بعد استقالة الأدباء: الكراجات تتصدى لإنتاج الثقافة البديلة
الجمل ـ سعاد جروس: كشف العدوان الإسرائيلي الوحشي على لبنان، واقع التحالفات السياسية الدولية والعربية، على نحو عريض ومخزي، فالسياسة التي أدارت ظهرها تماماً للعاطفة والحس الإنساني والقومي، وجهت صفعة مؤلمة أيقظت الشارع العربي من غيبوبته، بعدما أنهكه الاحتجاج على احتلال العراق دونما فائدة، ومعه المسلسل الطويل للاجتياحات الإسرائيلية للأراضي الفلسطينية، ما عزز الشعور بالعجز والهزيمة. ليس هذا فحسب، بل وكشف العدوان أيضاً مدى تجذر وطغيان ثقافة الهزيمة، عكستها بشكل صارخ أغاني شعبية تحريضية طفت أيام العدوان، وكانت التعبير الأسرع تفاعلية مع الحدث، والأوسع تمظهراً في المجتمع، نظراً للإقبال عليها في السوق، ليس فقط لملئ مساحات البث التلفزيوني الضائعة بين نشرات الأخبار، وإنما لمواكبة فيض المشاعر الغاضبة من صور البشاعة والفظاعة المتدفقة من الشاشات، وكذلك للشد من أزر الناس، وشحنهم نفسياً لمواجهة الدعاية الحربية المعادية.
خلا الإعلام الحربي الذي تكفلت به "قناة المنار" كطرف واقف على خط النار، لم يسمع الجمهور أغنية جديدة نابضة بالتوهج العارم للمشاعر الثائرة من جراء العدوان والدمار. ولقد نهلت القنوات اللبنانية وبعض القنوات العربية بشكل أساسي من خزان الأغاني السياسية للحروب السابقة كأغاني فيروز ومرسيل خليفة وأميمة خليل وزياد رحباني ووديع الصافي وماجدة الرومي، مع الشيخ إمام وأحمد قعبور وسميح شقير، في استحضار لتاريخ نضالي وهبات شعبية غاضبة مماثلة، لا تفتأ تكرر نفسها، مع فارق أن المقاومة أحزرت نقاطاً قوية لصالح التصدي وإحباط أهداف العمل العدواني، كان ثمنه مكلفاً وباهظاً؛ ضحايا ودمار هائل، إلا أنه لم يذهب هباء، هذا لم تظفر به أغاني المراحل السابقة.
الأغاني الجديدة لم تكن بمستوى المعركة، وإنما جاءت لتعكس هزال ثقافة سائدة مثلتها الكلمة المغناة، فكانت إما لسان حال المستضعفين منزوعي السلاح كأغنية "الوردة أبقى من الدمار" الخالية من الموقف السياسي لتلاءم توجه رقابات عربية ما تزال متفقة لحسن الطالع على الخط الإنساني العريض، كقاسم مشترك يجمع بانسجام غير مؤذ ويؤدي غرض التألم مما يلحق بالبشر من كوارث طبيعية وغير طبيعية، من تسونامي وإعصار كاترينا إلى مجازر جنين و قانا ومروحين ..إلخ. أو هي صوت الشارع الغاضب ليس من العدوان، بل من الحكام، كأغنية شعبان عبد الرحيم "اتنين عساكر"، ويعلن في خاتمتها ملله حيث "زهق من الكلام ومش حيتكلم تاني"، وتكاد تكون الأغنية الأكثر رواجاً وبروزاً في الشارع العربي، كدليل فج على تراجع ثقافة المواجهة والإيمان بقوة الإنسان والحق العربي لصالح معاني الاستسلام والضعف ومناشدة العالم الرأفة.
هذا الفراغ الكبير، خلَّفه المثقفون الكبار وفي مقدمتهم الشعراء الذين نزحوا من ضفة المقاومة الى ضفة التفجع على الإنسانية جمعاء، بعد أن ألقوا البندقية عن أكتاف القصيدة، خيفة الاتهام بالإرهاب، وخشية ألا يعترف بهم العالم المتحضر واهب الجوائز والبركات، أو يرتاب فيهم، لو خدشت رائحة البارود أنفه، حتى لو كان دفاعاً عن حق العيش في الوطن.
لكن كيف طرأ هذا التحول مع أن العدو هو ذاته لم يتغير ولم يتنكر، والقضية ذاتها لم تجد حلاً أو تتحلل منذ أكثر من 56 عام، كما أن العدو من طرفه لم يمل المثابرة على تذكيرنا ببشاعته، كل عقد يفتعل حرباً ومسلسل مجازر، لم يطرأ عليه تغيير من كفر قاسم الى قانا2، وإنما العرب تغيروا وانحلوا وتحللوا وقبلوا باستسلام كبير، تستره ثقافة مزيفة؛ نتاج مثقفي السلطة تصلح تغطية مثالية لعورات السياسات العربية المتضاربة، بالإضافة إلى ثقافة معارضة تلوك الهزيمة تلو الهزيمة، باسترخاء قانع بالأمر الواقع فاقد للإرادة والحيلة، وبمعنى أدق متعيش على ركود واقع يتدرج من سيء إلى أسوأ، وكلا الثقافتين انهارتا في الحرب المفتوحة لتظهر من تحتها فجوة متعفنة لا يجد فيها الشارع كلمة ترفع معنوياته أو تحمسه، وبأضعف الأيمان "تفضفض عنه" حسب تعبير شعبولا، الذي ظهر في الوقت الضائع ليلحن ويغني ما يشبه تحليلاً سياسياً في نشرة أخبار موجهة للأميين "عايزين إعلام يداري مصايبهم الكبيرة / ضربوا قناة المنار وعينهم على الجزيرة". أما في سوريا فكانت الأغنية الشعبية أكثر هزلية وهزالاً، تحديداً ما اصطلح عليها بـ "أغنية الكراجات" أي التي تباع وتذاع في مراكز انطلاق الباصات، ومؤخراً باتت تنتج هناك!! ومن حسن الحظ أنها لا تجد طريقها الى الفضائيات، فمع كل أزمة ثمة دفعة من الأغاني المصنوعة على عجل لتواكب الحدث، تُرمى بعدها في سلة المهملات، ليأتي دور ما بعدها، فمن أغنية "تقريرك يا ميليس حقو فرنكين وفلس" إلى أغنية "يا نصر الله منا وفينا يا يلي دمرت السفينة" ... إلخ.
الكراجات كمجتمع قائم بذاته يبدو أقرب إلى القاع، من حيث كثافة البشر العابرين فيه، وازدحامه بالباعة الباحثين عما يرتزقون به، والمتسولين والمشردين والأميين من المتعيشين على ما يلقيه مسافرو المحافظات من ليرات قليلة ثمناً لجريدة أو زجاجة ماء أو تنظيف حذاء. فلهؤلاء أيضاً أغانيهم التي تطربهم والكلمة التي يفهمونها دون عناء، وهم كغيرهم من أبناء وطننا المضطجع من المحيط الى الخليج، أيدوا المقاومة ورفعوا أعلامها، بل ربما هم أكثر من غيرهم رفعوا صور السيد حسن نصر الله، كأمل بعث فيهم صورة البطل المنقذ، هؤلاء لا يفهمون كلام المثقفين، وإذا سمعوه يحسون أنه خال مما يعنيهم، لذا فهم يستهلكون ما يصنع لهم خصيصاً كأغنية "يا عرب" لروبير وحيد. وتجسد هذه الأغنية خلطة عجيبة تبدأ من الاسم الأجنبي للمغني "روبير" ذي اللهجة البدوية!! ولا تنته عند الفيديو كليب ملطوش من نشرات أخبار "المنار" مع شريط الخبر العاجل. وهذه الأغنية المعجزة تقول: في عز آب اللهاب / يا عرب وين الرد الدنيا شتا وبرد/ ربما هي ضرورات قافية مثيرة للرثاء بلحنها المكسر على وقع لغو ساذج ومفكك: / القوة حق وإحساس والحق من قلب الناس/ غنينا للسلام لحين قوطع ـ انقطع ـ الوتر / لا سمعنا رد ولا رد من بشر / هاي العرب نوم الحجر/.
هذه الأغنية وعشرات غيرها، راجت على بسطات الـ سي دي، طيلة شهر على الأرصفة بسعر شعبي تراوح بين 15 ـ 25 ليرة سورية، لتصدح في وسائل النقل الداخلي على دروب البلدات الفقيرة حاملة أعلام وصور المقاومة، كرد فعل حماسي لطبقات بائسة ومهمشة، كانت على الدوام أكثر الطبقات التي تمد المجازر بأرقام ضحاياها الضخمة، والمقاومات بفدائييها حين يمتلكون سلاحاً وتنظيماً يمنح الدور اللائق لطاقاتهم الحية، من فلسطين الى العراق ولبنان، وكل بقعة طالتها الحروب عبر التاريخ. هذه الشرائح الواسعة تتمتع بوفرة من الشباب، مثلما تتمتع أيضاً ببؤس ثقافي مؤسف، ينتفضون اليوم ليمتلئ ما يشعرون به من خواء بثقافة بديلة لا تهمل شعارات الثورة، وإن بكلمات ركيكة وموسيقا منحطة، وسائل بدائية لم تصقل، جراء ما تعرضوا له من تطنيش وإهمال، وتجني واستهزاء، فحين ينام سلاح عبد الحليم حافظ، وتلقي ام كلثوم البندقية، وتخرج اوبريت الحلم العربي مضطربة بعد خلافات وفضائح، لا نلوم الشعب المصري والعرب إذا حركت مشاعره "أغاني شعبولا" من "أنا بكره إسرائيل" وحتى "ارتحنا من شارون"، فهي لا تعبر عن نبض المسحوقين وحسب، بل وأرعبت إسرائيل، فاحتجت سفارتها وبكل سخافة ووقاحة لدى الحكومة المصرية على السماح لأغنية تشمت بشارون وتصف أولمرت بالوساخة. والطريف تحدي شعبولا وتهديده بأنه لن يوقف الأغنية ما لم توقف إسرائيل إطلاق النار.
هكذا تأخذ الثقافة الفطرية غير المشذبة، دورها في الدفاع عن القضايا المصيرية بغية الدفاع عن وجودها، بعد أن قدمت الثقافة الجادة استقالتها من قضايا الأمة، لتلتحق بثقافة العالم المتحضر المعنية بقضايا أكثر عمومية وشمولاً، حقوق الإنسان، تمكين المرأة، وحقوق الطفل، وغيرها. المؤسف أن العالم المتحضر يوظفها ضمن برنامج لنشر ثقافته في كل الأنحاء والمجتمعات، في حين تطوعت النخب العربية لخندقة قضايا التحضر في معارضة السلطة، وفي كلا الحالتين الخاسر تلك القضايا نفسها، كونها تستخدم كوسيلة لتحقيق غايات أخرى. ويمكن القول على الجانب العربي وطيلة عقد ونصف من التأسيس لثقافة السلام، لم تربح القضايا الإنسانية شيئاً، في حين خسرنا قضايانا العربية المصيرية، وباتت الساحة خاوية ومكشوفة تماماً، للانحطاط يسرح ويمرح بين جنباتها.
انحطاط أشد فتكاً من الدمار الذي خلفته آلة الحرب، وإذا كانت عملية الإعمار تحتاج إلى سنة أو اثنتين، وربما أكثر قليلاً لتعويض البنى التحيتية، فكم سيحتاج العرب لإعمار ثقافة البنى التحتية للنهضة، وتحديد موقعهم وموقفهم من حضارة راهنة تقصفنا من الجو والبحر؟
الجمل
إضافة تعليق جديد