ترجمة الخيانة المحدد لطبيعة أي نص هو اللغة المشكلة له
من أكثر الأفكار تداولاً في سياق النشاط الثقافي المتعلّق بتقاليد الترجمة أن الترجمة خيانة بالضرورة، مهما بلغ حدّ الأمانة التي يلتزمها المترجِم للنصّ المترجَم (بفتح الجيم).
غير أن خيانة نصّ منقول من لغة إلى لغة خيانةٌ تبدو أقلّ خطراً من الخيانات الشائعة في تقاليد التاريخ السياسي للعالم بأسره، بما فيه منطقتنا العربية المفجوعة منذ تحيّزها في الزمان والمكان بتاريخ مديد من الخيانات التي كان لها - وما زال - دورها الفاعل في جعل هذه المنطقة على ما هي عليه من هامشية وإسفاف في الاتّضاع والمهانة على الصعد كافّة.
(قلب أبيض جدّاً) رواية إسبانية مترجمة تلتقط مفصلاً شديد الإثارة لحدوث خيانة مارسها مترجم فوري، ولكن الخيانة لم تكن ذات نتائج خطيرة بالمعنى السياسي، إذ مضت الواقعة من غير أن يترتب عليها سوى الزواج بين المترجم (الخائن) والمترجمة الرقيبة التي تحتل ما تسميه الرواية منصب (المترجم الأحمر) أي المترجم الرقيب الذي يمتلك حق التدخّل في جميع وقائع النقل الفوري للكلام المتبادل بلغتين مختلفتين، بما في ذلك إسكات المترجم وإبعاده عن العمل. المتحدّثان مسؤولان رفيعا المستوى من الناحية السياسية، بحسب توصيف الرواية: مسؤول إسباني رفيع، ومسؤولة بريطانية رفيعة، وكان المسؤولان مربكين في كيفية افتتاح الحديث الدبلوماسي المجامل الذي بدا متعثّراً ومبتلى بتقطيعات السكوت، فكانت (الخيانة) التي مارسها المترجم الفوري سبيلاً لضخّ الحرارة والحياة في حديث متبادل بدا غير ضروري، وغير ذي جدوى، ثم تحوّل تدخّل المترجم (الخائن) في وقائع الحديث الذي كان يضعه على لساني المتحاورين نوعاً من العبث والاستمتاع بقيادة الحديث إلى مناطق ما كان من الممكن أن تخطر على بال المسؤولَين، كما في هذا النسق الذي قاده المترجم إلى مجرّد رجاء بضبّ حمالة مفاتيح كان المسؤول الإسباني يلهو بتحريكها، وكانت تُحدث ضجيجاً ثقيلاً أزعج أذني المترجم: «لقد ترجمت كما يجب كل ما كانت قالته السيدة ما عدا إشارتها الأخيرة إلى الحرب (فما كنت أريد أن تخطر أفكار على بال مسؤولنا السامي) ووضعت على شفتيها الرجاء التالي: أعذرني. ألا يهمك أن تحفظ هذه المفاتيح ؟ أنا أتأذّى جدّاً في الفترة الأخيرة من الضوضاء، وأشكر لك ذلك.
حافظت ساقا لويسا على وضعهما، لذلك ما إن اعتذر زعيمنا، وقد احمرّ وجهه من الخجل قليلاً، وأعاد في الحال حمالة المفاتيح الضخمة إلى جيب سترته.. حتى واتتني الجرأة على أن أخونه مجدداً لأنه قال: آه إذا عملنا شيئا ًحسناً لا يدعو أحداً إلى مظاهرة كيما نعلم أنه أعجبهم. وعلى العكس من ذلك صممت على أن أقود المحادثة إلى مجال أكثر ما يكون شخصياً، وبدا لي أقل خطراً، وأكثر أهمية أيضاً- «ص 69».
لا تقتصر رواية (قلب أبيض جدّاً) على إضاءة هذا المفصل الدقيق من مفاصل الحياة السياسية الراهنة، بل جابت مناطق عديدة من جغرافية الحياة المعاصرة وأعماق الإنسان، وأرى من واجب القراءة أن ننوّه بهذه الرواية التي أتاحها للقارئ العربي مترجمها علي أشقر، وأن ننوه أيضاً بقيمة اختياراته من الأدب المكتوب بالإسبانية، والجهد الممنهج الدؤوب الذي يمارسه في هذا السياق.
(المترجم الخائن) للروائي السوري فواز حداد تسير في سياق مغاير كل المغايرة، ولا أكتم أن بعضاً من دوافع إعادة قراءتها جاء في سياق استبيان ما كان يمكن أن يكون الروائي الإسباني المعروف (خابيير ماريّاس) قد قبسه من روايتنا السورية بوصفها صدرت قبل نشر الترجمة العربية بثلاث سنوات. ولكن شيئاً من هذه المقابسة المحتملة لم أجده قائماً. إذ تسعى رواية فواز حداد إلى إحداث أكبر ما يمكن إحداثه من صخب وضجيج يأخذ شكل الفضح، وبالحريّ شكل (التجريص) وفق المعنى الشائع للمفردة التي فخمّت السين في (التجريس) ليكون لها الوقع الأقوى والصدى الأنسب، خلال ما رآه المؤلّف نكشاً ونبشاً في وقائع المشهد الثقافي السوري، وهو مشهد رأته الرواية غاية في الرداءة والسوء، حيث يتحكّم في تسييره وضبط إيقاعه ما سمّته الرواية (مافيا ثقافية) مكونة من مهووسين منحدرين من بقايا يسار بائد، خانوا ما كانوا يؤمنون به، وريفيين خبثاء وأنجاس محكومين بعقد نقص في مواجهة الحياة الدمشقية، مع حرص الرواية على جعل تسمية أكثرهم شرّاً (محسن علي حسن) دليلاً على انتمائه إلى فئة ريفية (سورية) مثقلة باتهامات لا حصر لها، لا يناسب هذه المادة عرضها. بينما يكتفي المثقفون الدمشقيون بمن فيهم (المترجم الخائن) بممارسة أدوار الضحية.
إن ابتلاء الرواية بالسعي إلى قول (كل شيء) والتشهير بـ (كل شيء) من منطلق بدا كيديّاً في مواضع عديدة جعل قارئها يضرب في عدد من الدوائر المنفصلة والمتداخلة في آن واحد، وفرض على حركة الانتقال من دائرة إلى دائرة - لا من خطّ سردي إلى آخر - حالة من التخبّط المنفلت من الضوابط الفنية المنشودة في مثل هذه الانتقالات على مستويي الجهر والإضمار. فالرواية على سبيل المثال تعرّض بأعمال روائية كتبها روائيون ريفيون وفدوا إلى دمشق، ولم يفعلوا سوى التحدث عما سمته الرواية - وهي محقّة - بطولاتهم الجنسية: فالصحفي (شريف حسني) مع أن قصصه كانت هادفة تكشف خفايا العلاقات في المجتمع البرجوازي المديني المتعفّن بمقارنته بالعلاقات الريفية البسيطة الحميمية والدافئة: الضيعة، البيوت الطينية، ليالي الحصاد، الطبيعة الخلابة، الحيوانات الأليفة، وبالمقابل تهجو المدينة الفاسدة المفسدة لبراءة وعذرية القادمين من السهول الخضراء والمرتفعات الشماء، بأسلوب واقعي خشن، فلا توفر بطولة جنسية لم يقم بها الشبان الطيبون مع الزوجات الشهوانيات للتجار الأغنياء الباردين جنسياً المشغولين عن زوجاتهم البيضاوات اللحيمات بمشاريعهم ودكاكينهم والبيع والشراء وحساب غلّة آخر اليوم - ص 29. ربما لا يخفى على متابع الرواية السورية أن هذا التوصيف يتجه إلى أحد المشاهد المكونة لـ (ألف ليلة وليلتان) لهاني الراهب حيث يلتقي المحافظ عباس (الضابط السابق ذو الأصل الريفي) بزوجة شابة لتاجر دمشقي مسنّ كان يستثمر شبابها في إنجاز صفقاته التجارية.
وتتناول الرواية في نسق آخر حالة الذين تصنّعهم بيروت وأجواؤها الثقافية المفتوحة لتعيد تصديرهم إلى وطنهم السوري والعالم مثقفين كباراً لامعين ومعارضين سياسيين: «فكانت الإقامة في قبلة الفكر والفن فريضة لا بد منها ليغسل الكاتب قلبه وروحه وقلمه من تأثيرات القمع والطغيان، فيجري طبخه من جديد حسب آخر الوصفات الفرنسية المجرّبة، مع بهارات تفنيصية لبنانية أُضيف إليها أخيراً لمسات أمريكية أشبه بالوشم تعيد تأهيله فكرياً. وعادة يسارع الأدباء والفنانون توفيراً للوقت.. بوصف أنفسهم بأنهم معارضون أحرار مطاردون أو مغضوب عليهم، أو منفيون بإرادتهم، يتطوعون فور وصولهم لفضح النظام السوري والاعتراف بلبنان مستقل ليثبتوا ولاءهم للحرية فنافسوا الأحرار اللبنانيين في التشهير بسورية عربية بعثية قومية مناضلة صامدة ممانعة.. إلخ وبالمقابل يُكافأ الواحد منهم على جسارته بتنصيبه مفكراً حرّاً، أو شاعراً لافتاً، وإن اقتضى الأمر روائياً فذّاً، وربما سينمائياً خارقاً..- «ص 128، 129».
يمكن الذهاب إلى أن معظم العلّة في (المترجم الخائن) تكمن في مطّ النص وتطويله لجعله يشتمل على (كل شيء) غير أن الأساس في هذه الالتفاتة إلى الصلة بين الخيانة والترجمة ما تستدعيه هذه الصلة من ممكنات قائمة في حيّزي الإمكان والطموح إلى آفاق مفاجئة ومدهشة تتكثّف في الثراء الناتج عن المغايرة التي تنتاب نصّاً ما خلال نقله إلى لغة أخرى. إن نقل أي نص إلى لغة أخرى هو خيانة بالقوّة للنص المنقول، فلا مفرّ من ممارسة مثل هذه الخيانة مهما سعى المترجم إلى الانحباس والتقيّد بحدوده.
المحدّد الأساس لطبيعة أي نصّ - سواء أكان النص مؤلّفاً أم مترجماً - هو طبيعة اللغة المشكّلة للنصّ، فالنص المترجم إلى العربية يخضع بناؤه، وتنظيم أنساقه، وصوغ جمالياته الفارقة، وإطلاق دلالاته.. إلى الطبيعة الخاصّة التي تميز العربية وتجعلها لغة مختلفة عما عداها، وهذا ما يتّسق مع ما ذهب إليه العالمان اللغويان الأمريكيان (وورف) و(سابير) اللذان يريان أن طبيعة لغة ما هي المحدد الرئيس لمختلف الأجناس الثقافية - لا الأدبية فقط - المنتجَة بواسطة هذه اللغة. وفي سياق التنويع على هذه الفكرة يستبعد المرء- على سبيل المثال - إمكانية إنشاء تآليف ثقافية ذات شأن بوساطة لغة لا يتجاوز عدد مفرداتها ألف كلمة كما في بعض اللغات المحلية التي لا تزال مستعملة لدى مجموعات لغوية مبعثرة في مجاهل أفريقيا التي يُفترض أن تكون قد خرجت من نطاق المجهول.
لا يناسب هذه المادة جعلها مطية لقول جميع ما يمكن الهجس به في هذا السياق غير أن الإغراء الكبير الذي تطرحه على الذهن فكرة الخيانة الممارسة عبر الترجمة تجعل الاندفاع في تأمل نتائجها وتوضّعاتها النصّية أمراً مسوّغاً وممتعاً في الآن ذاته، فنقل أي نص إلى العربية يعني في جملة ما يعنيه رفد الثقافة العربية ببعض قليل مما تحتاجه في المجالات كافة. ومن طبائع الأمور أن يصير ما يُصاغ بالعربية - بغض النظر عن مرجعياته النصّية وآليات إنتاجه - جزءاً من الثقافة العربية المتحددة (بالقوة) بطبيعة لغتها. ووفق هذه الرؤية، يحق للقارئ أن يطمح إلى أن تكون عملية الترجمة، بوصفها خيانة للنص الأصلي، إلى فرصة يمارسها المترجم لإنتاج نصّ جديد موافق للنص الأصلي، ومختلف عنه في الآن ذاته، من غير أن يغيب عن الذهن أن أي اختلاف يندرج، أو يُفترض أن يندرج - في سياق الثراء والإثراء على حد سواء.
د. صلاح صالح
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد