الثورة بين الاستبداد والوصايـة الدوليـة
تمارس تركيا ومن ورائها الغرب الوصاية على سوريا. لم يسبق لدولة أن وضعت جدول أعمال دولة أخرى على هذا النحو من الإملاءات. ليس هناك دبلوماسية بهذا الشكل. ما يجري في سوريا كبير وخطير وشلال الدم لم يتوقف منذ ثلاثة أشهر. لا شيء يبرّر عنف النظام ولا تأخير ثم تعثر العملية السياسية التي أعلن استجابته لها ونواياه في الإصلاح. لكن لا شيء يبرّر لأي طرف خارجي أن يتصدّر قيادة عملية التغيير ويضع نفسه بديلاً عن خيارات الشعب ويحدد ما يريد الشعب وما لا يريد. تجاوزنا فعلاً ازدواجية المعايير التي يتعامل بواسطتها المجتمع الدولي مع حقوق الشعب والإنسان إلى تجليات من السلوك الاستعماري العنصري الذي يستهين بالكرامة الوطنية. تجرّعنا تدريجياً هذا التدخل الأجنبي لأننا ندرك العلاقة العضوية بين الاستبداد وضعف المناعة الوطنية. قبلنا ونقبل مكرهين كل تدخل تحت شعار حقوق الإنسان وحماية المدنيين من قبل ما يسمى «المجتمع الدولي». لكننا حتى اللحظة لم نجد في هذا التدخل «الأطلسي»، من ليبيا إلى غيرها، ما يفيد أن حقوق الشعوب وحقوق الإنسان هي التي تصان أو يمكن أن تصان من وراء إدارة هذا الصراع وهذا العنف، وصولاً إلى بسط النفوذ الأجنبي بشكل أكثر فجاجة من ذي قبل وبشكل أكثر ظلماً وأكثر كلفة من الأوضاع العربية المزرية. المسألة لا تقف عند هذا الحد. إن التوتر على الحدود السورية التركية يؤسس لانفجار خطير في المشرق العربي. إذا تصرفت تركيا على أنها الوكيل الإقليمي المفوّض بإدارة هذه المنطقة، وقد صار موقفها أكثر وضوحاً إلى أية مصالح يهدف وفي أي اتجاه تخطط للنظام السياسي، فهي تستدرج وربما بدأت تستدرج المواجهة مع إيران. هذه المواجهة يريد الغرب لها أن تقع بدليل التهديف الدائم على دور إيران في دعم ومساعدة النظام السوري على قمع الاحتجاجات الشعبية.
وبقطع النظر عن المعلومات أو التفاصيل فلن يكون ممكناً إسقاط النظام في سوريا إلا بعد نشر الفوضى من حدود البحر المتوسط إلى الخليج العربي. ولن يتشكل نظام إقليمي إلا على ركام من الحروب الصغيرة والكبيرة التي تغطي فيها النزاعات والمصالح الدولية والإقليمية على حركات الشعوب المطالبة بالحرية.
لا نمارس دور الواعظ ولكن دور الناقل لحدود ما يعرف بالتجربة، وليس فقط بالنظر، لمخاطر هذا المسار الذي يطيح بإنجازات الشعوب وليس فقط بمواقع الأنظمة. لسنا نقول إن الشعوب العربية غير مؤهلة لممارسة الديموقراطية. ولا نقول إن ثقافة المنطقة وهويتها التاريخية تشكلان عائقاً معطلاً للتقدم والديموقراطية. لكن هذا التشابك بين إرث التخلّف السياسي والاجتماعي وبين المشروع الإمبريالي ليس مسألة ثانوية.
هكذا يصعب الانتقال إلى الديموقراطية الفعلية، بمعناها الإنساني العميق لا بصندوقة الاقتراع الشكلية، ما لم تسيطر الشعوب على مصائرها بوعي وتجد حلولاً لمشكلات معقدة مثل القبلية والطائفية والجهوية والتطرف والعصبيات الدينية والتدخل الخارجي. ليس الاستبداد فرداً وإلا لما كان أسهل من تغيير التاريخ.
الاستبداد بنية متكاملة اجتماعية تحتاج إلى تفكيك بأدوات الحرية والأحزاب الديموقراطية والمشاركة السياسية وبترسيخ منظومة قيم مختلفة في العمل والإنتاج والمساواة وتكافؤ الفرص ورفض منطق الامتيازات. تجمع الشعوب على الحرية والديموقراطية وعلى ضرورة التغيير وعلى إزالة الاستبداد، وهي مَن يكسر القيود السياسية. لكن الشعوب تعيد إنتاج سلطة عليها أن تضمن أفضل ما يمكن أن تكون. الثورة لحظة انفجارية تاريخية أما بناء الدول فمهمة تاريخية دائمة. هكذا يختلط أحياناً الفارق بين الانقلاب والثورة. ليست حاجتنا إلى انقلابات في السلطة بل إلى ثورات تعيد بناء الدولة على الأسس التي تلائم حاجات الشعوب وطموحاتها. الثورة اندلاع غير مسبوق لكل عناصر التدخل السياسي والأمني والاجتماعي والثقافي في الداخل والخارج. ما يحدد مستقبلها توازن القوى لا الأفكار والبرامج وحدها. كلما ضعفت مقوّمات الداخل غلبت المصالح الفوقية البعيدة عن مصالح الشعوب.
ما يعنينا الآن رؤية الموقف الدولي وهو يتفرق ويجتمع مع هذا وضد ذاك. من السذاجة التعاطي مع هذه المواقف بمنظور المبادئ بعد أن استهلكت نفسها في العراق واليمن وليبيا والسودان وفلسطين. لن نسأل لماذا يمارس المجتمع الدولي كل هذا الحماس في توقيع العقوبات وإدانة سلوكيات الأنظمة ويوفر كل هذه الحماية لإسرائيل. لكننا نسأل عن طبيعة التغيير الذي يريده المجتمع الدولي وإلى أين يدفع النزاعات الداخلية والإقليمية؟! من المؤكد أن الحراك العربي حاجة تاريخية فرضت نفسها وأن «الشعوب» ليست مسؤولة عن مأزق النظام الرسمي العربي الذي ينهار تاركاً خلفه المآسي والدمار.
لكن الشعوب ليست فاعلة خارج القوى والتيارات السياسية التي تقودها وتضع لها خطوات حركتها ونشاطها. فهل تتصرف هذه القوى والتيارات المؤطّرة الفاعلة بمسؤولية عن ضرورة التغيير وضمان المسار الديموقراطي أم ستنزلق إلى حيث تتحوّل وسيلة إلى تحقيق أهداف عند اللاعبين الكبار الدوليين والإقليميين؟
ما ندعو إليه هو التفكير في برنامج التغيير وخطواته وقواه وعلاقاته وضماناته وليس العزوف عنه. إن المنطقة كلها في دائرة التصدّع الخطير.
سليمان تقي الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد