لبنان: جمهورية بلا رأس
يدوي الفراغ الآن في جمهورية الانقسام على الذات.
خرج إميل لحود مع انتصاف الليل من القصر الجمهوري الذي سيغرق في صمت الفراغ لفترة قد تطول. التفت يبحث عمن يسلمه الأمانة فلم يجد أحداً.. فتركها وديعة تنتظر من يأتي ماشياً فوق الصعب ليتسلمها.
عُزف له النشيد الوطني لآخر مرة. مشى بخطوات عسكرية يتقنها جيداً هو العسكري ابن العسكري. أدى التحية للعلم، ودّع قائد الحرس وذلك النفر من المعاونين الذين لم يتخلوا عنه في أيام الشدة. عند نهاية العرض ألقى خطبة الوداع، فكرر مواقفه المعروفة. لم يبدل فيها حرفاً، برغم كل ما لاقاه من عنت وإساءات واتهامات تجاوزت السياسة إلى شخصه. قال «ان لبنان قوي، لا يمكن لأي دولة مهما كانت قوية أن تفرض عليه رئيسه، ويجب أن يأتي غداً رئيس قوي. وأنا مرتاح، ولبنان بعده بألف خير»!.
أطفئت أنوار القصر لأن الحل قد تأخر في الوصول إليه. «الحواجز»، الدولية أساساً وضمنها المحلية، كثيرة في الطريق. لم تنفع الوساطات والشفاعات والمبادرات ونداءات الاستغاثة في رفعها. لم تفلح «لائحة البطريرك» التي وُضعت بطلب فرنسي قيل إنه مدعوم أميركياً، في إزالة الحواجز لملء فراغ القصر برئيس جديد يعيد التوازن إلى السلطة، بل إلى البلاد جميعاً... وهكذا ظلت نافورة القصر ترمي مياهها شلالاً ثم تستعيدها النافورة مرة أخرى.
في بعض أنحاء بيروت كان بعض المتحمسين لعهد الفراغ يحتفلون بخروج اميل لحود بحلقات دبكة فيها طبل وزمر وألعاب سيف وترس. اللبنانيون شاطرون بالدبكة تعبيراً عن الفرح، أو وصولاً بالنكاية إلى ذروتها.. حتى لقد علّموها لبعض كبار الزوار ممن جاءهم لصياغة الحل المرتجى، فعاد خائباً كمن سبقه.
وفي أنحاء متفرقة من لبنان كان كثيرون يتجادلون حول الدستور. الكل تحولوا إلى خبراء دستوريين ومتفقهين في العلوم الدستورية... بمن في ذلك من لم يقرأ الدستور، ومن قرأه فلم يفهمه، وفي كل الحالات لم يحترمه.
في الصباح كانت القيادات السياسية قد استنقذت بعض رصيدها في «التوافق» عبر المجلس النيابي، على أمر واحد: تنظيم الفراغ في قمة السلطة!
بهذا المعنى فإن الجلسة النيابية، أمس، كانت «نموذجية» في تظهير العجز الفاضح لهذا النظام السياسي، بتركيبته الطوائفية، عن مواجهة الأزمات التي يستولدها باستمرار.
ليس أبأس من نسبة المشكلات والتعقيدات إلى «الخارج» إلا انتظار الحلول العجائبية من «الخارج»، بينما تتفرغ القيادات السياسية اللبنانية لممارسة هوايتها المفضلة في استيلاد الأزمات، أو تأزيم الخلافات حتى يستحيل حلها، وتسد عليهم الأفق.
على أن إعلان التوافق على الفراغ كان مصدر راحة لهذا الشعب الذي ينام في قلب خوفه، ويستفيق في قلب القلق على مستقبل أبنائه.. ولكن من دون أن يغادر عصبياته «المقدسة»!
المهم، ان المتخاصمين قد اتفقوا في المجلس النيابي الذي ينتظر، بدوره، توافقهم ليمارس دوره الطبيعي، على هدنة لا يحميها إلا خوف كل طرف من الآخر أو الآخرين.
ذهبت لائحة البطريرك الماروني أدراج الرياح، وكان من حقه ان يتوجه بالعتاب إلى من ألح عليه بوضعها، فلما «تورط» مرة أخرى، بعد تجربته المرة في العام ,1989 خذله من طالبه بإعدادها، يستوي في ذلك «الأصدقاء الفرنسيون» أو «القادة» المحليون، بمن فيهم أبناء الطائفة الذين يقولون ان «مجد لبنان أعطي له»، ثم يمزقون لائحته إرباً!
- توافق الجميع، إذاً، على الفراغ. هذا يعفي كل طرف يتحمل المسؤولية من مسؤوليته، فإذا الكل غير مسؤولين عن الفراغ الذي تسببوا فيه.
ولقد جرب لبنان فراغ سدة الرئاسة قبل 19 سنة. لم يكن، يومها، مقصوداً بذاته. كان قراراً من «الرئيس» الذي ظل حتى اللحظة الأخيرة يحلم بالتجديد أو بالتمديد، فلما دقت ساعة المغادرة لم يجد غير المجلس العسكري مخرجاً..
لكن الحال غير الحال، اليوم، وهذا يجنب البلاد والمجلس العسكري
التجربة البائسة التي استولدت حكومتين، وشقت البلاد، فعاش لبنان أكثر من حرب أهلية في وقت واحد.
على أن اللبنانيين لا يجدون، الآن، ومرة أخرى، من يطمئنهم إلا الجيش.. خصوصاً أن الجيش قد تجنب، من قبل ومن بعد، أن يكون طرفاً، فحمت قيادته بوعيها وحدته، وبالتالي وحدة البلاد. الكل يتلطى الآن خلف الجيش... والجيش يغطي، بدوره الوحدوي، صورة الانقسام.
الانقسام يشلّع البلاد. لكن الخوف يوحد اللبنانيين.
والشارع يضج بأسئلة القلق الذي يوحده.
لقد نجح النواب في استنقاذ أنفسهم (ومجلسهم).
ونجح لحود في الخروج من الرئاسة بأقل قدر من الخسائر. بل لعله نجح، يوم أمس في ترميم صورته التي نالها الكثير من التشويه المتعمد، ربما بقصد منع الرئيس الجديد ـ متى انتخب ـ من أن يلتزم الثوابت التي توصله إلى الرئاسة.. قوياً.
- الضحايا كثيرون، وفيهم مراجع محلية محترمة، وفيهم دول ذات تجربة عريضة مع لبنان.
فيهم جامعة الدول العربية بأمينها العام الذي بات عالماً علامة بالطوائف والمذاهب. وفيهم دول الاتحاد الأوروبي، وبالذات منها «الثالوث الكاثوليكي» بقيادة وزير خارجية فرنسا الذي يعرف لبنان بجهاته وطوائفه وأمراضه أكثر من معظم القيادات اللبنانية. وفيهم الفاتيكان بشخص القاصد الرسولي الذي تحرك كثيراً وحاول جاهداً التوفيق داخل «الطائفة الممتازة» فخذله من يفترض فيهم الاستجابة لطلبه بغير نقاش... ولا يمكن ان ننسى الأمين العام للأمم المتحدة الذي جاء فطاف على مرجعيات لم يسبق ان التقت مثله، وحاول ففشل وانتهى بأن دأب على إصدار التحذيرات يومياً من مخاطر غير مسبوقة.
تبدو الإدارة الأميركية وحدها خارج قائمة «الوسطاء».
لقد كانت طرفاً وظلت طرفاً محرّضاً على ان الفراغ أفضل من التوافق، حتى آخر لحظة. بل إنها لم تتورع عن تأييد الحكومة البتراء التي سقطت الآن ذرائعها الشكلية بأن تبرر وجودها بمزاحمة رئيس الجمهورية الممددة ولايته قسراً..
- الفراغ في كل مكان. في القصر الجمهوري. في مجلس النواب حيث ظلت معظم المقاعد فارغة. في مجلس الوزراء للفراغ سلطة القرار.
الرئيس نبيه بري قاتل الفراغ طويلاً. سعد الحريري لا يهتم لنصائح المحرّضين على القبول بالفراغ. وليد جنبلاط أبلغ بري: لا أريد ان نذهب ضحايا المؤامرات والقرارات الدولية.
الأميركيون أنهوا تفويض المجلس قبل يومين حين أبلغوا من يعنيهم الأمر: «هذا هو مرشحنا ولا نقبل بأي مرشح آخر»!
سيستمر الحوار، برغم نجاح الإدارة الأميركية في «انتزاع» موافقة العرب على حضور مؤتمر أنابوليس.
لا مبرر لحضور لبنان. للبنان القرار .1701
نبيه بري دعا إلى جلسة لمحاولة أخرى يوم الجمعة المقبل. يمكن ان يجعلها غداً إذا ضمن التوافق.
الكل في انتظار التوافق الذي لا يأتي، لأن واشنطن تسد عليه الطريق.
حسناً. فلنأمل أن يحصّن «تنظيم الفراغ» البلاد من مخاطر الفتنة.
ولنأمل ان يتنبّه الجميع سريعاً إلى ان الخلل في التوازن قد تفاقم بحيث لا يمكن التعايش معه طويلاً.
- لقد خرج إميل لحود كبيراً في نظر نفسه ومؤيديه..
.. لكن الأزمة بقيت كبيرة، في نظر الجميع، سواء من عارضه منذ دخوله، أو من عارضه عند التمديد، أو من شهّر به على امتداد السنوات الثلاث الأخيرة.
الأزمة ليست أكبر من رئيس الجمهورية (السابق الآن) وحده، بل هي أكبر من الجميع، حتى يثبت العكس.
المهم، ان يحفظ الفراغ المنظّم.. من منظميه!
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد