اللامساواة والبيئة يتحديان الاقتصاد العالمي
يعاني اقتصاد العالم سلبيات ارتباطه بالاقتصاد الأميركي، فهو لا يزال تابعاً له منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحمّل على مدى أكثر من ستين سنة أعباء أزماته. راهنًا، ومع تحقيق الدول الناشئة نمواً كبيراً وقويّاً، يبدو أن الاقتصاد العالمي قادر على أن يتفّلت من التبعية لأقوى اقتصاد عالمي. فهــل يستطيــع أن يستمرَّ بعيداً من ارتدادات أزمات الاقتصاد الأميركي؟
منذ خمس سنوات أظهر الاقتصاد العالمي، رغم ارتفاع سعر البترول المتواصل، وعدم الاستقرار في مناطق كثيرة ، وتباطؤ الاقتصاد الأميركي، أنه ينمو بقوّة «متغطرسة». ففي 2006 قارب معدّله 6 في المئة، وحقّق في النصف الأول من 2007 معدّل 5 في المئة متراجعاً نحو ربع نقطة عما كان متوقعاً له وانخفضت التوقعات لعام 2008 نصف نقطة الى 4.75 في المئة. فالدول الناشئة وتلك النامية شهدت نموًا غير مسبوق بمعدل 6 في المئة لأوروبا الوسطى والشرقية، و6.2 في المئة لأفريقيا في 2007.
لكن، وللمرّة الأولى، دخل نمو الاقتصاد الأميركي مرحلة انطواء منذ 2006، وبدأت زيادة معدل الفائدة منذ 2004 تحمّل الأسر الكثيرة الديون، أعباء كبيرة، ساحبةً وراءها أزمة عقارات عميقة الأثر، أدّت إلى تراجع الاستثمار في هذه العقارات وانخفاضٍ في أسعار المساكن. ورغم كل شيء بقي نشاط الاقتصاد الأميركي ممسوكاً في الإجمال (بلغ معدل النمو 3.3 في المئة 2006، وقريباً من 3 في المئة في 2007) والاستهلاك الأسري دينامياً. وراهن معنيون وخبراء على أن العدوى لن تصيب اقتصادات أخرى، أو أن أثر الأزمة سيكون محدوداً على الاقتصاد بعامة بحسب تقرير صندوق النقد الدولي في نيسان (ابريل).
في الواقع، بدأت مناطق أخرى من العالم تحلُّ بدل الاقتصاد الأميركي كمحرّك للاقتصاد العالمي. هذه هي حال آسيا مع قوة الصين الاقتصادية المتنامية، ومع استعادة الاقتصاد عافيته أيضاً، وكذلك حال الاتحاد الأوروبي الذي، بفضل الاقتصاد الألماني ودينامية أعضائه في أوروبا الوسطى والغربية، عرف فترة من أقوى معدلات النمو بدأت في 2001 وتجاوزت اقتصاد أميركا في 2007. ففي 2006 ساهم الاقتصاد الأميركي بنسبة 21 في المئة في حفز النمو العالمي، والصين بنسبة 12.5 في المئة والاتحاد الأوروبي بنسبة 22.
وللمرّة الأولى، يُتاح لنمو الاقتصاد العالمي أن يفك ارتباطه بالاقتصاد الأميركي، وهو أمرٌ يعتبر جيّداً لأنّه يعبّر عن ارتباط أقل للعالم تجاه الطلب والدين الأميركيين. فلم يكن منطقياً، أو عدلاً، أن يخضع معظم الدول، والدول النامية في شكل خاص، كلياً إلى الأقدار الاقتصادية لأغنى اقتصاد عالمي والأكثر تبذيراً في هذا الكوكب. وحلُّ الربط بين الاقتصادين الأميركي والعالمي، سيتيح لدول العالم أن تشهد توزيعاً أفضل لثمار النمو. فالاقتصاد العالمي لم يشهد في السابق إنتاجاً يماثل حجمه الحالي، وبات النمو موزّعاً على دولٍ أكثر ومناطق مختلفة. لكن هذا التوزيع المنتشر في مساحاتٍ جغرافية أوسع من قبل، يبقى أكثر نسبية، ويشهدُ عليه نصيب شعوب العالم من الناتج المحلي ومن المبادلات التجارية. كذلك يبقى فك الارتباط بين الاقتصاد الأميركي والاقتصاد العالمي نسبياً أيضاً لأن نمو الاقتصاد الأميركي، رغم تباطؤه، حقّق معدلات فاقت مستوى التوقعات. لكن النتائج العملية لهذا التباطوء تبقى غير مؤكّدة، فالنمو العالمي غير المسبوق في توسعه وعولمته في تاريخ الرسملة المعاصرة، يطرح عدداً من التحديات، التي ترسم المستقبل والاستقرار يتقدّمها تحدّياً اللامساواة والبيئة.
وحمل الازدهار الهيئات العالمية في نطاق هيئة الأمم المتحدة، ومرجعيات سياسية وهيئات غير حكومية في العالم، على الاهتمام بتوزيع الثروات لتستفيد منها أوسعُ شريحة سكانية. فاللامساواة في توزيع أنصبة الناتج المحلي أو في الدخل، تستمرُّ في الصعود لكنها تبقى نسبيّة نظراً إلى كون الازدهار بات يعم مناطق كثيرة من العالم. وتالياً، فالفلاح الصيني مثلاً يستفيد من نمو بلاده، ومن تحويل الأموال من المدن إلى القرى، ومن تحسين مستوى حياته. وبحسب تقرير البنك الدولي في تشرين الأول (أكتوبر) 2005، تقلص عدد شديدي الفقر. لكنّه في تقرير تشرين الأول 2007، ألقى اللوم على الإنجازات التكنولوجية في كونها «من أكثر العوامل إسهاماً في زيادة عدم المساواة، إضافةً إلى زيادة العولمة المالية». لذا تظهرُ المؤشرات أن اللامساواة تشتدُّ في كل مكان من العالم. ففي الدول النامية أو الناشئة يُلاحظُ بديهياً أن فئات الدخل المرتفع تتمتع دائماً بموارد كبيرة في وقتٍ تتراجع قدرة الشراء لدى الفقراء وتستمر تنزف. وهذه الوضعية تميّز أيضاً الدول الصناعية القديمة، إذ لا تتوقف الفروقات في الأجور، عن الاتساع. فأرباب العمل يتمتّعون بمكافآتهم المفرطة، لكنها ليست سوى ظاهرة من ظواهر اللامساواة. ففي أيار 2007 أظهرت دراسة في الولايات المتحدة أن دخل واحد في المئة من السكان الأكثر ثراءً، زاد 180 في المئة بين 1979 و2004، بينما لم يرتفع دخل 20 في المئة الأكثر تدنياً، سوى 7 في المئة في المدة ذاتها، واستنتاجاً فإن إعادة توزيع الدخل هي أدنى مما في الماضي ومما يطمح اليها الضمير العالمي.
التحدي الثاني الذي يواجه النمو يتأتى من المسائل البيئية التي تقلق، خصوصًا بعد عجز المسؤولين السياسيين في العالم، عن القيام بواجباتهم في اتخاذ إجراءات ضرورية لحماية إطار الحياة، يشهد عليهم تفويتهم أحكام بروتوكول كيوتو خلال الأشهر الماضية. ورغم ذلك تتخذ المؤسسات الدولية قرارات تحد من ارتفاع حرارة الكون. ففي حزيران الماضي اتخذت مجموعة الثمانية توصية بألا يتجاوز ارتفاع حرارة مناخ الأرض 2 في المئة، حتى عام 2050. لكن الاجراءات المعلنة بقيت غير دقيقة لتسمح باحترام مؤتمر كيوتو المستمر العمل حتى 2012. وفي مؤتمر بالي للمناخ بقي الخلاف حول مقاربة المسألة وخرج الاتفاق بالحد الأدنى. وحدها السعودية أطلقت صندوقًا في بداية الشهر الجاري، لحماية البيئة وللحد من انبعاث الغازات المسببة للدفيئة. لكن يبقى الاختلاف على الوسائل، لا سيّما في الدول الناشئة التي تحلم بالتطور منذ سنوات والتي يجب أن تعمل حاليًا للحد من استهلاكها للطاقة، وتالياً من انبعاث ثاني أوكسيد الكربون. أي ما يقلّص حتمًا النشاط الاقتصادي بهدف احترام البيئة الكونية، وتاليًا يقلّص النمو العالمي.
ميشال مرقص
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد