الشهرستاني وعقدة الاختلاف

13-12-2008

الشهرستاني وعقدة الاختلاف

الحوار بين الأديان والحضارات هو إحدى نتائج العولمة التي فتحت المجتمعات على بعضها البعض وجعلت الآراء المختلفة معروضة أمام أنظار الجميع. ويتطلب هذا الوضع الجديد تغييرات جذرية في العقليات كي تواجه هذا التحدي، وأول شروط هذا التغيير القدرة على تقبل الرأي المختلف مهما بدا بعيداً عن المألوف والسائد. والتقبل هو غير القبول، لأن الاطلاع على رأي مخالف لا يعني الحكم عليه بالصحة أو الخطأ، فالمعرفة قيمة مطلوبة لذاتها، والحكم مرحلة ثانية تأتي بعد المعرفة، فإذا سبقتها كانت مصادرة على المطلوب وخللاً منهجياً واضحاً.
وليس الانفتاح على الرأي المخالف بدعاً في الحضارة العربية الإسلامية، فقد كانت حركة الفتوحات أنتجت وضعاً يشبه جزئياً عولمة اليوم، بما أنها جعلت العرب والمسلمين يحتكون في أقل من قرن بأكثر المذاهب والآراء والديانات القديمة. ويكفي أن نقرأ كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني مثلاً كي نتبين الطيف الهائل من الآراء التي كانت رائجة بين المسلمين، وقد عرضها الشهرستاني من دون عقد، لأنه عاش العصر الذهبي لعلم الكلام الإسلامي الأشعري، وكان واثقاً من قدرة هذا العلم على مجادلة كل المخالفين، فلم ير حرجاً في أن يعرض الآراء بما أمكن له من الدقة والحياد، على اعتبار أن تحريف رأي المخالف للرد عليه إنما يسيء إلى قيمة الرد أكثر من إساءته إلى رأي المخالف.
ويستغرب بعضهم التعارض بين المقدمات الخمس التي بدأ بها الشهرستاني كتابه ثم مضمون الكتاب نفسه، والحقيقة أن لا وجود لتعارض حقيقي. فالمقدمات تحتوي رؤية صارمة حول الحقيقة الدينية مفادها أن الأشعرية وحدها هي الفرقة الناجية. وبقية الكتاب تعرض آراء الملل والنحل بأريحية ومن دون توتر. فعندما عرض الشهرستاني آراء المعتزلة مثلاً، لم يحرفها أو يعتمد مصادر خصومها فقط، كما صنع قبله عبدالقاهر البغدادي في «الفرق بين الفرق»، بل نراه اعتمد أيضاً مصادر معتزلية أهمها كتاب «مقالات الإسلاميين» لأبي القاسم الكعبي البلخي. أما الفرق غير الإسلامية فقد قسمها إلى أهل كتاب ومن لهم شبهة كتاب وأهل الأهواء، ومع أن هذا التقسيم يتضمن حكماً واضحاً فإن العروض لم تتسم هنا أيضاً بالتوتر، بل بدا الشهرستاني متعاطفاً مع الفلسفة التي عدها بين فرق الأهواء، حتى نراه يرفع بعض أعلامها إلى مرتبة الأنبياء، كما قال عن هرمس إنه «المحمود آثاره المرضي أقواله الذي يعد من الأنبياء الكبار ويقال هو إدريس النبي عليه السلام». ومن الطريف أيضاً أنه عد المجوسية بين الديانات الكتابية وفصل آراءها التي استقاها كما يقول من مجوس دخلوا الإسلام أو من كتب مجوسية كانت متداولة في عصره. ولم يتحرج من نقل الحجج المخالفة للعقائد الإسلامية، ومن أمثلة ذلك الحوار الطويل الذي نقله بين الصابئة والحنفاء، أو الأدلة المفصلة التي نسبها لمنكري النبوات، ولقد عرض ذلك على مدى صفحات طويلة من دون حرج أو تدخل.
من هنا لا نرى تعارضاً بين المقدمات ومنهج الكتاب، فالشهرستاني لم يخف أحكامه على الأديان والعقائد التي عني بنقلها، لكن ذلك لم يمنعه من التزام نوع من الحياد المنهجي عند نقلها، أي أنه حاول الفصل المنهجي بين أحكامه الخاصة وعروضه للآراء المختلفة. وقد كان الشهرستاني ينتمي إلى جيل يشعر بالثقة بالنفس فلا يتحرج من الخلاف ولا يهابه، وكان يدرك أن أفضل الردود هي التي تنطلق من فهم جيد للرأي المخالف، وإلا وجد المتكلم نفسه محجوجاً عند المناظرة إذا استعد للرد على آراء لا تعبر بدقة عن مذاهب أصحابها. إن التخلص من عقدة الاختلاف هي الخطوة الأولى في كل عمل منهجي مهما كانت مقاصده بعد ذلك. والخطوة الثانية المطلوب تحقيقها اليوم هي التخلص من الرؤية الأحادية للحقيقة والعقلية الكلامية برمتها كي ننتقل إلى عصر حوار الأديان والحضارات.

محمد الحداد

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...