اغتيال السادس من أيار وتجريم المقاومة اللبنانية
على امتداد قرن من الزمان إلا قليلاً، تعوّدنا أن نستفيق مبكرين صباح كل سادس من أيار للاحتفال بالذكرى المجيدة لشهداء الأمة العربية، واللبنانيين منهم في الطليعة، في حركة نهوضها المبكر وعودة الروح إليها، طلباً للتحرر والوحدة والاستقلال باستعادة هويتها الأصلية.
أما في هذا العام، فقد اغتيل فجر السادس من أيار و«العيد» والذكرى المجيدة بقرار خطير، لا يمكن أن يكون من وضعه (أو أملاه) يهتم لمصالح لبنان الوطنية أو لهويته العربية فضلاً عن تاريخ نضالات شعبه:
غير بعيد عن الساحة التي نصبت فيها المشانق لتعلق على أعوادها تلك الكوكبة من المجاهدين.
... وفي سرايا الحكومة التي أعاد تجديد بنائها، وأعلاها لتكون بين المعالم الجميلة لهذه العاصمة العظيمة بيروت، الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تلاقى نفر من أعضاء السلطة المدوّلة، والتي لا يفتأ الرئيس الأميركي جورج بوش يرعاها ويزكيها بوصفها «منتخبة ديموقراطياً»، ليتخذوا قراراً لا يمكن تبريره، ولا يمكن قبوله، ولا يمكن تنفيذه إلا إذا أرادوا فتح أبواب جهنم أمام هذا الشعب المنهك بأزماته السياسية والحياتية والذكريات السوداء للحروب الأهلية التي استهلكت جيلين من أبنائه ورمته في المجهول.
ولأن التاريخ شاهد لا يموت،
ولأن الماضي يعيش في حاضرنا ويزرع نفسه في مستقبلنا،
ولأننا نعيش في قلب الخطر، ومنطقتنا مفتوحة للاجتياحات الأجنبية المتوالية والمتمادية في استخدامها لكل الأسلحة القذرة، وفي الطليعة منها الفتنة الطائفية،
ولأن المصادفات التاريخية جعلت هذه السلطة المدوّلة تتخذ قرارها الذي لا يمكن قبوله، فضلاً عن تبريره، والذي يجعل المقاومة الباسلة التي رفعت رأس الأمة جميعاً، ولبنان الطليعة، «عصابة إرهابية»، «خارجة على القانون»، في تزامن لافت مع احتفالات العدو الإسرائيلي بالذكرى الستين لاحتلاله فلسطين وتشريد أهلها، وتدمير مستقبل شعوب هذا المشرق العربي جميعاً،
ولأن الذكريات السوداء تستدعي بعضها بعضاً فإذا «باتفاق 17 أيار» الذي فرضه الاجتياح الإسرائيلي، يحضر بقوة ويرخي بظلاله فوق سرايا الحكم وطيف مجدّد بنائها رفيق الحريري الذي كان له دور لا يمكن إغفاله أو التقليل من أهميته في العمل لإجبار السلطة، آنذاك، على إلغائه ورميه في مزبلة النسيان..
ولأن القرار بتجريم المقاومة المجاهدة يتجاوز القدرة على الفهم ومن ثم التبرير، سواء بتوقيته أو بمضمونه الذي يشي نصه وكأنه «مترجم» من لغات أخرى غير العربية، قطعاً،
لهذا كله كان بديهياً أن يفترض المواطن (الطبيعي) أن هذا القرار قد أُملي على السلطة من «الخارج»... و«الخارج» هنا أميركي، وإن كان في توقيته يفضح تواطؤاً عربياً يكاد يكون معلناً، فضلاً عن أنه قد يُعين رئيس حكومة العدو الإسرائيلي في أزمته التي تتخذ في هذه اللحظة من فساد الذمة وتلقي الرشى عنواناً، وإن كان جذرها في الهزيمة التي مُنيت بها حربه على لبنان جميعاً، كوطن وشعب ودولة، وبالطبع كمقاومة وكحكومة، خصوصاً أن المقاومة كانت شريكاً فيها، وكان في بيانها الوزاري ما يشهد لها بدورها المجيد، وما يوفر لها الضمانات الرسمية في وجه الحملة الدولية التي دخلت مرحلة الحرب المباشرة ابتداء من منتصف العام 2004 وبعنوان القرار الدولي .1559
ولهذا أيضاً كان بديهياً أن يفترض المواطن (الطبيعي) أن هذا القرار، بتوقيته كما بمضمونه، يدفع بالبلاد دفعاً إلى اقتتال بين أهلها لا يمكن أن يفيد منه إلا أعداء لبنان واللبنانيين (بل والعرب أجمعين)..
وكان بديهياً أيضاً وأيضاً أن يفترض أن هذا القرار ـ الخطيئة، نصاً ومضموناً، توقيتاً واستهدافاً، هو بعض ذلك الحَوَل السياسي الذي يأخذ السلطة في العديد من «الدول العربية» إلى مهادنة العدو الإسرائيلي، والتفرغ لمقاتلة مبدأ المقاومة (أية مقاومة في أية أرض عربية)، ومطاردة مجاهديها وكأنهم رجال عصابات مسلحة بلا قضية أو شذاذ آفاق يقاتلون لحساب الغير، ولا قضية..
[ [ [
لا يمكن أن يصدق عاقل أن «حكومة لبنانية» سوية، وكائناً من كان رئيسها أو المشاركون فيها، تصل في خروجها على البديهيات الوطنية إلى حيث انزلقت سلطة الأمر الواقع، المتحصنة في السرايا، المطعون في شرعيتها وميثاقيتها ودستوريتها، والتي لا يتعب الرئيس الأميركي جورج بوش من وصفها بالمنتخبة ديموقراطياً..
إنه قرار بإشعال الحرب الأهلية في هذا الوطن الصغير، وهو قرار يحمل تواقيع كثيرة من الخارج البعيد، وتواقيع ثانوية من الخارج القريب، ولذا تصعب قراءة هذا القرار بنصه المترجم إلى العربية، بل لا بد من العودة إلى نصه الأصلي «الأجنبي» حكماً، حتى لو حمل بضعة تواقيع لبضعة من السلاطين العرب.
لم يحدث في التاريخ أن أدينت حركة مقاومة للاحتلال، قاتلت كما لم يقاتل أحد، وحققت نصراً كان في منزلة المستحيل، فاتهمت في وطنيتها، وطولب بمحاكمتها على إنجازها العظيم..
ولم يحدث في التاريخ أن حاولت سلطة، أية سلطة، تحقير سلاح المقاومة الوطنية الذي استحق شرعيته بدماء مجاهديه، واستحق المجد والتكريم بإنجازه التحرير في 25 أيار 2000 (مرة أخرى أيار، يا للمصادفات المحزنة)..
كما استحق شرعيته بصموده البطولي في مواجهة أعتى قوة عسكرية في المنطقة، الجيش الإسرائيلي المعزز بالمدد الأميركي المفتوح، وعلى امتداد 33 يوماً مثقلة بالتضحيات... وهو ما كان ليحقق مثل هذا الإنجاز المضيء لولا التفاف الشعب من حول قضيته العادلة، ومن حول مجاهديه الأبطال..
وكذلك فإن هذا السلاح المقاوم قد استحق شرعيته بالاحتضان الشعبي العارم، الذي تخطى الحدود، فصار سلاحاً للأمة جميعاً في مواجهة أعدائها، وصارت المقاومة التي أنجبها شعب لبنان مفخرة للعرب، ونموذجاً يحتذى به في مواجهة الشعوب لأعدائها المدججين بالسلاح والخبرات والتقنية العالية.
ثم إن هذا السلاح «شرعي» ليس معنوياً فحسب، أكثر من هذه الحكومة التي فقدت شرعيتها مع خروجه منها، ثم تصدت لتصنيفه خارجاً على القانون، بل أساساً بتواقيع رئيس هذه الحكومة وأعضائها عبر بيانها الوزاري الذي كان وسيبقى نقطة مضيئة في تاريخ العمل السياسي في لبنان.
إن «تجريم» المقاومة لا يعني فقط إسقاط «الشرعية الواقعية» عن هذه الحكومة التي تتبدى الآن «مغتصبة سلطة» بالمعنى الفعلي، بل هو يحوّلها إلى الموقع الذي لم يكن أحد يريده لها: أداة الفتنة والحرب الأهلية... وهي أهداف عجزت عن تحقيقها سلطة 17 أيار قبل خمس وعشرين سنة، برغم «الإجماع» النيابي والحكومي على إقرار «اتفاق العار» يومذاك، ولا نعتقد أن القائمين بالأمر اليوم سيقدرون على إنجاز هذا الهدف.. المستحيل، بشهادة التاريخ!
والشعب هو هو الشاهد والشهيد.
طلال سلمان
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد