سفر الحجارة: سذاجة من الماضي

08-09-2009

سفر الحجارة: سذاجة من الماضي

كأنَّها صورة مسموعة لا مرئية تستخدم حواراً لا يتيح لها أن تستمر. هكذا هي الحال في مسلسل «سفر الحجارة» : حوار من كلام لا معاناة فيه مثل «من سيذهب إلى الشهادة؟ ويكون الجواب تدافعاً: أنا... أنا... أنا» هكذا يجيب عمل المخرج يوسف رزق في السيناريو الذي كتبه هاني السعدي على سؤال حرج من هذا النوع .. فتغيب الدراما. بعد مرور حلقات عديدة لم تتطوَّر شخصيات المسلسسل بعد. في المقابل، هناك مجال لقراءة صورة مغايرة في مسلسل «قاع المدينة» لسمير حسين أو»سحابة صيف» لمروان بركات على سبيل المثال. مع هذين الأخيرين يبدو الفارق كبيراً مقارنة مع عمل رزق، فليس هناك من عنف ولا من صراع مجاني عندهما. ثمَّة علاقة ديالكتيكية بين الظل والضوء وحركة الجسد بوضعياته، ثم تكوين أوضاع مرئية لا يكون الجسد فيها حبيساً. في حين أنَّنا نرى الجسد رغم كل الفضاء (الداخلي والخارجي) في «سفر الحجارة» حبيساً، مع أنَّ الجسد بحسب «منطق» العمليات الاستشهادية يُفترض أن يكون جسداً فيزيائياً وليس وجوداً ذهنياً كما رأينا في المسلسل. من «سفر الحجارة».
ربَّما يكون السبب في كل هذه المعضلات الدرامية أنّ الموضوع مفتعل: دعائي تعبوي. وكأنَّ الجسد/ الشهيد لايصلح إلاَّ للموت، إلا لتفجيره بالحزام الناسف، وهي مقولة ما عادت صالحة. فالمثير هو أن يُعيد المخرج يوسف رزق الجسد من الموت، وليس أن يرسله إليه، وهنا تتحقَّق الدراما / التراجيديا. فنكون مع أجساد، مع كائنات غير كرتونية. هنا أحيله إلى الأفلام، إلى السينما الفلسطينية التي يصنعها الآن مخرجون مثل رشيد مشهراوي وميشيل خليفي وإيليا سليمان وهيام عباس وعز الدين مشلح، عسى أن يستفيد من صورتها، من ذاكرتها الجماعية المثقَّفة وهي تنشر الجمال الفني والسياسي على مساحة زمن الفيلم.
سفر الحجارة يذكِّر بصورة غير معبرة وإن نطقت، لأنَّها لا ترى ما يجري حولها. كما صورة تلك الأفلام التي أنتج العرب منها أكداساً وأكداسا في المسرح والتمثيليات والسينما والرسم والنحت من أجل فلسطين والتي نسأل: كم بقي منها؟ كم بقي من مثل هذه الصورالمنفِّرة وغيرالجذابة، صور فاقعة تربك المتفرِّج لأنَّها خالية من عنصر الفرجة لسذاجتها وهي تعامل الممثلين كدمى.
أي عمل فني، مهما كانت جنسية صانعيه، يُفترض أن يحملك على متابعته وربما استهلاكه، أن يحرِّضك على الفرجة وعلى القراءة بدون أن يذهب إلى الإعلان المثير مجاناً حتى ولو عن فكرة محقة. في «سفر الحجارة» نستطيع ان نسأل الكاتب والمخرج عن السطحية في التعامل مع موضوع الحزام الناسف الذي يأخذك إلى الشهادة ومن ثمَّ إلى الجنة؟. هنا نذكِّر بمسلسل «الحور العين»، الذي أثار أيضاً موضوعاً في غاية من الحساسية الفكرية والسياسية والجمالية.
في الماضي القريب انشغلنا، ربَّما على امتداد الوطن العربي، بعمل درامي حمل عنوان «التغريبة الفلسطينية» لوليد سيف وحاتم علي. عملٌ كشفَ عن عقل منفتح على الفكر والجمال، لمسنا فيه بالعين أنَّات وصرخات وحتى تأمُّلات الفلسطينيين في رحلة عذابهم القسري قبل وبعد حرب 1948، فكنَّا مع صورة بصرية أبرزت بنية مجتمعٍ/ أمَّةٍ وهي تسقط وتنهض. كما رأينا الشهيد في الأعمال الدرامية من مسرح وروايات ومن ثمَّ في السينما كبطل تراجيدي عليه أن يثير إعجابنا وليس شفقتنا.
هنا في «سفر الحجارة» يخالف «الشهيد» القاعدة ويتحوَّل إلى بطل هزلي، فمثلاً في أحد المشاهد يضع الممثِّل تيسير إدريس الحزام الناسف على الطاولة في اجتماع لإحدى خلايا التنظيم ويسأل: من منكم يذهب إلى الشهادة؟. فيرفع أعضاء الخلية أياديهم كأنَّهم في فصل دراسي في المرحلة الابتدائية وهم يتدافعون بأصواتهم: أنا... أنا... أنا. لكن إدريس يرفض هذه الطريقة في تلبية «النداء السماوي» ويقول لهم بعدما يحيِّد ثلاثةً منهم (لأن أسرهم سبق وفقدت شهداء في الثورة!). يقول إدريس: سنقرر بالقرعة. ولمَّا نعرف الشهيد الذي سيقوم بالعملية يقول له رئيس المجموعة إدريس: مبروك ياعبد الرحمن. ويا الله كم يفرح الأخير!. فتبرز كاميرا يوسف رزق الورقة وعليها كلمة ( الشهيد )!؟. يا للعبقرية السينافيزيونية.
في الدراما ومع أبطال كهؤلاء، يجب أن يبيِّن المؤلف أو المخرج أنَّ عمل هؤلاء الاستشهاديين البطولي في وجه الاحتلال ليس تكفيراً عن خطيئة ولا يأتي نتيجة اندفاعة بل بعد معاناة والكثير من التفكير وربما التردد. مع هذا، قد لا يعجب البعض ربما ان نسأل كل من يكتب عملاً عن فلسطين أو عن الجولان أو الجنوب اللبناني أو عن العراق أن يراقب ما يجري حولنا وعلينا كأمَّة: ماذا حصدنا جراء هذه العمليات، ولماذا الدعوة لها والتشديد عليها؟ هل نسينا آلاف الشهداء والجرحى في حرب إسرائيل على غزة والعرب العاربة تتفرَّج؟ هنا الدراما الواقعية، لكن من يجرؤ على طرح قاس غير انشائي في مسألة كهذه؟ ثم أبهذه الطريقة نصدِّر مأساتنا الفلسطينية؟. قد يبدو «سفر الحجارة» لهاني السعدي ويوسف رزق عملاً بريئاً، لكنَّه في جانب منه ينشر ويسوِّق سذاجة وعمى العقل العربي وفي هذا مقتله.

أنور محمد

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...