عباس بيضون: النــــوم
لا أنام في سرير، لا أذهب إلى فراشي في الساعة نفسها تقريباً كما يفعل الجميع. لا أذهب إلى فراشي بتاتاً ولا أفكر في أن أذهب، لعلمي أنني إذا فعلت ذلك لا أنام. إذا دعوت النوم وتحضرت لن يحضر، إذا دخلت تحت اللحاف وسويته فوقي، بعد أن أكون خلعت ثيابي ووضبتها ولبست البيجاما، إذا وضعت رأسي على الوسادة وأطفأت النور بعد أن أكون تأكدت من إغلاق النوافذ، لن أنام. لقد طردت النوم بكل هذه الحركات. جعلته أبعد فأبعد حركة بعد حركة. لو فعلت ذلك سيطير النعاس من عينيّ تماماً. لن يأتي النوم بقدمه إلى هذا الفخ. هذا الترتيب سيجعله يهرب. ما أفعله حتى أعود في ساعة غير محددة من الليل هو التمدد أمام التلفزيون بثيابي، وفي الحر بثيابي الداخلية. التمدد لا يخيف النوم، فأنا أتمدد غالباً وليس للرقاد وحده. أضع رأسي على وسادة فوق ذراع الكنبة وأتطلع إلى التلفزيون وأنظر في كتاب. اللمبة مضاءة والبيت مشع والتلفزيون والع وأنا فقط أتفرج. ليس لدى النوم ما يخشاه إذاً. بوسعه أن يخرج ويتسلل. أنا لا أنتظره لكني وسط الفيلم أدير رأسي على الوسادة ولا أعرف كيف أكون نمت. أنا كمن لم ينم. حتى وأنا غاف لست نائماً حقيقياً. لا زلت في ثيابي ولست في فراشي. لا بد أن التعب خطفني. التعب فقط وإن كان نوماً.
في ساعة مبكرة أستيقظ، فأجد الليل بدأ ينحل والعتمة مكسورة بظل خفيف. هذه ساعة أخافها كما يخافها مصاصو الدماء، أجد نفسي وحيداً للغاية فيها. أنسحب إلى فراشي هذه المرة وألوذ به. أطلب النوم قصداً لكنه لن يأتي. أضع نظاراتي وأقرأ. لست تعباً وإن يكن جسدي متكسّراً قليلاً بفعل الرقاد على الكنبة، بفعل النوم المرائي والناقص، لست تعباً، أنا صاح تماماً ولن أحاول بعد النوم. إذا قرأت بالعربية قد أستيقظ أكثر، بالفرنسية هناك خطر أكبر في أن أعاود تعبي. وبدون أن أشعر به، بدون أي بادرة واضحة أو إشارة يسرقني نوم لم أنتظره، كأنني اختفيت برهة عن الزمن. حين أفتح عينيّ يكون النهار قد ملأ العالم، وأنا مروي من الصحة والصحو.
في التاسعة أو العاشرة، كنت أستيقظ في تلك الغرفة التي ننام فيها سوية، أبي وأمي وأنا وأخي وأختي. كان السقف من ألواح خشبية لم تعد متماسكة بما يكفي، ومن وقت لآخر تهبط نسمة خفيفة من التراب الناعم، بسلام، على سريري، وعلى وجهي. كنت وحيداً في ذلك السرير القديم الذي ارتخى رفاصه وتجوّر تحتي، لكن ذلك لم يكن شيئاً، لطالما تمتعت بهبوط سريري وحتى بتلك النسمة الترابية. كان ذلك لي وحدي وأنا اتمتع فيه بخصوصيتي كما لو كان امتيازاً. أسوق سريري كما لو كان قارباً، وأنتظر هبة السقف كما لو كان سماء. في أخريات العتمة أستيقظ وحدي لأتابع تفكيري في الموت، أستيقظ في هذا الوقت ليتسنى لي أن أفكر وحدي في هذه المسألة. أشعر بالموت قريباً وأرتجف من فكرة الرقاد الطويل تحت التراب. إذ كان الموت يعني لي ذلك أولاً. أظل هكذا إلى أن تبدأ الظلمة في الانحلال وتغدو الرؤية ممكنة فيطير رعبي.
مع ذلك لم أكن أخاف من هذه اليقظة المبكرة، لا أحسد أهلي على نومهم، ولا أشعر بأني هكذا وحيد في أفكاري. كنت أجد في ذلك فرصة إضافية. لم يعطوها، لأواجه قدري. لأفكر في مصير لا يبدو أنهم دارون به. يسعدني أن أستيقظ لأفكر وأحسّ أن التفكير في أي شيء سعادة. كنت على سريري أجد سحراً ما في أن أسير مع أفكاري. حتى ارتجافي من فكرة القبر الأبدي كان أيضاً شيئاً لي. لم أشك في أن الآخرين يموتون لكن تفكيري في الموت يخصني وحدي. ربما حسبت هكذا أنني قد أصل إلى حل. إلى نوع من تسوية أو اتفاق. ربما حسبت أن تفكيري في الموت حوار، بل مساومة، معه، وأنني ربما حصلت على رعاية خاصة منه. كأن تقوم القيامة بعد ساعتين من وفاتي أو حينها، كأن نكون في نهايات العالم. لم يكن هذا حلاً لكن الوقت أمامي. لا زلت طفلاً وأمامي عمر، ولا بد أن هذا لن يكون بلا فائدة. كان الموت موجوداً لكن العمر لم يبدأ بعد. الموت موجود لكن ليس أمامه ما يفعله.
لا أعرف متى علمت أني أفكر، ولم يكن التفكير حتى في أمور مزعجة، شقياً أو مؤلماً. كنت أسافر وأسبح في أفكاري ولا يخطر لي أن التفكير يؤذي أو قد نتأذى من فكرة. حتى في أسوأ أفكاري كنت أتقدم ولا يمنعني الخوف. أتابع إذ لا بد من أن أتابع. كنت على ظهر نسمة لا تتوقف وتبتعد باستمرار. أفكر كأني أحلم. كنت مدمن تفكير. متعتي وخوفي يتزايدان معاً وبالقوة نفسها. لم تكن زيارة شبح ولا كابوس. كنت بسهولة عجيبة أتغلغل ولا أستطيع أن أتراجع.
لا أعرف ما الذي تأسس في هذه السياحة. لا أعرف في أي عمر كنت آنذاك. التاسعة أو العاشرة، لا يهم. ليس لهذا أي دلالة إذ لم أكن مرة في عمري ولا أعرف كيف يكون الواحد في عمره. لا أفهم أن يقال إن هذا من عمل الطفولة أو عمل الشباب. علمت، في ما بعد، أن التاسعة من الطفولة، لكني بقيت عمري أجتهد في أن ألحقها. لم أكن بالتأكيد صغيراً آنذاك، كنت أفكر بطاقة جبل. في مراهقتي وشبابي سعيت لأفكر أقل. ذكرياتي، على كل حال، بلا تواريخ. حين أجد الناس يقولون إن هذا حدث في سن ما، أعرف أنهم يقصدون أنه حدث في وقته، وأنهم عاشوا حياتهم كما هي. أما أنا فعشت غالباً خارج عمري. حتى أمراضي لا أعرف لها عمراً. جسدي يتأخر دائماً عن فهم هذه المسألة.
ابتعدت كثيراً عن حديث النوم. سبقت إلى القول إنني لا أنام تقريباً، فما أفعله كل ليلة ليس النوم تماماً. الآن لا يهمني كثيراً أن يكون نومي خالصاً. لا بأس في أن يختلط باليقظة. لا بأس في أن أنام نصف صاح، أن أستيقظ بعد كل كبوة نوم وأبدل أماكن وأوضاعاً، طوال الليل، إلى أن يحسم الصباح الأمر. لا يهم ذلك الآن. لم يعد حالي كحال ماكبث الذي يعوي أنه قتل النوم.
قتل ماكبث النوم لفرط ما قتل من بشر، ولم يعرف أنه كان يقتل راحته خلالها. عاقبته نفسه وصارحته بأنه قاتل، وأجبرته على أن يبقى نصب جريمته، منعته من أن يدخل معها إلى النوم، وأن يتخلص منها فيه. أليست هذه هي الفكرة. هذا الأرق ليس أرقي ولا أرق الآخرين. من ينامون لا تحاسبهم أنفسهم على أمر فعلوه، بل، في الغالب، على أمر لم يفعلوه، أو لم يملكوا القوة والعزم لفعله. إذا لم يريدوا إهانة مثلاً لن يناموا. إذا أسيء تقديرهم لن يغمض لهم جفن. إذا لم تسعفهم البديهة بجواب صحيح، إذا فاتهم كلام مناسب. فإنهم يقضون الليل في تذكره وإعادة تذكره، بتأليفه وإعادة تأليفه. إذا خاطبهم رئيس بعبارة توجسوا أنها تلومهم، إذ خمنوا أن كلام مرؤوسيهم يقفز فوق مقامهم. إذا تناولهم أحد تناولهم بنكتة، إذ كانوا لسبب ما، موضوع ضحكة. إذا أجازوا السخرية تتم بدون أن يصدوها. إذا انصرفت الحبيبة إلى زائر آخر. إذا طغى عليهم في حضورها جليس ثان. إذا أكلهم الانتظار ولم يطيقوا صبراً. لم يكن الأرق بسبب شيء فعلته، كان أكثر بسبب شيء لم أفعله أو لست قادراً على فعله. لو قتلت كماكبث لنمت ملء الجفنين. لو استطعت أن أجد الإمعان أو أجد الجواب أو أزيح منافسي، بأي طريقة كانت، لنمت فوراً. لا بد أن ما يؤرق ماكبث ليس سوى خوفه من أن لا يستطيع قتل كل المتآمرين، أو عجزه عن أن يعرف كل من يتآمرون.
([) مقتطع، غير منشور، من كتاب عباس بيضون بعنوان «مرآة فرانكشتاين» يصدر قريباً عن «دار الساقي»، تليه مقاطع أخرى ، ننشرها تباعاً، إلى أن يتعافى شاعرنا وكاتبنا، ويمسك قلماً وورقة.
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد