شبع من الحياة ورحل كما تمنى
الجمل - خاص
"مات على سروج الخيل"، هكذا وصف أهالي الرقة وفاة رجل بلدتهم عبد السلام العجيلي الأديب والطبيب. ومضى كما أراد معززاً مكرماً، محمولاً على الراحات، بعدما أوصى وبشدة قبيل وفاته ألا يجرى له حفل تأبين رسمي ولا شعبي، ولا خطابات ولا قصائد، إنما جنازة عادية بسيطة مثله مثل أي إنسان عادي بسيط.
لم يحب العجيلي يوماً المظاهر الكاذبة والمحاباة والمجاملة، وعندما لاحت النهاية، لم يردها أن ترافقه الى مثواه الأخير، الذي تمنى الوصول إليه "على أهون سبب". حبه للرقة، وحب الرقة له، كانا جنازته، وربما لهذا جاء القدر مواتياً ملبياً لرغباته، فتوفي في اليوم الذي سيشهد تشييع الشاعر محمد الماغوط، إلى سلمية الذي انصرف إليه الاهتمام الرسمي والشعبي، فتحققت وصية العجيلي بتشييع بسيط خال من مظاهر التأبين، ما خلا حزن الرقة التي خرجت عن بكرة أبيها خلف جثمانه، هو الذي وهب حياته واسمه لها، فكبر بها وكبرت به، وأولاها جلَّ اهتماماته في حياته الغنية والمتنوعة على الأصعدة كافة، وظل لا يطيق الابتعاد عنها، على الرغم من رحلاته وتطوافه في جهات الأرض الأربع، فلم يحلو له العيش إلا فيها، وكتب كتبه كلها بين أحضانها. واشتهر عنه القول، إنه لو خير بين الرقة ومكان آخر في العالم لاختار العيش في الكونغو، لأنه بطبعه يهوى الحياة الصعبة.
وكان يجيب من يستغرب ارتباطه الوثيق بمدينته النائية: يريدون مني أن أفكر بعقليتهم واشعر بمشاعرهم، لي عقليتي الخاصة التي لا ترى في الانجازات الثقافية وما يتعلق بها من شهرة وبعد صيت الأهمية التي يرونها هم لها. حالي مثل حال الناس الذين أنا منهم، ومصلحة أولئك الناس هي التي تسترعي اهتمامي وتدفعني إلى أن أكون بالقرب منهم دوماً، غير متطلع إلى كسب مادي أو علو مقام، لا أجد مبرراً لانسلاخي عن بلدي لأن الحياة في غيره أجمل وأكثر إمتاعاً، ولو أني بحثت عن الأجمل والأمتع لتجاوزت عاصمة بلادي إلى عواصم أخرى أعرفها واعرف الطريق إليها، حافلة بكل ما هو لين وطيب. لست من الطامحين إلى لعب أدوار كبرى؛ طموحي، إذا كان هذا يعتبر طموحاً، هو ان أقوم بواجبي بقدر ما أتمكن عليه، والباقي هو قبض الريح وباطل الأباطيل.
منذ نحو عامين، وكلما التقيت به في دمشق، أو حادثته على الهاتف، كان ثمة حوار يتكرر بيننا، ولا يخلو من خفة، يبدأه معلناً بأن نهايته اقتربت، ويحذرني قائلاً: عندما أموت لا تحزني علي، كل ما اتمناه هو موت هادئ. يقول هذا، وهو في أتم العافية، ونحن نتجول في الصالحية، ولأنه يحب الممازحة، كنت أرد عليه بالقول: لا تخف يا دكتور لن يصيبك أذى، فمثلك لا يموتون، إنك جزء من تاريخ هذا البلد والتاريخ لا يموت. واستدرك فجأة، لِمَ هذا الحديث الآن ما دمت لا تشكو من شيء؟ فيقول لي مبتسماً، لقد شبعت من الحياة، عشتها بكل ما فيها، وما عدت ارغب بالمزيد.
لم يحمل كلامه تشاؤماً، ولم يشبه أي نوع من الاكتئاب، وإنما هي القناعة التي ميزته دائماً، وجعلته سعيداً راضياً يفيض بالشباب والحيوية، متفائلاً وخفيف الظل، ينثر الطرائف أينما حلَّ عبر أسلوب حكائي آسر، لم ينقطع عن أصدقائه، وكان دائماً سباقاً إلى السؤال عنهم، مواظباً على تواصله مع الناس من خلال العيادة ومضافة العائلة والكتابة في الصحافة، لغاية شهر تشرين الفائت، حينما تعرض لكسر في الحوض إثر انزلاق قدمه، خضع بعدها لعدة عمليات أثرت كثيراً على وضعه الصحي، ووضعته فجأة على سرير المرض، الذي كان يخشاه ويتحاشاه، وأذكر مرة أنه حين تعرض لعارض صحي كيف انكفأ عن الناس ريثما يشفى، وحين عاتبته كيف لم يخبر أحداً بأنه مريض. قال بأن له طبيعة الوحوش حين تتعرض لأذى ما تعتكف في المغارة حتى تتماثل للشفاء، وهو كذلك لا يحب لأحد أن يراه ضعيفاً، حتى حين تجمعني صدفة به ويكون معه أصغر أبنائه الطبيب الرائع حازم كان يرفض بصمت محاولة أن يمسك له يده وهو ينزل عن الرصيف، ظل حتى وقت قريب يسير منتصب القامة وهو ابن الثامنة والثمانين متحدياً شبابنا دون أن يدري، كان شاباً أكثر منا، روح وقادة ونكتة حاضرة على الدوام، مواكب للعصر وربما سبقه.
كان للعجيلي مع عمره حكاية طريفة، فهو من مواليد سنة 1918 أو 1919 ، حينها لم يكن في الرقة سجلات ثابتة للمواليد، لذلك فضل العجيلي التاريخ الأول لضيق منه بالذين يحاولون إنقاص ما يقدرون على إنقاصه من أعمارهم، و"كأن فرق سنة واحدة يهب الشباب لمن فارقه". لذا لم يكن لديه أي مانع عام 1943 أن يقيم دعوى في المحكمة شبه روتينية للحصول على قيد نفوس جديد يعدل مواليده الى عام 1912 بدلاً من 1918، ليتمكن من الترشح لأول انتخابات نيابية في العهد الجديد، بعد نيل سورية لاستقلالها الشكلي، والوعود بإجراء انتخابات نزيهة. وقد فشل فيها ليعيد المحاولة في الدورة التالية ويصبح أصغر نائب في البرلمان عام 1947 ، حيث مثَّل طالب السنة الثانية في كلية الطب لعائلته الأمل في الحصول على كرسي في مجلس النواب الذي فشل جده لأمه، ومن ثم والده بالحصول عليه في الانتخابات السابقة التي جرت تحت الانتداب الفرنسي.
وقد عُرف قبلها بنشاطه الطلابي، فقد كان رئيساً للجنة الطلابية في ثانوية التجهيز بحلب، وأثناء دراسته الطب. كما تقدم الذين خرجوا في المظاهرات أواخر عام 1943، انتصاراً لرجالات لبنان الاستقلاليين ممن اعتقلتهم السلطة الفرنسية آنذاك (الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح ورفاقهما)، وكان في مقدمة المبتهجين لإطلاق سراحهم. ومن الطريف أنه في ذلك الوقت ارتجل تصميماً للعلم اللبناني ليُرفع في مقدمة تظاهرة الابتهاج، وكان العلم اللبناني قبل الاستقلال هو العلم الفرنسي مضافاً إليه شجرة أرز في مربع في زاويته العليا. أما العلم الذي ارتجله، فكان علم سورية نفسه، وقد وضع ثلاث أرزات حمر، مكان النجمات الثلاث الحمر على الشريط الأبيض بين اللونين الأسود والأخضر. ذلك العلم لم يمثل لبنان سوى في ذلك اليوم.
عقب رجوعه إلى بلدته طبيباً عام 1945 ، افتتح عيادة خاصة، اختلط من خلالها بأهالي منطقته، ليغادرها بعد أن أصبح نائباً في البرلمان، والذي تركه أيضاً ليلتحق بجيش الإنقاذ المتشكل على أثر قرار تقسيم فلسطين، بهدف منع قيام دولة إسرائيل. وفي كتابه "فلسطينيات" يروي ما تكشف له في ميدان المعارك، مما خيب أمل الشاب المثالي آنئذ؛ ومن سوء الحظ، أن سير أمور العرب منذ عام 1948 وحتى اليوم، جاء مؤيداً لتقديراته السيئة التي وضعها ذلك الحين. إلا أن ارتباطه الواعي بالقضية الفلسطينية جنبه مضاعفات الخيبة التي مني بها، واستطاع أن يحيلها إلى قصص مؤثرة، من اشهرها قصة "نبوءات الشيخ سليمان" التي قال عنها احد وزراء الخارجية العرب لأصحابه: "كلما حدثت نكبة في البلاد العربية تتعلق بالقضية الفلسطينية، أقرؤوا هذه القصة لتعرفوا أن كاتبها قد تنبأ بما يجري الآن".
عام 1949 قام حسني الزعيم بأول انقلاب عسكري في سورية، ما جعل العجيلي ينأى بنفسه عن السياسة، فعاد إلى بلدته وعيادته، حتى قيام حكومة الانفصال عام 1961، وتكليفه عام 1962 بين شهري نيسان وأيلول بثلاث وزارات، الثقافة والإعلام والخارجية. وأبدى فاعلية أكبر في الحياة السياسة من الفترة الأولى، غير أن طعم المرارة في العمل السياسي كان أقوى، عبر عنه قائلاً: إن كانت لي ذكريات مرضية في عملي السياسي، فهي ذكريات لا تمت إلى السياسة بصلة.
حافظ العجيلي على حريته الشخصية، وابتعد عن التقولب ضمن قالب جاهز، حتى لو كان من صنعه، دون أن يعني ذلك الفوضوية أو العدمية، وأدت خصائصه النفسية المتجسدة في سلوكه الشخصي مثل تجسدها في كتابته الى سوء تفاهم مع الآخرين، فحين كان اليمين غالباً في البلاد، نُظر إليه على انه يساري، وحين تغلب اليسار رآه كثيرون يمينياً، والسبب يرجع الى أنه لم يرفع عقيرته بشعار معين، ولم ينحاز إلى طرف، وتخلف عن الانتساب لأي تنظيم حتى ولو كان في السلطة، وآثر الابتعاد دائماً عما كل ما رآه غير لائق بقيمة الفكر.
سمعته الأدبية كانت الأكثر شيوعاً بين الناس، وعرف ككاتب أكثر مما عرف كطبيب أو سياسي، رغم المنجز الإنساني الهام الذي حققه من خلال مهنته كطبيب في بلدته الرقة. حتى أنه عندما كان متفرغاً لمسؤولياته كنائب، صادف في إحدى إجازاته في الرقة، أن طرق بابه بعد منتصف الليل رجل ومعه طفلة عمرها حوالي 6 سنوات مصابة بألم في عينها، ولم يكن في الرقة سوى الطبيب الحكومي الذي لم يكن مواظباً على الدوام في عيادته. فحص الطفلة، وإذا بعينها مصابة بتقرح قرني خطير، وحين سأل والدها، لماذا تركتها هكذا؟ قال لأننا لم نجد الدكتور، ولا ندري ماذا نفعل! تألم كثيرًا، وقال في سره، لأجل النيابة أصيبت هذه الطفلة بالعمى.
ما يحسب له كطبيب، دوره الأساسي في مكافحة شلل الأطفال، وكان ذلك في الثمانينات، بعد ملاحظته كثرة الإصابات بهذا المرض، فعمل بالتعاون مع منظمة الصحة للحصول على لقاحات مجانية للأطفال في المنطقة، الأمر الذي سرعان ما تجاوبت معه الحكومة، وبتوجيه من رئيس الجمهورية الراحل حافظ الأسد قامت الحملة الوطنية لمكافحة هذا المرض، ومنذ ذاك الحين أصبح اللقاح مجاناً للجميع، إلى أن قضي تقريباً بشكل نهائي على مرض شلل الأطفال في سوريا.
****
على أن الساعة التي كنت أخشاها قد جاءت، ساعة سيطلب مني مقالاً تأبينياً عنه، وما كنت أتخيلها قريبة ومباغتة الى هذا الحد، على الرغم من علمي بحراجة وضعه الصحي إلا أن ثقتي بروحه كانت أقوى، لكنها سنة الحياة. وأقدرها على أنها رغبته أيضاً بالرحيل، لكن لا محالة ترافقها مرارة الفقدان، مهما حاولت الاحتيال عليها بكلماته الطريفة، واستهانته بالموت، يرحل العجيلي بعدما أعطى الحياة الكثير وبكل إخلاص دونما تنكر لمسؤولياته الوطنية والسياسية والطبية والأدبية والأخلاقية
سعاد جروس
إضافة تعليق جديد