غسان الإمام : عبادة الشخصية في السياسية العربية
غلبتني الأحداث والظروف، فتأخرت عن التعليق على الظهور «الميلودرامي» لطارق عزيز شاهدا بـ «البيجاما» في محاكمة صدام. لكن شهادته تصلح لتناول ظاهرة «عبادة الشخصية» التي فرضها كَهَنة السياسة، وما زالوا يمارسون طقوسها في العالم العربي.
قوميون ومثقفون وإعلاميون، بل وأصوليون، أثنوا على الرجل، وقدموه دليلا على الوفاء «للبطل»، والولاء الذي لم يهتز بعد السقوط، والجرأة في الشهادة «الصادقة»، على الرغم من المحنة التي يمر بها «الزعيم» وتابعه «قُفَّة».
ظاهرة «عبادة الشخصية» ليست محيرة. فهي نتاج هزال ثقافة الحرية والتربية الديمقراطية على مستوى النخبة والجمهور. بل هي نتاج محنة حقيقية لدى مثقفي التيار القومي بالذات.
الأخطاء الكارثية المروعة التي ارتكبها صدام، وتسببت بسقوط نظامه، لم تمنع «المؤتمر القومي العربي» من اصدار بيان فوري بعد الهزيمة، يغطي على الأخطاء، ويطالب بالكف عن «مقولة مسؤولية القيادة العراقية عن هذه الحرب»!
الاستبداد أقدم من الحرية. التاريخ رواية مستمرة لمسيرة الطغاة منذ ولادة الحضارة الإنسانية. ديمقراطية أثينا سحقتها عسكرية شقيقتها الاغريقية اسبرطة. ديمقراطية روما تحولت إلى امبراطورية يعيث فسادا فيها أباطرة من طراز نيرون وكاليفولا. مبدأ الشورى في الإسلام لم تطبقه الدولة الإسلامية. تجسد أمير المؤمنين دائما في شاه وخميني. السلطان محمد الفاتح لم يتفرغ لفتح القسطنطينية، إلا بعدما فرغ من قتل 19 شقيقا وابن عم له، ينافسونه على الخلافة العثمانية التي يتحسر عليها الأصوليون. أوروبا لم تتمكن من رفع أعلام الديمقراطية، إلا بعد حربين عالميتين ضد الدكتاتورية الفاشية والعنصرية، هلك فيها مائة مليون إنسان.
«عبادة الشخصية» ولدت في صميم «جمهورية الاستقلال» العربية. لم يتح الوقت طويلا لدكتاتورية حسني الزعيم وأديب الشيشكلي وعبد الكريم قاسم لتكريس «عبادة الشخصية»، لكن جمال عبد الناصر هو الذي جعلها مؤسسة عربية رسمية، لها طقوسها وأدواتها وأسلوبها وكَهَنتها، وفوق كل ذلك زعيمها «البطل» الجماهيري.
الشعوب، أحيانا وفي ظروف صعبة، تحتاج إلى «بطل ملهم». لكن الإلهام الغريزي في السياسة والسلطة خطر على عقلانية القرار. لا شك أن عبد الناصر كان يملك سحر الشخصية والجاذبية.
نضاله السياسي لاستعادة عروبة مصر، وتحقيق استقلالها، وتمصير قنالها، ثم تحقيق الوحدة مع سورية... كل ذلك ضمن له شعبية جماهيرية واسعة.
غير أن عبادة الشخصية لم تكفل دائما لناصر سلامة القرار وصوابه. كارثية القرار تمثلت، مثلا، في رفضه استعادة الوحدة بعدما زاره قادة الانفصال السوريون نادمين باكين. بعد سنوات قليلة، عاد ناصر، فتحالف مع نظام صلاح جديد الماركسي المراهق الذي يحمل معه مسؤولية الهزيمة (1967)..
«عبادة الشخصية» ازدهرت ازدهارا كبيرا بعد الانطفاء المبكر لـ «البطل». لم تكن المأساة كافية لإقلاع الأنظمة التي خلفته عن ممارسة طقوس هذه العبادة المخيفة. بل تم تطوير أدواتها ووسائلها وأسولبها، وإهالة هالة من القداسة على أبطالها، بحيث باتت تشكل اليوم عقبة أمام تطوير النظام ومسيرة الحرية والديمقراطية في العالم العربي.
في الوسائل والأدوات، تم تسخير الإعلام لخدمة «البطل». قُلبت الحقائق. صارت الهزيمة نصرا، والإخفاق إعجازا وإبداعا. في الديكور، نصبت التماثيل، ورفعت الصور الضخمة والشعارات التي تحاكي عبادة الشخصية في صين ماو وكوريا كيم الأب والابن. في الأسلوب، سيطرت الدولة على المجتمع. حُجِّمت الديمقراطية في صيغ مصطنعة، بحيث استحال الأمل في الانفتاح.
في عبادة الشخصية، رسم كَهَنة السياسة صورة «قداسية» للقائد الحكيم. فهو البطل. الملهم. المرشد والموجه. هذه الزلفى المكررة سولت للقائد الظن بأنه ملهم حقا. خدمت الظروف وحسن الحظ هذا الظن الموهوم، فضاقت دائرة القرار، وصرف المستشارون عن النصح والمشورة.
كرست عبادة الشخصية انحلال الدولة وذوبان النظام في شخص «القائد». بات صدام يعتبر أي نقد أو معارضة لنظامه اعتداء على شخصه يستحق صاحبه الإعدام بتهمة الخيانة.
في التفرد بالقرار والسلطة، ارتُكبت الأخطاء المروعة في الداخل والخارج. في اعتماد أساليب الآلة الأمنية القمعية، تراكمت مسؤولية «البطل» عن انتهاك حقوق الإنسان، بحيث استحالت إمكانية الإصلاح، ومصالحة المجتمع وهيئاته المدنية. في خوف النظام من التغيير، تمت إدانة الديمقراطية بالرجعية والعمالة للغرب! صورت الفوضى بديلا للأمن والاستقرار، إذا انهار النظام.
«البطل» ليس وحده المسؤول عن «عبادة الشخصية». كَهَنة المعبد على مستوى مسؤولية «القائد» أيضا. تم اختيارهم أصلا من ضعاف الشخصية والإرادة والكفاءة. رجال خدمات سَهُلَ إغراؤهم بالمنح وإفسادهم بالأعطيات.
ليس غريبا أن يقف طارق عزيز ليمارس عبادة شخصية صدام، على مشهد من العالم كله في المحكمة. ما زال صدام عنده «الشجاع. الكريم. رجل القانون. المحب والمحبوب...»! هذا الكاهن المخضرم أدمن العبادة المحرمة. لا يستطيع التنكر للقائد الذي أجزل له العطاء، وضمن له حياة مرفهة كسولة، وجعله موفده إلى العالم، ليكذب له ولصالحه، ولينفي جرائمه. فهو الشاهد الذي «مشافشي حاجة».
سعدون حمادي هو المثقف الحقيقي. انه مثقف السلطة الممارس بصمت الولاء لصدام. عندما بشر سعدون بالليبرالية والتعددية، بعد توليه رئاسة الحكومة في أعقاب حرب الكويت، هدده صدام بقطع يده، وألغاه من الحكومة والحزب.
هؤلاء الكَهَنة من ساسة وإعلاميين هم الخطر الحقيقي على الزعامة. يجري الآن الإعداد لنقل طقوس العبادة من جيل إلى جيل، وحيثما حل الأبناء محل الآباء في أكثر من دولة عربية!
أيضا، لا قداسة ولا معصومية لرجل دين عندما يعمل في السياسة. التيوقراطية الشيعية الحاكمة في إيران سحبت «الهالة القداسية» التي يحاط بها آل البيت، لتسبغها أيضا على الخميني. أنا اليوم أخاف على السيد حسن نصر الله من أن يضعه حزبه الديني فوق النقد والمساءلة، تقديرا لكفاءته في إدارة الحزب والسياسة.
لم أشاهد الفصل الساخر في تلفزيون «إل. بي. سي» لأتأكد من أنه يتعمد الإساءة، أو أنه يمارس الدعابة البريئة. انما أقول إن تناول شخصية «السيد» في سياق تناول شخصيات «أسياد» السياسة اللبنانية وما أكثرهم، يلغي الحاجة لتجييش جماهير الحزب، وتحشيدها في الشوارع، لتمارس علنا طقوس «عبادة الشخصية».
حسنا فعل حسن نصر الله، في سحب الحزب وميليشياه من الشارع. «الجهاد» لا يلغي الابتسامة والدعابة. حسن نصر الله يمثل جيلا سياسيا أصوليا أكثر تعقيدا وفهما وذكاء. هذا الجيل الأصولي الجديد عليه أن يؤمن أيضا، بأن لا قداسة ولا معصومية لرجل دين يحترف السياسة.
المصدر : الشرق الأوسط
إضافة تعليق جديد