أنسي الحاج: بين سمير القنطار وسليمان الحكيم
يختفي حسّان الزين وراء قصّة سمير القنطار اختفاءَ المُخرج وراء الممثّلين. بطل «قصّتي» الواقعي هو القنطار وبطلها الاستيلادي هو الزين. لم يسبق أن غاب شاعر وروائي وصحافي عربي خلف بطله، واقعيّاً كان هذا البطل أو من الخيال، كما فعل الزين. ونجح في إبراز ثلاثين سنة من الأسر، قدّمها في قالبٍ سلسٍ شفّاف نجا ممّا كان يمكن أن يتربّص به من خطابيّة.
سمير القنطار، أو عميد الأسرى في السجون الإسرائيليّة، اثنان: الأوّل شكله الخارجي العارم بالبأس المخيف، والآخر سذاجة المثاليّة التي لا فداء بدونها ولا فدائيون.
للتذكير: سمير القنطار هو الذي قاد عمليّة نهاريّا بفلسطين المحتلّة في نيسان 1979 وكأنه «فتى يستعدّ لموعده الأوّل مع فتاة أحلامه». انتقل من المدرسة إلى الجبهة الشعبية القيادة العامّة ومنها إلى جبهة التحرير الفلسطينيّة. كان معجباً بعمليّة الخالصة (كريات شمونة) أوّل عمليّة استشهاديّة في تاريخ المقاومة الفلسطينية، نيسان 1974، التي قُتل فيها الفدائيون الثلاثة و18 إسرائيليّاً وجُرح 15. كما كان معجباً بعمليّة دلال المغربي (11 آذار 1978) في تل أبيب. ووعد نفسه بأنه سيكون ثالث مَن يقود عمليّة داخل أرض فلسطين. وسُمّيت «عملية جمال عبد الناصر» ردّاً على اتفاق كامب ديفيد.
لماذا نهاريّا؟ «لأنّ فيها ثكنات عسكرية ضخمة، والضبّاط والجنود يسكنون فيها بكثافة». كان من أهداف العمليّة خطف إسرائيليين لمبادلتهما بأسرى فلسطينيين في السجون الإسرائيليّة. قُتل فيها مدنيّون وعسكريّون. وطفلتان شقيقتان. وظلّ القنطار سجيناً حتّى انتزع «حزب الله» إخلاء سبيله في تموز 2008.
يُقرأ الكتاب باهتمام رغم ضخامة حجمه ورتابة بعض التفاصيل، خاصة فصول السجن وحكاياته. فمن سخريات القدر أنّ المأساة جحيمٌ دائم لصاحبها ومشهد لا يلبث أن يصبح مألوفاً وعاديّاً للمتفرّج. يتوقّف المرء أمام محطّات معيّنة، كإلحاح القنطار على اعتبار جرائم الاغتيال، من الحريري إلى آخر قافلة الشهداء، تدبيراً إسرائيليّاً غايته إلصاق التهمة بسوريا و«حزب الله» لتأليب العالم عليهما. عن سمير قصير قال، لدى مشاهدته خبر استشهاده على شاشة «ال.بي.سي»: «صُدمت (...) حضرَتْ صورته شابّاً ملتحياً. أعرف أنه يساري ماركسي، وكنت أستغرب أن يكون كذلك وفي الوقت نفسه حليفاً لقوى طائفية ويمينيّة مرتبطة بأميركا. وكنت أستغرب تأييده الثورة الفلسطينيّة ومعاداته المقاومة الإسلاميّة». من جهة بساطة الحكْم، أبيض أو أسود، ومن جهة وضع الإصبع على الجرح دون انتباه. ما يستغربه القنطار يستغرب نقيضه كثيرون: كيف يمكن أن يكون المرء ماركسيّاً ومؤيّداً لحزب ديني، مثلاً. الشيوعيّون يجيبون: تَجْمعنا مقاومة إسرائيل. وهو ما يقوله أيضاً السوريّون القوميّون. لهذا النوع من التوافق سوابق لعلّ أشهرها المقاومة الفرنسيّة للاحتلال النازي: الجنرال ديغول في خندق واحد مع الحزب الشيوعي. المصيبة تجمع. في الحالة اللبنانيّة هناك الرابط السوري، وقد أثبت أنه أقوى من الاعتبارات الحزبيّة والإيديولوجيّة.
يُقرأ الكتاب بفضول التعرّف إلى شخصيّة كهذه، جمعت بين الجموح والتحمُّل. ويُقرأ خاصةً على خلفيّة مصرع الطفلتين الشقيقتين ومحاولة استشفاف الحقيقة حوله. يقول القنطار (ص 88):
«المحكمة بالنسبة إليهم (إلى الإسرائيليين) لتأكيد أنهم دولة وأنّ لديهم قانوناً (...) تذكّرت ما قاله أبو زكن من أنني قتلت ستة إسرائيليين من بينهم الطفلة التي لا أتذكّر وجهها ولم تقع عيناي على عينيها ولم أمسسها إلّا لأنتزعها من بين يدي والدها وأتركها في البيت. لم أرَ أمّها ولا امرأة في البناية. ولم تُقتل واحدة منهنّ (...) يدّعون أنني قتلتها (الطفلة)، لن أقبل. لم أقتلها (...) هم قتلوها (...) يريدون أن يلصقوها بي لأبدو همجيّاً مثل العرب الآخرين كما يصوّروننا. هذه معركتي مع الكَذَبَة».
وفي افتتاح الجلسة الثانية من المحاكمة استرعت انتباهه امرأة في مقدّم الحضور تحدّق إليه بغضب، وعرف أنّها زوجة عالِم الذرّة داني هاران الذي قُتل وابنته في العمليّة «وكانت في البيت مع ابنتها الصغرى مختبئتين منكم ـــــ كما شرح له المحامي ـــــ وقد وضعتْ يدها على فم ابنتها كي لا يصدر عنها صوت وتكتشفوا أمرهما، فاختنقت الطفلة وماتت بين يديها».
يقول القنطار: «آلمني ذلك. بالتأكيد لو رأيتهما لتركتهما، وربّما أعطيتُ هذه المرأة ابنتها الأخرى. (...) تفهّمتُ وضعها كأمّ وزوجة خسرت أسرتها. وتذكّرت نساءً فلسطينيّات ولبنانيّات ثكالى مثلها. ردّات الفعل نفسها أينما كان: الحقد». (ص 103).
■ ■ ■
بعد نهاريّا وثلاثين عاماً من الأسر خرج سمير القنطار بخلاصة ضدّ العنف. ليست مواقفه الخطابيّة موافقة لهذا ولكن كلامه في الكتاب واضح. الخلاصات تدين التفاصيل. مشهد طفلة تموت مختنقة لأنّ أمّها كمّت فمها حتى لا يلفت صراخها انتباه المهاجمين، هو بفظاعة مجزرة. مقتل شقيقتها بالقصف الإسرائيلي العشوائي، بعدما أمسك القنطار عن قتلها، عبثٌ تدين وحشيّتُهُ كلّ هزيمة وكلّ انتصار. الدوّامة لا تطحن غير الأبرياء من كلّ جهة.
■ ■ ■
وقفة التأمّل، عندما ينحسر الغضب أو البغض، وقفة التأمّل لو أوتيت للإنسان في بدايته كما تؤتى له في النهاية لانصهرتْ فيه التجربة وعبْرتها في وقت واحد. لو أوتيَتْ للإنسان هذه النعمة لما انتصب له بعد العمر الشبح الذي قَوَّلَ الملك سليمان «باطل الأباطيل كلُّ شيءٍ باطل».
لكنّ هذه النعمة لا تُعطى إلّا لُماماً. تُعطى كتذكيرٍ بأنّ فوق برق السحاب برقاً بَشَريّاً، يتجسّد في أشخاص خاطفين للعصور، بإرغام استثنائي لمجرى الأشياء. ثم تعود الأبواب وتنغلق. تنحبس السماء لكي يظلّ نبض الزمن اللامبالي مستقيماً.
■ ■ ■
غالباً ما عرف لبنان حركات مقاومة وقليلاً ما كانت مقاومة جماعيّة شاملة ضد خصم واحد. المسلمون قاوموا الصليبيّين ولم يقاومهم جميع المسيحيين. المسيحيّون قاوموا العثمانيين ولم يقاومهم جميع المسلمين. الفلسطينيّون قاومهم المسيحيّون أوّلاً دون سواهم. السوريّون أيضاً. المسلمون و«الوطنيون» المسيحيّون (ومعظمهم «وطنيّون» نكايةً بالموارنة) قاوموا الاجتياح الإسرائيلي دون المسيحيّين. الهدف كان دوماً هو موضع الفراق. المعضلة المزمنة هي فقدان هذا الجامع المشترك. هناك مقاومتان لم تلتقيا بعد. اليوم خرج هذا الانقسام عن نطاقه الطائفي التقليدي وخَلَطَ الأوراق: شكّل تفاهم العماد عون مع «حزب الله» خرقاً تاريخيّاً لكنّه لم يستأصل بيت الداء العميق. واختلاط الطوائف في تجمّع 14 آذار إنجاز تعدّدي من جهة وترسيخ من جهة أخرى للانقسام حول هويّة الخصم. إلى حين، أشاع هذا التوزّع جوّاً من الطمأنينة لدى المسيحيّين لكونهم محميّين هنا شيعيّاً وهناك سنيّاً. محميّون. مجرد الكلمة أبلغ من أي شرح. بعد العراق ومصر وفلسطين هل ما زالوا يشعرون بمثل هذه الحماية؟ إنّ ما يُنسب إلى تنظيم «القاعدة» يتبرّأ منه السنّة والشيعة في كل مكان ومع ذلك تستمر «القاعدة» في الفتك والتوسّع. لا الأنظمة توقفها ولا الشعوب. هذا التهديد، وهو في نتائجه إسرائيلي ـــــ أميركي دون شكّ، هذا التهديد المتفاقم يعيد فتح القضيّة المسيحيّة المشرقيّة من زاوية أشدّ واقعيّة. ثلاثون عاماً من الحروب لم تستطع القضاء على التعايش في لبنان بل بالعكس برهنت على مناعته ضدّ الانحلال. ماذا يهدّده الآن في الصميم بل ماذا يهدّد لا التعايش فحسب بل مجرّد الوجود الفيزيكي للمسيحيّين في الشرق؟ أصوليّة إسلاميّة مزوَّرة تُطبّق المخطّط الصهيوني وإسرائيل مرتاحة. والغرب، الغرب الأوروبي خاصة، الذي كان يستعمل هذه المشكلة في القرون الغابرة ليبسط حمايته على الطوائف المسيحيّة ويغلغل نفوذه في الشرق، بالكاد يتمكّن من لملمة أوضاع مجتمعاته الداخليّة في مواجهة عواصف التطيُّف والعنصريّة. لم تعد العمالة المباشرة لإسرائيل هي الأخطر بل التنكّر بالأقنعة الدينيّة.
هل غَلَبتْنا إسرائيل؟
لولا انسحابها من الجنوب عام 2000 وعدم انتصارها في تموز 2006 لقلنا: نعم. سُجّل شواذان على القاعدة، لكنّهما شواذان عسكريّان وليسا كافيين. التفاوت بين العرب وإسرائيل تفاوت حضاري لا يقتصر على القوّة العسكريّة. تكفي نظرة إلى الداخل. إسرائيل مجتمع عسكري وديموقراطي معاً ونحن مجتمعات قبليّة إقطاعيّة بوليسيّة لا عسكر ولا ديموقراطية. يعيش سمير القنطار ثلاثين عاماً في السجون الإسرائيليّة ويخرج سالماً مع شهادة جامعيّة بعدما تزعَّم الأسرى في السجون وصال فيها وجال وفرض هيبته والكثير من شروطه. لا حاجةَ للمقارنة بسجون الدول العربيّة. ولا بمحاكمات المحاكم العربيّة. لو قُتل مئة طفل في عمليّة إسرائيليّة ضدّ بلد عربي لما أقام أحدٌ واحداً في المئة من الوزن الذي أقامته إسرائيل للطفلتين الصريعتين بعمليّة نهاريّا. يوم يصبح للإنسان في البلدان العربيّة القيمة نفسها التي للإنسان في إسرائيل نستطيع أن نتكلّم على توازن قوى ولا تعود أقليّة تخشى على نفسها من أغلبيّة. لن يحمي الأقليّات سيطرتها على الحكم وإنما تَشبُّع الأغلبيّات بثقافة الحريّة وحقوق الإنسان. عبثاً ننتظر ذلك من فتات موائد العولمة ما لم نجوهره بالتنشئة المنزليّة والمدرسيّة والجامعيّة، والممارسة السياسيّة طبعاً، وتحييد الدين عن الدولة، بدءاً بتشريع الزواج المدني وفرضه فرضاً بقوّة القانون بعدما بات الإجماع الشعبي عليه، في لبنان على الأقلّ، هو الإجماع الوطني الأوّل وربّما الوحيد.
■ ■ ■
المقاومة المسلّحة، في المطلق، بنْت اليأس من السياسة. ثمرةُ فشل الأنظمة والجيوش. عنصر التمرّد على الظلم جوهري لتشريع المقاومة. المقاومة بقاء يسترّد لنفسه كرامة كانت إمّا مهدورة وإمّا قيد الابتزاز. تُقامر المقاومة بنفسها في حالتين: عندما تصبح سلطة جهريّة، كما حصل لمنظمة التحرير الفلسطينيّة، وعندما يصبح عنفها غير أخلاقي، أي، خصوصاً، عندما تمتدّ يده إلى المدنيّين. تنظيم مثل «القاعدة» لا يستحقّ اسم المقاومة، فهو لا يقتل إلّا مدنيّين، مسلمين ومسيحيين. إنه محض آلةٍ جهنميّة. وليس عدوّاً لأميركا وإسرائيل بل هو ذراعهما الكبرى والذريعة المثلى لعدوانهما.
والأشدّ هولاً أن يكون كلامنا هذا افتراءً ومن وحي رفض الواقع وعلى غرار شعار «حروب الآخرين على أرضنا». لنتخيّل لحظة أن تكون «القاعدة» إسلاميّة حقّاً لا صناعة خارجيّة ولنتخيّل أن جذوراً لفكر كهذا موجودة فعلاً في مجتمعاتنا، لا سمح الله، كما يقال. الأفضل للجميع أن نداوم على الهلوسة بأميركا وإسرائيل.
■ ■ ■
مطالعة كتاب حسّان الزين تثير في الذهن هذه الخواطر وسواها. لا يمكن الإنسان أن يظلّ يغسل يديه من دم الآخرين. ولا يمكن أن نكتفي بالمواقف الرومنسيّة حيال العنف. يظلّ العنف، بل يظلّ الإرهاب مبرّراً حتّى يُوظَّف لأغراض تتجاوز البراءة.
«ردّات الفعل نفسها أينما كان: الحقد»، يقول سمير القنطار.
ولن يوقف الدوّامة أحد من الخارج.
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد