فقه العلاقات الإسلامية - المسيحية
اقر المرجع الاسلامي الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي بضرورة اعادة النظر في بعض القوانين التي ترعى العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في المجتمعات التي تعتمد الشريعة الاسلامية مصدرا اول للتشريع، كما هي الحال في مصر. فقال الشيخ العلامة في مقابلة مع قناة "الجزيرة" القطرية: "اوافق الاب بأن هناك قوانين يجب ان يعاد النظر فيها. فليس كل ما في الكتب القديمة يجب الاخذ به، هناك آراء فقهية تعبر عن زمانها ومكانها، والآن تجاوزها الزمن. وفقهاؤنا قالوا منذ القديم ان الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، الخ. ومن ذلك مثلا ما قاله بعض الفقهاء من تضييقات في بناء الكنائس، فالنصارى، كغيرهم من الناس، يتزايدون ويتكاثرون، فليس معقولا ان تظل الكنائس القديمة كما هي (من دون كنائس جديدة)".
جواب الشيخ القرضاوي جاء في اطار التعليق على مداخلة لصاحب هذه السطور طالب فيها المرجعيات الاسلامية الكبرى، وعلى رأسها الشيخ القرضاوي، باستنباط اجتهادات جديدة واصدار فتاوى عصرية تدعو الدول التي تعمل في اطارها الى سن قوانين تقر بالمساواة التامة بين المسلمين والمسيحيين في المجتمعات التعددية، عارضا لموضع بناء الكنائس وتقييده بشروط ولسواه من المواضيع، مثالا على الاجحاف اللاحق بالمسيحيين في مصر.
حسن ان نسمع الشيخ القرضاوي يقول بأن الزمن يتجاوز بعض الآراء والاحكام الفقهية القديمة، وان لكل زمان ومكان مقتضياته التي تستوجب اعمال الاصول العلمية الفقهية. وقد دعا الشيخ محمد عبده (توفي 1905) الى اعادة تحديد ماهية الاسلام الحقيقي، والى النظر في مقتضياته بالنسبة الى المجتمع الحديث. لذلك، كان لدى عبده مفهومه الخاص للاسلام الحقيقي القائم على التمييز بين ما هو جوهري وغير متغير فيه، وما هو غير جوهري ويمكن تغييره بلا حرج. كما دعا عبده المسلمين الى الاهتداء بالوحي والعقل معا لاكتشاف هذا الاسلام الحقيقي.
ورأى محمد عبده ان الاجتهاد ليس جائزا وحسب، بل هو ضرورة جوهرية ايضا، "فالامور التي لم يرشد اليها القرآن والحديث بوضوح، اما لأن نص القرآن فيها غير صريح، او لأن هناك شكا في صحة الحديث الخاص بها، او لأن القرآن والحديث اكتفيا بايراد مبدأ عام حولها من دون ايراد حكم خاص بها، او لصمت القرآن والحديث عنها. فعلى العقل في مثل هذه الحالات، ان يقوم بدور المفسر" (البرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، نوفل، 2001، ص 155). ويسعنا هنا ان نعدد الكثير من المسائل المتصلة بعلاقات المسلمين بغير المسلمين في المجتمعات الخاضعة لاحكام الاسلام. وهذه الاحكام، التي لا نص صريحا بها في القرآن او في الحديث، ما زال العمل بها جاريا الى ايامنا الحاضرة.
هذا الفقه السياقي، او المتعلق بالظروف السائدة، هل يكون له حظ في التحقق عبر اجتهادات المرجعيات الاسلامية الاصلاحية المعاصرة ذات الوزن النوعي؟ هل يستطيع هذا الفقه التجديدي ان يأخذ في الاعتبار تفكك الدولة الاسلامية الواحدة، التي على رأسها الخليفة الوحيد، وتحولها دولا قومية او وطنية او قطرية تحكمها دساتير وضعية تهتدي بالشريعة الاسلامية في بعض احكامها؟ هل يقبل هذا الفقه التجديدي بالمساواة التامة بين المسلمين وغير المسلمين في مختلف مواقع الدولة ومراكزها؟
يتحدث الفقهاء المسلمون عن وضع اهل الكتاب (المسيحيين واليهود) في المجتمع الاسلامي باعتبارهم مواطنين لهم الحقوق ذاتها التي للمسلمين وعليهم الواجبات ذاتها التي عليهم. فالقرضاوي يقول: "اهل الكتاب هم، بالتعبير الحديث، مواطنون في الدولة الاسلامية، اجمع المسلمون منذ العصر الاول الى اليوم ان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، الا ما هو من شؤون الدين والعقيدة، فان الاسلام يتركهم وما يدينون" (الحلال والحرام في الاسلام، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الثانية والعشرون، 1997، ص 292). غير ان القرضاوي لا يوضح ما هي الشؤون المتعلقة بـ "الدين والعقيدة" التي تمنع غير المسلم من تبوء بعض المواقع في الدولة. في الواقع، تكمن المشكلة، لدى الفقهاء كافة، في التحفظات التشريعية والعسكرية التي تستثني غير المسلمين من المشاركة الكاملة كمواطنين على قدم المساواة مع المسلمين.
الدعوة الى تجديد فقهي دعوة محمودة تطمئن غير المسلمين في الدول ذات الغالبية الاسلامية، عسى ان تتحقق قبل خراب البصرة وكل حواضرنا.
الأب جورج مسوح
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد