المسيحيّة العربيّة في تحوّلات شهادتها الفكريّة
يعتقد بعض المسيحيّين العرب أنّ شهادة الإيمان المسيحيّ الناشبة في العالم العربيّ منذ القرن الأوّل الميلاديّ قد تستطيع أن تضرب في الواقع العربيّ بالسهم الفائز وأن تفعل فيه فعلها الخلاصيّ لو تناصرت عليها أحوالُ السياسة والاجتماع. بيد أنّ من يروم الإنصاف في هذه القضيّة يذكر المسائل بأعيانها ولا يرسل الكلام على إطلاقه. وحقيقة الأمر أنّ الفكرة المسيحيّة في العالم العربيّ ما آزرتها يمينُ الاقتدار السياسيّ، فاضطرّت إلى الانكفاء إلى حالة البذار الخفرة والخميرة المنحجبة والفعل الروحيّ اللطيف. وما في ذلك من ضير لولا انقلاب المقاييس في تصوّر شروط الشراكة العربيّة. والمعلوم أنّ الرأي السياسيّ السائد في المجتمعات العربيّة ما فتئ يربط مقدار الحضور والإسهام بالأحجام والأعداد والتحالفات السياسيّة الإقليميّة والعالميّة. فإذا كان الأمر على هذا النحو، عجز المسيحيّون العرب، حتّى في لبنان، عن مجاراة حركة الاقتدار السياسيّ، واضطرّوا إلى الاعتصام بحياة الروح وشهادة الفكر. وربّ سائل يسأل عن ملازمة المسيحيّين العرب لمثل هذه الحالة منذ الفتح الإسلاميّ. ذلك أنّ هذه الوضعيّة هي الوحيدة التي أتاحها الإسلامُ، في أفضل اجتهاداته الدينيّة، حين آثر صون التنوّع الدينيّ في داخل الأمّة الإسلاميّة مشترطاً الولاء السياسيّ للأنظومة الإسلاميّة الفقهيّة.
ولكنّ التاريخ يؤثِر لنا أنّ المجتمعات الإسلاميّة العربيّة، منذ القرن السابع حتّى القرن الحادي والعشرين، تعاقبت عليها أنماطٌ شتّى من الحكم وحالاتٌ متنوّعة من الاقتدار والانكسار، ومن التقدّم والتأخّر، ومن الرفق بالآخرين والعنف عليهم. ومن جرّاء تطوّر الوعي الإنسانيّ الكونيّ، سرى إلى العقل الإسلاميّ العربيّ شيء من العدوى اضطرّته إلى الاجتهاد في تناول المستجدّات الفكريّة والمستحدثات البنيويّة في الاجتماع البشريّ، ولا سيّما في عصر الأنوار الأوروبيّة وما استتبعه من ثورات وتفوّرات واعتمالات عميقة في التفاعل الإنسانيّ بين الحضارات.
وتبيَّن أنّ المسيحيّين العرب، على تراخي الأيّام وتعاقب هذه التحوّلات الفكريّة والاجتماعيّة، كانوا يسعون على غير كلل إلى الإفصاح عن خصوصيّتهم الروحيّة والفكريّة من داخل انتمائهم الثقافيّ العربيّ. وقد يجوز الحديث في هذا السياق عن ثلاثة تحوّلات فكريّة بنيويّة اختبرها هؤلاء المسيحيّون في شهادتهم وفي بناء وعيهم وموقفهم الكيانيّ الشامل من مسألة الشراكة العربيّة في المعايشة الحقيقيّة والمؤازرة الفاعلة. ومن البديهيّ أن ينشأ كلّ تحوّل من هذه التحوّلات من وضعيّة ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة كانت تفرض على الوعي العربيّ نسقًا معيّنًا من الانتظام والتصرّف والتدبير. وكلّما تبدّلت الأحوال الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة تطوّر الوعي العربيّ في شقّيه المسلم والمسيحيّ، وانبرى المسيحيّون العرب يبحثون عن صيغة ثقافيّة جديدة بها يُفصحون عن خصوصيّة روحيّتهم وطبيعة إسهامهم وصدق التزامهم.
ولقد نشأ التحوّل الأوّل من وضعيّة الظهور الإسلاميّ وانتشار العقيدة الإسلاميّة والنهج الإسلاميّ في الشرق العربيّ القديم حيث كانت المجموعات المسيحيّة القاطنة في هذه المنطقة تعقل وتنطق باللسان العربيّ وبغير اللسان العربيّ. وبفضل الروح الإسلاميّة الظافرة، تحلّى المسلك العربيّ السياسيّ بقدر كبير من الحكمة والحلم وطول الأناة والاستيعاب. وكان صونُ التنوّع الدينيّ في الأمّة الإسلاميّة من أوجب الضرورات لازدهار الإسلام وتألّقه. فاستحسن المسلمون مقولة الشراكة في حدّها الأدنى، وهو حدُّ فقه أهل الذمّة، لأنّهم كانوا يدركون قيمة الإسهام المسيحيّ في بناء الفكر الإسلاميّ الناشئ وبناء الاجتماع الإسلاميّ المتنامي. ومن علامات هذا التحوّل الأوّل أنّه دفع بالمسيحيّين العرب إلى الوقوف موقف النِدّيّة الكاملة بإزاء الشريك العربيّ المسلم حتّى القرن الثاني عشر. وهو موقفٌ أتاح لهؤلاء المسيحيّين أن يبتكروا مقولة الحوار الحضاريّ الذي يشمل كلّ مناحي الإيمان والعقيدة والعبادات والمعاملات. فحاوروا المسلمين من الندّ إلى الندّ في مسائل هي من أشدّ القضايا اللاهوتيّة دقّةً وخطورةً، عنيتُ بها صحّة الدين الإسلاميّ ومعقوليّة العقيدة المسيحيّة. وما تورّعوا البتّة عن مناقشة المسلمين في مسائل الاجتماع والحكم حتّى إنّهم تجرّأوا على مناهضة المنطق الفقهيّ الذي تستند إليه مقولةُ أهل الذمّة.
بيد أنّ هذا التحوّل الأوّل في الشهادة المسيحيّة العربيّة، وهو التحوّل الذي أتاح للمسيحيّين العرب أن يواجهوا الغيريّة الإسلاميّة في مساءلة ذاتيّة لقابليّات الإقناع التي تنطوي عليها العقيدة المسيحيّة، ما لبث أن غالبه تقهقرُ الخلافة الإسلاميّة وتدهورُ الأوضاع في الشرق العربيّ وانحطاط الفكر العربيّ الإسلاميّ. فاضطرّ المسيحيّون العرب ابتداءً من القرن الثالث عشر إلى العزوف عن هذه الوضعيّة الندّيّة، وما لبثوا أن أيقنوا أنّ نوائب الدهر العربيّ قد تحرمهم من اقتطاف ثمار هذه الشراكة العربيّة الأولى لتقذف بهم في لجّة الدونيّة والتبعيّة. وظلّوا على هذا اليأس حتّى مطالع القرن التاسع عشر، حين رام الشرق العربيّ أن ينعتق من رَبقة الاستعمار العثمانيّ وأن يعيد اتّصاله الفكريّ بالغرب، وهو الاتّصال الذي انقطع في إثر سقوط الأندلس وانكفاء الحضارة العربيّة إلى حالات الاسترهاب واستعداء الآخرين والاستنجاد بمآثر الماضي المندثر.
عند هذا المنعطف التاريخيّ الخطير، انبرى المسيحيّون العرب يختبرون تحوّلاً جديدًا في شهادتهم الروحيّة والفكريّة. فطفقوا ينادون بالعروبة مثالاً حضاريًّا جامعًا للمسيحيّة وللإسلام وحاملاً لقيَم الروح السنيّة. فكانت العروبة هي عنوان الشهادة المسيحيّة العربيّة الثانية التي بها أراد المسيحيّون العرب أن يُفصحوا عن خصوصيّة روحيّتهم وشهادتهم في داخل المجتمعات العربيّة التي كانت راقدةً في سُبات الجهل والخمول. وممّا لا شكّ فيه أنّ مقولة العروبة قد أعانتهم على مناصرة مقولات الثورات الغربيّة من حيث الإصرار على مبادئ المساواة والأخوّة والعدالة. فألبسوها أبهى حلَل الاستنارة الحضاريّة ومضامين الرفعة الإنسانيّة حتّى ظنّ بعضُهم أنّ العرب يحملون في هويّتهم عصارة قيَم الأرض وخلاصة روحيّة المجتمعات الإنسانيّة. غير أنّ الوهج الذي أشعلته مقولة العروبة في مناهضتها لمظالم السلطنة العثمانيّة ظلّ كبريق الوميض المنحلّ بانحلال الافتتان الأوّل. فسرعان ما أدرك المسيحيّون العرب أنّ العروبة لا تقوى على استدخال مقولات الأنوار الغربيّة ما لم تقترن اقترانًا وثيقًا بتأوّل خلاّق للنصّ القرآنيّ. وما لبثت الأحداث أن أظهرت صحّة الارتباكات والأوهام التي أسقطت فيها العروبةُ غيرَ مفكّر من مفكّري المسيحيّين والمسلمين في العالم العربيّ. وينضاف إلى هذا كلّه سوءُ الفعل السياسيّ الذي كان يستظلّ بالعروبة سعيًا وراء السلطة. فأثبتت الأنظمةُ السياسيّة العربيّة الناشئة أنّها العلّة الأولى في احتضار العروبة وتحنيطها ودفنها.
هذا في التحوّلين الأوّل والثاني. أمّا التحوّل الثالث، فهو الذي استهلّه العقل العربيّ المسيحيّ في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين. وهو تحوّلٌ آخذٌ في الظهور تلبيةً لمقتضيات الوضعيّة العربيّة التاريخيّة المعاصرة التي جرّدت المجتمعات الإسلاميّة والعربيّة من عناصر خصوصيّتها وأسباب قوّتها وعوامل منعتها، ووضعتها في مواجهة حادّة للاقتدار الإيديولوجيّ والسياسيّ الغربيّ. وليس في هذه العجالة مقامٌ للبحث في أسباب هذا التجريد. جلُّ الأمر أنّ الوعي الإسلاميّ العربيّ المعاصر ألفى نفسه في انكماش وتشنّج وتقوقع على هويّته الجماعيّة الدينيّة، يستنجد بالإسلام ملاذًا لذاتيّته المهدّدة ومنارةً لوعيه المضطرب ومعقلاً لقوّته المشتّتة. ولمّا كان الأمر على هذا النحو، سارع المسيحيّون العرب إلى استنطاق إيمانهم عن أنسب السبُل لنجدة الوعي العربيّ المرتبك المتصلّب. فإذا بهم اليوم ينادون بمبادئ العَلمانيّة الهنيّة والتعدّديّة السمحاء. ويقينهم الأخير أنّ هذه المبادئ هي التي ستسعف المجتمعات العربيّة على تجاوز أزمة الهويّة والشروع في بناء الفعل الحضاريّ الملائم في الزمن الحاضر.
ومع أنّ المسيحيّين العرب، في تحوّلهم الفكريّ الثالث، ينادون بالعَلمانيّة والتعدّديّة، فإنّهم يدركون أنّ العالم العربيّ لا يستطيع الإقبال إلى مثل هذه المنفسحات الحضاريّة ما لم يُقبِل إقبالاً رضيًّا على تأويل النصّ والتراث تأويلاً خلاّقًا يستصفي فيه أبعاد القيمة الروحيّة الرفيعة التي يرنو إليها الإنسان العربيّ في نضاله الفكريّ والاجتماعيّ والسياسيّ. وحده مثل هذا التأويل خليقٌ بتغيير معرفيّ بنيويّ في العقل العربيّ والذهنيّة العربيّة والفعل العربيّ. وكلّ ما عداه طلاءُ زيف وتطفّلٌ معرفيّ باهت. وليس يخفى على أحد أنّ القول بالعَلمانيّة والتعدّديّة قد يوافق الواقع الذي ستنفرج عنه ثوراتُ العالم العربيّ. أمّا إذا تمخّض ليلُ العرب عن صباح سوءٍ، فإنّ التحوّل الثالث والأخير في شهادة المسيحيّين العرب قد يؤول بهم إلى الانكفاء والانقراض والزوال. والحقيقة أنّ المسيحيّين العرب يزولون بزوال الإنسان العربيّ. فإذا قام الإنسانُ العربيّ يذود عن كرامته وحقوقه صونًا لإنسانيّته، قامت المجتمعات العربيّة كلّها. والمسيحيّون العرب، كالمسلمين العرب والعَلمانيّين العرب، من صلب الكيان العربيّ. وليس يملك المرء أن يتكهّن فينبئ عن محجوبات التاريخ العربيّ الآخذة في الانكشاف. ولكنّ البصيرة تقتضي التأمّل المليّ في معاني هذا التحوّل الفكريّ الأخير.
وممّا لا ريب فيه أنّ مضامين التحوّلات الفكريّة الثلاثة إنّما تواطئ مواطأة جليّة روح الإنجيل الذي يروم المسيحيّون العرب أن ينشروا أريجه في مجتمعات العالم العربيّ. وهو إنجيل الحرّيّة وإنجيل الإنسان المنتعش الكيان. وليس يُربك المسيحيّين العرب أن تنغرس الحرّيّة في تربة العالم العربيّ وأن ينتعش كيان الإنسان العربيّ على غير سبيل الهداية الإنجيليّة المباشرة. حسبهم أن يحيا الإنسانُ العربيّ اليوم في هيكل الحرّيّة الداخليّ والخارجيّ. ولكنّ لهم قولةً إنجيليّةً أخيرةً في واقع الإنسان العربيّ. وهم يعتبرون أنّها القولة الأخيرة. فإمّا أنّها تثمر الثمار اللائقة بالإنسان العربيّ، وإمّا أنّها تذوي وتُهمل على قارعة التاريخ العربيّ. واليقين الفكريّ المسيحيّ الأبقى هو أنّ الفكرة الإنسانيّة النبيلة لا تقترن قيمتُها بقيمة السلطان السياسيّ الذي يواطئها. وبما أنّ العالم العربيّ تنتابه اليوم تجاربُ التشدّد والتصلّب والانكماش، فإنّ قولة الانفتاح والتلاقي والتعارف والإقرار الأصليّ بالتنوّع الإنسانيّ الكيانيّ هي القولة الحضاريّة الوحيدة القادرة على إنقاذ العالم العربيّ من مخاطر انحطاطه.
مشير باسيل عون
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد