النقد نفقاته كثيرة وعائده ضعيف ومكانته الاجتماعية ضئيلة
الناقد د. مجدي توفيق واحد من أبرز الوجوه النقدية الشابة في مصر، استطاع منذ ظهور كناقد في الحركة الإبداعية المصرية والعربية في أوائل التسعينات أن يحقق حضوراً متميزاً بمتابعاته ومناقشاته ومشاركاته الفاعلة، تابع عن كثب الأجيال الأدبية والشعرية التي ظهرت خلال عقدي الثمانينات والتسعينات وحتى الآن، لذا فإن خارطة الإبداع المصري خاصة تكاد تكون حاضرة في رؤيته النقدية، وقد صدر له أخيراً كتابان أحدهما (كيف يحكي النقاد ؟) ورصد خلاله لطرائق الحكي عند عدد بارز من النقاد الكبار، وكتاب آخر (الذاكرة الجديدة) الذي رصد للرواية والروائيين الجدد في مصر، ملامحهم وتقنياتهم وخصائص أعمالهم من خلال قراءة في 19 عملاً روائياً ظهرت خلال الفترة 2000/,2003 هو أستاذ مساعد للأدب والنقد بجامعة القاهرة، وشغل أكثر من موقع في الهيئة العامة لقصور الثقافة، آخرها رئاسته لتحرير سلسلة كتابات نقدية، من أعماله (مفهوم الإبداع الشعري في النقد العربي القديم) و(التراث المصنوع) و(مدخل إلى علم القراءة الأدبية) و(مفاهيم النقد ومصادرها عند جماعة الديوان) و(المعرفة التاريخية للنقد العربي القديم) و(الأدب والحياة)... في هذا الحوار معه نتعرف على رؤيته لخارطة الإبداع والنقد في مصر الآن ومستقبلاً...
صدر لك أخير كتابان نبدأ بأولهما (كيف يحكي النقاد ؟) ماذا تقصد بحكي النقاد وهل لهذا الحكي علاقة بالنص الإبداعي؟ وما أهم ملامحه وهل له سلبيات؟
? أقصد بحكي النقاد أمرين الأول أن يقوم الناقد بإعادة سرد موضوع النص الأدبي، والثاني أن يكون الخطاب النقدي نفسه حكاية من الناقد عن العمل الأدبي وإن لم يتخذ الشكل الحكائي القصصي المعروف، وطبعاً لا وجود لهذه الحكاية إلا من خلال نص أدبي يتحدث عنه الناقد، وتختلف الحكاية النقدية دوماً عن النص الأدبي لأنها تأخذ منه وتضيف إليه وتفسر وتحلل وتركب وتؤدي تشكيلاً نهائياً يختلف عن الأصل إذا قارنا بينهما، وهذا له وجه إيجابي ووجه سلبي، الوجه الإيجابي أنه يعيد بناء النص في خيال قارئ النقد ويقدم له الناقد رؤيته الشخصية للعالم والحياة، والوجه السلبي أنه ربما رسم صورة غير دقيقة أو خاطئة للنص خصوصاً إذا كان الناقد ممن يؤمنون أن عمل النقد هو كشف السلبيات وإظهار العيوب في المحل الأول. والكتاب ينتهي إلى تأكيد أن دراسة آليات السرد النقدي تكشف عن الطبيعة الأدبية للنقد مهما تمسك الناقد بعلميته وموضوعيته، وهذا ما يفتح الباب لقراءة النقد قراءة جديدة بوصفه خطاباً أدبياً يتميز من الأدب بالمعنى العادي بأنه خطاب أدبي يقوم على الأدب وينشأ من خلاله وتعليقاً عليه وليس له وجود مستقل عن موضوعه...
- الكتاب الثاني الذاكرة الجديدة تناولت فيه نصوصاً أدبيةً حديثةً صدرت في مصر بين عامي 2000م و 2003 م، وكانت هذه النصوص روايات (19 رواية) كتبها أدباء يسميهم بعض الناس باسم أدباء الرواية الجديدة، يقصدون أنهم يمثلون موجةً جديدةً في الرواية المصرية، إذا تستطيع أن ترصد لنا المشهد الروائي لهذه الأجيال، ملامحه وطبيعة تقنياته وموضوعاته؟
? أطلق بعض النقاد على هذا الجيل الذي يهتم به الكتاب مصطلح الرواية الجديدة وهو مصطلح يلقى اعتراضات كثيرة تدور حول الشعور بأننا لسنا أمام نوع روائي جديد، وأنا أريد أن نتجاوز الخلاف حول هذا المصطلح والتسمية لأنه خلاف معطل، أريد أن نقرأ هذا الإنتاج لنكتشف همومه وجمالياته بغض النظر عن كونها نوعاً جديداً أو غير جديد، ويسترعي انتباهي بقوة أن كثيراً من هؤلاء الكتاب لا يريدون أن ينخرطوا في الذاكرة التقليدية للأمة، فهم يريدون أن يؤسسوا لأنفسهم قراءات جديدة ورؤية خاصة لعالمهم الذاتي، ويشعرون بأن كثيراً من الهموم التي نناقشها كل يوم قد فقدت حيويتها، وأصبحنا في حاجة إلى أن ننظر وراءها، هذا ما يصنع في تقديري كل كتاباتهم نوعاً من الذاكرة الجديدة تستمد معطياتها من الواقع الذاتي للأشخاص، من خبراتهم المعيشة الخاصة أو من تيار الخيال الذي يغرقون فيه، وهذا ما أنتج صورتين للنصوص الروائية الجديدة في تقديري، الأولى تغرق في الحكايات الصغيرة الهامشية لذوات عادية والأخرى تغرق في تيار حكائي لعالم تخيلي لا يمثل في ذاته خبرات معيشة، وبين هذا وذاك تبرز مقولتان الأولى هي الذات والثانية البيئات المهمشة يجمع بينهما فكرة التهميش على تقدير أن الذات كذلك مهمشة، ويرتبط هذا كله بتصور للغة بسيط قريب من لغة الحياة اليومية وإن يكن منضبطاً فصيحاً وينتقل إلى العامية الصريحة في بعض اللحظات من الحوار أو السرد، وإذا بدا أن هذه الملامح كلها تشكل نوعاً خاصاً أو مدرسة خاصة، فلا بأس، أما الأهم فهو ان ندرك ما تنطوي عليه هذه الملامح من شعور متزايد بأن العالم الشخصي لا يجد الآن تحققه في فكرة الفناء في الجماعة، وهو أمر يعبر بقوة عن طبيعة مجتمعاتنا وارتباط برامج الإصلاح فيها وعجزها عن تحقيق نهضة كاملة أو حداثة ناضجة أو ما بعد حداثة مكتملة الملامح...
ما هي احتمالات المستقبل لهذه الأجيال؟
? عدة احتمالات، أولها أن يشعروا إذا أصبحوا الجيل الأول أن هذا منصب يقتضي أن يكتبوا من خلاله فيفقدوا رؤيتهم الأولى للعالم وطريقتهم الخاصة للكتابة، وهذا ما أستبعده وأتصور أن بعضهم ربما يتعرض له.
الاحتمال الثاني أن يكتشفوا أن هذه الرؤية للعالم تقتضي التحول عن الذات الهامشية التي تحقق ذاتها في عالم هامشي إلى خيار من اثنين، الذات المنسحقة أو الذات المسؤولة، وأنا أرجح الخيار الأول.
الاحتمال الثالث أن لا تتغير رؤيتهم للعالم ولكن العناية بالتركيب الفني والسيطرة على فيض الحكايات الصغيرة يساعدهم على تطوير الشكل القصصي إلى ما هو أكثر امتاعا، وهذا هو الاحتمال الذي أتمناه.
آخر الاحتمالات أن تستطيع تيارات أخرى لا تملك هذه الرؤية للعالم أن تقفز فوق هذا الجيل وتصبح هي جيل الذروة الأشهر والأقوى حيازة لاهتمام النقاد والإعلام والقراء، وهذا للأسف ما أتوقع...
أيضاً ماذا عن احتمالات المستقبل بالنسبة للأجيال الروائية السابقة حيث يرى البعض أنها استنفدت كافة طاقاتها؟
? عادة نبحث عن المستقبل لدى الأجيال الشابة لأن الأجيال الأكبر تتناقص بمقتضى السن، أما عن مقولة أن الأجيال الأكبر قد استنفدت طاقتها فهي مقولة تحتاج إلى مراجعة، على الأقل شخص مدهش مثل نجيب محفوظ الذي تكاد تكون نصوصه الأخيرة (أحلام فترة النقاهة) قصائد نثرية أكثر جرأة في خيالها من بعض ما يكتبه الشباب، وأنا أرى أن كاتباً مثل بهاء طاهر يزداد جمالاً كلما ازداد خبرة وأن كاتباً مثل إدوار الخراط يفتتح اللقاء الحميم بين الفن التشكيلي والفن القصصي في الآونة الأخيرة، وهذه النماذج كلها تدل بوضوح على أن طاقات التجدد لا تنضب بالسن وحدها وإنما لا بد معها من أن تبلغ مهارات الإبداع نفسها سن اليأس، وهو أمر مؤلم جداً وصعب على المبدعين، وفي تقديري أن الأجيال الكبيرة ننتظر منها في السنوات العشر المقبلة أن تحقق قمة نجاحها وخبرتها، ننتظر من أدونيس نجاحاً أكبر من نوبل وننتظر من محمود درويش أفقاً جديداً للقصيدة، وننتظر من بهاء طاهر وجمال الغيطاني ويوسف القعيد ومحمد جبريل حلولاً جديدة لمشكلات الأدب، الآن في لحظة يشعر فيها الناس بأن الواقع السياسي يتهدد أحلام الحضارة التي يحملونها بأكثر مما يوحي بإمكانية تحقيقها وطبعاً الأسماء التي ذكرتها للتمثيل لا الحصر...
كنت في فترة من الفترات وتحديداً أوائل التسعينات الأقرب بين النقاد للأجيال الجديدة في الشعر وقدمت وناقشت أغلب الشعراء إن لم يكن جميعهم، وكان لك دور بارز في دعم ومساندة قصيدة النثر، ومع ذلك تراجع كل ذلك حتى عندما فكرت في إصدار كتاب قدمت الروائيين الجدد على الشعراء... لماذا؟
? بداية إصدار الكتب بالنسبة لي ليس مسألة سهلة ولا أخفي عليك أني أجد صعوبة في أن أرضى عن الشكل النهائي للكتاب، وعلى الرغم من أن الكتابين الأخيرين لي قد صدرا على نحو جيد فأنا أتمنى شيئاً أفضل، وبدا لي أن نشر كتاب عن الشعر يحتاج إلى ظروف نشر أفضل لأن ما عندي عن الشعر أكبر حجماً ويحتاج إلى دقة أعلى في الطباعة والإخراج، ولكني على أية حال لا أستطيع أن أؤجل هذا العمل طويلاً وسأقوم به خلال العامين القادمين مضطرا، وعلى أية حال أعتقد أن تجربة الأجيال الجديدة في الشعر في مصر قد أصبحت مهيأة تماماً للبحث والتحليل، لأن الشعور بأنها تجارب غير مستقرة قد هدأ والحرب ضدها قد خفتت، ساعد على ذلك أن الشعر كله في مصر والعالم العربي يتوارى ولا يكاد يحضر إلا في الأنشطة الاحتفالية ونادراً ما تجد الآن الناس منخرطين في مناقشة قضية من قضايا الشعر سواء كنت حاضراً في مؤتمر أو ندوة أو جالساً في مقهى من مقاهي الأدباء، والندوات التي حضرتها أو شاركت فيها أو تابعتها في العام الأخير بخصوص الشعر لاحظت أن المتحدثين يعتمدون على التقاط بعض الخصائص من الديوان المطروح للحديث عنها، متفادين الحديث عن حركة الشعر بوجه عام أو عن قضية مشكلة دقيقة من قضايا الحاضر الشعري، وهذا كله معناه أن الشعر ينطفئ وهجه كثيراً هذه الأيام، وفي تقديري أن هذه الحالة سلبية ولكن بها بعض الإيجابية، وهي أنها تمثل اللحظة المناسبة للدراسة وهي اللحظة التي يتحرر فيها الدارس من ضغط الرأي العام والإعلام والخلافات الحادة بين الشعراء...
في ضوء كل ذلك كيف ترى لمشهد القصيدة عامة وقصيدة النثر خاصة ؟
? لا أكاد أرى في العامين الأخيرين جدا، فالشعراء يتحركون في المناطق المألوفة وبعضهم قد بدأ ينسحب من المشهد إما بأن يكف عن الكتابة أو بأن يتحول إلى أعمال أخرى، ومن الملحوظ أن الشعراء قد بدأوا يعانون من مشاكل النشر داخل مصر، وهم أفضل حالا خارج مصر، لأن مصر تشهد تراجعاً ضخماً في السلاسل الأدبية والمجلات الثقافية وتقلصاً لمساحة الأدب في الصحف والدوريات، وهذا يأتي بعد زمان كانت فيه مشكلة النشر للشعراء قد أصبحت بسيطة، يقلل من حجم المشكلة أن بعض دور النشر الخاصة مهتمة بهذا الإنتاج وإن تكن نادراً ما تعطي الشعراء عائداً أو مكافأة...
وعلى المستوى الجمالي هناك تراجع ضخم وملحوظ عن قصيدة التفصيلات اليومية الصغيرة التي لم تعد مطلباً جمالياً للشعراء، يصحبه تراجع مماثل عن قصيدة الجسد التي تستخدم الصورة المادية للجسد الغريزي، مع بقاء قصيدة الجسد التي ترى الجسد تجلياً لوجود الإنسان لا لغريزته، وهو أمر يفتح الباب أمام قراء أكثر ويقلل من حجم العداء.
وهناك تحول ثالث مهم وهو العودة الملحوظة إلى المجاز بعد مرحلة كان فيها البحث يتركز على قصيدة خالية من المجاز إن أمكن، تتحرر من البلاغة التقليدية بكل صورها، ويصاحب هذا التحول تحول طفيف آخر خاص بعودة الاقتباسات والتناص بعد غياب، ومع هذا فإن هذه التحولات لم تنضج بعد بالقدر الكافي الذي يسمح لنا بأن نتحدث عن مرحلة جديدة مختلفة عما قبلها لأنها لا زالت تمثل تنويعات على الألحان السابقة لم تصل إلى حد أن تصبح القصيدة حافلة بالمجاز أو ممتلئة بثقافة الاقتباسات كما كنا نرى في الستينيات والسبعينيات والثمانينات.
هل ترى أن هناك جيلاً جديداً من النقاد تشهده الحركة النقدية الآن؟ وما هي ملاحظاتك عليه إن وجد؟
? هناك أسماء جديدة لا شك منها محمد الشحات ومصطفى الضبع، ولكن لا يمثلون كتلة واحدة واضحة المعالم، ولا أستطيع أن أطالبهم بذلك ما دامت الأجيال الأسبق لم تكن فيما بينها مثل هذه الكتل، وأنا أشير تحديداً إلى الجهد العظيم الذي يبذله أستاذنا د. عز الدين إسماعيل في جمعية النقد الأدبي ليواصل الوعي الذي افتتحه من قبل أمين الخولي بوجوب أن يتجمع دارسو الأدب في تشكيلات تساعدهم على تنظيم الحوار بينهم وتطوير عملهم، وربما كان المغاربة أفضل حظاً لأن لديهم بعض التجمعات الرائعة في هذا الشأن، ولكن أرى أن الأجيال الجديدة اهتمامها بالاشتغال بالنقد قليل وهم معذورون لأن نفقاته كبيرة وعائده ضعيف ومكانته الاجتماعية ضئيلة للغاية، فإذا اختلف الناس حول عمل أدبي كان أول ما يفعلونه هو أن ينحوا النقاد جانباً ولا يقيموا لهم وزناً ولعل زملاءنا نقاد السينما والموسيقى في العالم العربي يعانون كل يوم من هذا التقليل الشديد من أهمية عملهم، فهم محمودون من الفنانين إذا مدحوا مذمومين من الناس حينئذ متهمين بالنفاق، وهم موصوفون بأنهم مغرضون إذا ذموا ولا يرى الناس في نقدهم النقد العنيف الجذري الواجب، وهذه الحالة تصور مصداقية الناقد العربي بوجه عام، وهو رجل في قلب الرأي العام ولكنه نادراً ما يستطيع أن يواجه على الرغم من أنه يتقدم لعمله بناء على رغبة الرأي العام في أن يكون لديه من يقوم بتوجيهه...
محمد الحمامصي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد