«بوّابة فاطمة» الليلة في دمشق
أحياناً حين نستمع إلى روجيه عسّاف، أو نقرأه، أو نشاهده على الخشبة في مسرحيّة له أو لأحد تلامذته، نفكّر في أنّه أكثر من ممثل ومخرج ورجل مسرح. هذا الرجل عنده كلّ مقوّمات العرّاف في المسرح الإغريقي، أو ـــــ بقاموس اليوم ـــــ المصلح الاجتماعي والمبشّر الثقافي. اعتناقه الرسولي لأوجاع الجماعة، يجعل منه نموذجاً للمثقّف العضوي والفنّان البريختي، كما حلمناهما في سبعينيات القرن الماضي. تلك المرحلة الخصبة في مسار المسرح اللبناني والعربي، وفي الحياة الثقافيّة والفكريّة في بيروت “مختبر الحداثة العربيّة” آنذاك، قبل أن ينفجر ـــــ بموادّه النهضويّة والطليعيّة الحارقة ـــــ على رؤوسنا جميعاً...
صاحب «المسرحة ــــ أقنعة المدينة» لا يحبّ مفهوم «الطليعيّة». فالفنان بالنسبة إليه ليس إلا واحداً من الجماعة. لكنّ المسرح تغيّر مع السنوات، كما الوعي السياسي ووسائل التعبير في العالم. السؤال المسرحي تحديداً تغيّر. الأشكال والقوالب والمفردات، والعلاقة بالجمهور. في بيروت، مع الجيل اللاحق، شرع فنّ الفرجة يبحث عن مكانه، يعيد النظر بهويّته وأدواته... روجيه عسّاف أعلن ذات يوم «موت المسرح» نظريّاً، بالمعنى الجمالي والايديولوجي، مستبدلاً به الاحتفال الشعبي الذي يغرف عناصره ومواده من الذاكرة الجمعيّة. ثم جاء بعده من يعلن موت المسرح جسديّاً، ويوصله إلى نقطة اللارجوع.
روجيه عسّاف هو الوعي الشقي للمسرح اللبناني! واصل، ممارسة الفنّ الذي يؤمن به، ويشكك فيه في الوقت نفسه. لذا يبدو لنا اليوم، عابراً للحقب والمراحل. يبدو «مقاوماً» على أكثر من مستوى. وصلت تجربة «الحكواتي» إلى أوجها مع «أيّام الخيام»، تغيّرت الفرقة، وتبدّلت الوجوه الشابة من حوله طوال ربع قرن. لكنّ هذا «المناضل» أو الناشط الثقافي، بقي يقيم من حوله بؤرة لطرح الأسئلة، محترفاً للعمل الجماعي. ظلّ يخرّج المبدعين، فينقلبون أحياناً على الخيارات الجماليّة والفكريّة لمعلّمهم السابق، ويشقّون طريقهم في اتجاهات مغايرة...
ما زال روجيه عسّاف يمارس المسرح كما يعرف. الراوي في مكان ما من المشهد، تتأرجح اللعبة معه بين السرد والتشخيص. شخصيات تطلع من الحكاية، وممثلون يتعاقبون على الشخصيات والحكايات، من دون أن يفوتهم تذكيرنا بهويّتهم الحقيقيّة. إنّهم أفراد ومواطنون مثلنا، بعد قليل يلتحقون بنا ويتركون الخشبة عارية، والفضاء فارغاً، مشرّعاً على الأسئلة الأخلاقيّة والإنسانيّة والوجوديّة المختلفة. لذلك يبدو أسلوبه نفسه، منذ السبعينيات، في تصوّر العرض المشهدي وبنائه وإخراجه، في إدارة الممثلين واستعمال الحيّز المسرحي والمقاربة السينوغرافية... في مكان ما بين برتولد بريخت وإروين بيسكاتور، وحكواتي صيدا القديم.
مسرحيّة «بوابة فاطمة» التي يقدّمها روجيه عسّاف ابتداءً من اليوم في العاصمة السوريّة ضمن برنامج «دمشق عاصمة الثقافة العربيّة ــــ ٢٠٠٨». لا تشذّ عن القاعدة. قد لا تكون أقوى وأنضج أعماله... لكنّها تمثّل عملاً خاصاً ــــ أقرب إلى الوثيقة والشهادة في آن. إنّها ابنة الضرورة والحاجة...تمخّض عنها مع رفاقه في «شمس» خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، وخرجت إلى النور بعد فترة قصيرة من صمت الطائرات المغيرة... فجاء عرضها الأوّل على خشبة «دوار الشمس»، بمثابة الصفعة لجمهور فرنكوفوني وفرنسي متعجّل لاستئناف الكرنفال الأبله في بيروت.
«بوابة فاطمة» احتفال تراجيدي يستعيد عدوان تموز ٢٠٠٦، من خلال نثار قصص وصور ومشاهد... يلجأ روجيه عسّاف إلى فضاء الحكاية، ليصوغ رؤيته السوداويّة لعالم متصدّع، لشعب يبحث عن خلاص.
لا جديد على المستوى الفنّي في المسرحيّة، رغم الابتكارات المشهديّة وتمثيل حنان الحاج علي وياسمينا طوبيا وروجيه نفسه. لكن لها مزايا أخرى: إضافة إلى كونها تعيد الصلة بالفرجة الشعبيّة، يمكن اعتبارها صرخة ألم أولاً، ورسالة إلى العالم من زمن البرابرة. هكذا هو روجيه عسّاف فنّان مجروح يريد أن يشهد، أن يشرك الناس في المأساة. أليس هذا الهاجس جوهر الفنّ بامتياز؟
«بوابة فاطمة» ـ 8:30 مساء اليوم حتى 13 تموز (يوليو) الحالي ـ مسرح «الحمراء»، دمشق
بيار أبي صعب
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد