مصر: 80% من الموظفين الحكوميين تحت خط الفقر
فتاة جميلة مدللة تقف لتختار الشخص المناسب شريكا لحياتها. ولم يكن غريبا أن تتضمن قائمة المتقدمين لها موظفا متباهيا بأنه "قيمة ومركز" في وظيفة "ميري" أي في القطاع العام.أمام تلك الإغراءات، لم تستطع الفتاة أن تقاوم عرض الموظف الحكومي سوى بالقول إنه "كلام جميل ما أقدرش أقول حاجة عنه".
هذا المقطع الغنائي من فيلم "عنبر" الذي قامت فيه بدور الفتاة ليلى مراد، هو أفضل تعبير عن حال الموظف الحكومي في مصر عندما انتج هذا العمل في أربعينات القرن الماضي مقارنة مع الوقت الحاضر.
في الماضي، كان الموظف الحكومي يحظى بمكانة مرموقة وعيشة كريمة، حيث أن عمله منحه دخلا كافيا ومعاشا ثابتا وتأمينا مضمونا على صحته، مع امتيازات أخرى مثل مجانية التنقل في وسائل المواصلات العامة.
لكن في الوقت الحالي، فقد الموظف الحكومي تلك المكانة المتميزة، مع تدني دخله الذي لم يعد يناسب تكاليف المعيشة المرتفعة ومع هيمنة القطاع الخاص على سوق الوظائف.
"اعتقد أن 80 في المئة من الموظفين الحكوميين باتوا يعيشون تحت خط الفقر، في ظل ثبات المرتبات رغم الارتفاع الشديد لأسعار كل شيء،" حسبما يقول خالد بهاء الذي يعمل في أحد البنوك الحكومية بالقاهرة.
بلغة الأرقام، قد يكون ظن خالد صحيحا. فالحد الأدنى لمرتب الموظف الحكومي شهريا هو 250 جنيها (50 دولارا تقريبا)، وهو يعني أن من يحصل على هذا الراتب يعيش بالفعل تحت خط الفقر الذي يقف عند 60 دولارا شهريا.
بل أن بعض المصريين يتندرون على أن هذا المرتب لا يكفي لشراء أكثر من أربعة كيلوجرامات من اللحم حسب متوسط الأسعار حاليا التي شهدت ارتفاعا كبيرا في السنوات الأخيرة.
هذا الوضع ينطبق على حوالي 5.6 مليون شخص وهو إجمالي العاملين في القطاع العام، والذين تظاهر الكثيرون منهم في الآونة الأخيرة في مصر احتجاجا على تدني الأجور من بينهم الأطباء وأساتذة الجامعات.
الحكومة تقول إنها تقوم بجهود لرفع تلك الأجور رغم الميزانية المحدودة للدولة، آخرها هو الطلب الذي تقدم به وزير التخطيط والتنمية الاقتصادية عثمان محمد عثمان مؤخرا إلى مجلس الشعب لتحسين أوضاع موظفي الحكومة.
وفي حواره مع بي بي سي العربية يعترف الوزير بحجم المشكلة، التي يشير مراقبون إلى أنها تؤدي إلى مشكلات أخرى كاستشراء الفساد بين موظفي الحكومة.
بل أن الوزير نفسه، المفترض أنه مسؤول عن تحسين أوضاع الموظفين الحكوميين، يقول إنه لم يسع إلى مساعدة نجليه على الالتحاق بوظائف في القطاع العام. "إنهما يعملان في القطاع الخاص، فالأول محاسب والثاني مهندس، ويحصلان على مرتبات عالية أفضل بكثير من القطاع الحكومي."
وهنا يأتي السؤال: لماذا انقلبت أوضاع الموظف الحكومي المصري رأسا على عقب بهذا الشكل؟
يوضح وزير التخطيط والتنمية الاقتصادية بأن "القانون ما زال ينص منذ عام 1984 على أن الحد الأدني للمرتب الشهري للموظف الحكومي هو 35 جنيها (أي حوالي سبعة دولارات تقريبا)،".
لكن ذلك هو سبب واحد من عدة أسباب أخرى لتردي وضع الموظف الحكومي.
تاريخيا، كان ينظر إلى الدولة، منذ إنشائها في عهد محمد علي في القرن التاسع عشر وحتى نهاية عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، على أنها جهاز يتميز بقدر من القوة والكفاءة التي انعكست على وضع الموظف الذي صار التحاقه بالقطاع العام وسيلة من وسائل الحراك الاجتماعي أيضا.
كما أن حاجة الدولة لهؤلاء الموظفين ؟ خاصة بعد الاستقلال - اضفى عليهم قدرا من الأهمية نظرا لدورهم في خدمة مؤسسات الدولة الناشئة آنذاك.
لكن اختفت هاتان الميزتان منذ بداية السبعينات مع الانفتاح الاقتصادي الذي شهدته مصر والذي ارتبط به امتداد دور القطاع الخاص الذي بات الآن الموظف لأكثر من 20 مليون شخص وفق الإحصاءات غير الرسمية.
وبذلك "فقدت الدولة الكفاءة النسبية التي كانت تتمتع بها في السابق، في ظل انهيار آدائها والخدمات التي تقدمها وبروز مشكلات أخرى كالفساد والبيروقراطية،" كما يقول عمر الشوبكي الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
الشوبكي يضيف: "كل ذلك جعل صورة الموظف الحكومي تتحول إلى صورة سلبية."
أما بالنسبة للميزة الثاني، فلم تعد الدولة بحاجة إلى هذا العدد الكبير من الموظفين في الوقت الحالي في ظل تقليص خدمات الدولة واتساع نشاط القطاع الخاص.
يقول وزير التنمية الاقتصادية إن "ربع الموظفين بالحكومة يمكن الاستغناء عنهم لأنهم عمال خدمات معاونة أي ينقلون المستندات من مكتب إلى مكتب ويقدمون المشروبات لغيرهم من الموظفين."
عثمان يرى أن الأمل هو تطوير القطاع الخاص ليستوعب أعدادا أكبر من الأيدى العاملة وبالتالي يرفع العبء عن كاهل الدولة.
لكن القطاع الخاص ما زال يحتاج إلى بعض الوقت ليضطلع بهذا الدور. فكثير من العاملين بمؤسسات خاصة يشكون من ساعات العمل الطويلة وعدم توفير تأمينات اجتماعية مناسبة لهم. أضف إلى ذلك ارتفاع عدد العاطلين إلى أكثر من 25 ألف شخص.
كل ذلك أدى إلى استمرار الرغبة في العمل في القطاع العام، وهو ما اتضخ في الطوابير الطويلة من الشباب عند الإعلان عن أي وظيفة حكومية.
المثير أن السينما المصرية رصدت هذا التحول الذي طرأ على وضعية الموظف الحكومي.
ففي فترة الثمانينات، انتج فيلم "حد السيف"، وفيه موظف حكومي كبير يعمل في فرقة فنية تقودها راقصة من أجل توفير سبل عيش أفضل لأسرته. لكن الموظف لم يخبر أحدا بطبيعة بتلك الوظيفة الإضافية خشية الفضيحة في المجتمع.
فيلم آخر انتج في تلك الفترة هو "الموظفون في الأرض"، الذي يتناول قصة مدير عام في مؤسسة حكومية ؟ جسد دوره الفنان الراحل فريد شوقي ؟ والذي انتهى به المطاف إلى العمل كمتسول في نفس الوقت لتحسين دخله.
وينتهي هذا الفيلم بمشهد اللقاء بين شحاذين تعرفا على بعضهما البعض عندما قال الأول إنه موظف في وزارة المالية وقال الآخر إنه موظف في وزارة الأوقاف _ فكلاهما يعملان في القطاع الحكومي.
المصدر: BBC
إضافة تعليق جديد