العالم كله، من شأنه تسهيل مهمة كهذه، بعدما بات الهدف واضحاً: إسقاط النظام بقتل رموزه!
هذا الهدف كان واضحاً منذ شهور عدة. تمثّل بداية في فشل تحقيق اختراقات على شكل انشقاقات في البنية القيادية الفاعلة، وكذلك بعد فشل استقطاب حشد الدبلوماسيين والموظفين السوريين في الخارج. وظل مشهد الانشقاق من الجيش مشهداً فردياً على مستوى الضباط، وليس ذا شأن نوعي على مستوى الأفراد، إذ إن المعارضة المسلحة لا تحتاج إلى جنود من الجيش نفسه، ولديها الألوف من الشبان السوريين المدربين أصلاً، بل هي تحتاج إلى انشقاق كتائب وفرق عسكرية بكامل عتادها وعديدها، وهذا ما لم يحصل.
قبل أشهر عدة، تلقّت القيادة السورية العليا تحذيرات من أعمال أمنية مباشرة. الرسائل شملت الرئيس الأسد نفسه، كما سائر القيادات الأمنية. ونجاح عملية التفجير أمس، يدل على مثابرة الجهة المنفّذة، ويعطي دليلاً إضافياً على وجود قرار حاسم لدى أصحاب القرار، من عواصم وأجهزة استخبارية دولية، ومن بعض مجموعات المعارضة السورية، بالسير في الأزمة حتى نهاية دموية.
ما حصل أمس عمل واضح، علني، لا يحتاج إلى عنوان. إلا أن الطرف المعارض للنظام في سوريا، ومعه القوى الداعمة عربياً ودولياً، كل هؤلاء لا يريدون تسوية سياسية. هم يقولون لأهل سوريا إنهم يريدون إطاحة النظام إطاحة تامة، وهم في ذلك يعلنون أن الحرب القائمة الآن باتت بالنسبة إليهم حرباً وجودية، وأنهم لا يهتمون بكل أشكال المبادرات أو محاولات إقامة الحوار. وهذا أصلاً ما دلّت عليه الأنشطة المسلحة للمعارضة طوال الفترة السابقة، بما في ذلك عندما جاءت بعثة مراقبين عربية ومن ثم بعثة المراقبين الدولية.
في هذه الحالة، وإزاء التصعيد النوعي في المواجهة المسلحة، والحشد الإضافي للمقاتلين «الأجانب»، وهذا ما لمسناه في لبنان الذي شهد انتقال المئات من العناصر المدربة خلال الأسبوعين الماضيين إلى سوريا، من مواطنين سوريين وعرب، وإزاء الترحيب والتهليل بجريمة أمس، كما ظهر على شاشات الدول الراعية للمعارضة السورية، كما في تصريحات ومواقف معلنة وأخرى مسرّبة... كل ذلك يدعو إلى توقّع جواب واحد من القيادة السورية، وهو الجواب الذي سيكلّف سوريا المزيد من الدماء والدموع.
■ ■ ■
بين الذين سقطوا في جريمة دمشق، أمس، شخص كان محور متابعة أمنية وسياسية وإعلامية خلال العقد الأخير. إنه آصف شوكت، الشخصية الأكثر إثارة للجدل بسبب مواقعه النافذة المختلفة.
محاولات شيطنة الرجل لم تهدأ يوماً، ومصدرها واحد محصور في الولايات المتحدة وإسرائيل وعملائهما في المنطقة. لكن للرجل صورة ليست مظهّرة لأسباب تتصل أساساً بموقعه، وثانياً بطبيعة المهمات التي كان يقوم بها بعيداً عن عيون الأعداء والأصدقاء.
لآصف شوكت دوره الكبير في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، داخل فلسطين وعلى تخومها. ظلّ الرجل حتى اللحظة الأخيرة معنياً، في صورة عملية، بتوفير مستلزمات ومتطلبات قوى المقاومة في لبنان وفلسطين. في ظل رعايته، تعيش قوى المقاومة وكوادرها في سوريا. يلتفت إلى كل شأن يخصّهم، من أماكن العيش ووسائل التنقّل وأحوالهم المباشرة، إلى معسكرات التدريب وأعمال التجهيز، إلى توفير متطلبات وصول كوادر من داخل فلسطين وخضوعها لتدريبات بالغة الدقة والسرية.
مع المقاومة في لبنان كان آصف شوكت شريكاً حقيقياً. لم يكن يوماً يحتاج إلى تكليف أو توصية أو طلب من قيادته للقيام بما يجب القيام به دعماً للمقاومة. وفي حرب تموز التي نعيش في مناخات ذكراها، كان آصف شوكت لاعباً مركزياً، وكان طوال أيام الحرب في قلب غرفة العمليات المركزية التي كانت تنفّذ قراراً مركزياً صادراً عن الرئيس الأسد، بفتح مخازن الجيش السوري ومدّ المقاومة بكل ما تحتاج إليه من أسلحة، بما في ذلك الأسلحة النوعية، لا سيما الصاروخية منها. وأمضى آصف شوكت، ومعه ضباط وجنود من الجيش السوري، وبينهم الشهيد العميد محمد سليمان الذي اغتاله الموساد في الساحل السوري عام 2008، أياماً وأسابيع في متابعة عملية الإمداد النوعية التي سهّلت للمقاومة تحقيق إنجازات كبيرة أدّت إلى هزيمة إسرائيل.
آصف شوكت، رغم كل الاتهامات التي وجّهت إليه في قضايا أمنية وسياسية وغير ذلك، لم يكن إلا واحداً من رفاق الشهيد عماد مغنية. متواضع ينحني عند مصافحة السيد حسن نصر الله، ويسرّه في آخر الليل سماع أخبار فلسطين.
ابراهيم الأمين: الأخبار
إضافة تعليق جديد