في «مشهد عابر» فض فواز حداد ختم «صندوق باندورا»
في روايته «مشهد عابر» الصادرة مؤخرا عن «دار رياض الريس»، يسجل فواز حداد اختراقا ملحوظا للخطوط الحمر المعتمدة في الرائج من النشاط الأدبي السوري. حتى ليمكن القول اننا إزاء عمل روائي طليعي في خروجه عن المألوف، لجهة عدم اعتنائه بالتورية والرمز في مقاربته للحدث السياسي المفتوح راهنا على تحولات مفصلية مطردة. تتمثل استثنائية الرواية في الالتقاط المبكر لجوهر تلك التحولات، وتثمير تداعياتها وفق رؤية لا تعوزها الجرأة، بما يشجع على الافتراض أن روايات مشابهة كثيرة ستخرج من رحم «مشهد عابر»، بعدما أقدم حداد على ما يمكن اعتباره فضًا لختم «صندوق باندورا» الذي ترزح فوقه عقود طويلة من الصمت، وتندرج ضمنه أعاجيب يصعب حصرها. فضاء المكان المنكشف غطاؤه هو الأكثر حضوراً، أما الشخصيات فتكاد لا تملك مساحاتها الخاصة، هي أقرب الى الذرائع المستمدة وجودها من الدوران في تلك المتاهة المعقدة، التي توازي عملية الحراك السياسي، دون أن تكونها حقا. «عودة الزمن المجنون» عبارة ترد في مقدم الرواية بوصفها عنواناً لمسرحية، يتلقى أحمد ربيع، وهو إحدى الشخصيات الرئيسية، دعوة مكتوبة لحضورها. لكن سرعان ما نتبين أن التسمية تتجاوز حدود البراءة التي يوحي بها انسيابها المحايد، لتكون ركنا أساسيا في إطلالة روائية بانورامية على مرحلة عاصفة من تاريخ سوريا الحديث، ثمة زمن قيل انه انتهى، مع نهاية حكم، إلا أن سير الحدث الروائي يشير الى تلاحم عضوي بين الزمنين. الانتظار لا بد لقارئ الرواية أن تلفته بداية غزارة انسياب أحداثها، وسهولة الانتقال المشهدي فيها على مستويي الزمان والمكان، كما لن يجد حرجاً في توصيفها كمجموعة من الأحداث الحقيقية التي تربط بينها خيوط فنية رفيعة ومفتعلة، ذلك أن الواقع هو من الغرابة بحيث لا تحتاج المخيلة الروائية معه الى أن تجهد ذاتها، لتنثر الدهشة على امتداد أربعمئة صفحة يتشكل منها العمل الإبداعي. هي إذاً مرحلة زاخرة بالحكايا، وكل ما يسعى الروائي الى إنجازه لا يتجاوز تأطير بعض الدلالات التي تستبطنها الجعبة المشهدية، ليحيلها نصا مفرطا في كثافته، وليقترح في الخلاصة على القارئ المعايش لتلك الأحداث الراسخة الحضور، أن يتعامل معها بوصفها مشهدا عابرا في حياته، مع أنها المكافئ الواقعي، وربما الوحيد، للمدى الزمني الذي حسب عليه حياة. يبدأ المشهد العابر من «دعوة الى المسرح»، لتستمر الرواية بعد ذلك على شكل فصول متعددة في مسرحية واحدة، لكل فصل ديكوره وبنيته السينوغرافية، ستائر ترفع وتسدل، لكن الممثلين يتحركون على خشبة واحدة، وفي فضاء واحد، ليقدموا تشكيلات متعددة لنص تمثيلي مترابط، وتبقى السمة الأشد رسوخا في الرؤية الإخراجية الموحدة الناظمة للعمل منذ بدايته الى حد إغلاق الستارة، وانصراف النظارة بملامح متعبة، وعيون ملأى بالتساؤلات القلقة. لعل أكثر الأسئلة حضوراً هو ذلك المتعلق بانعدام قدرة الوقائع على فرض نفسها، طالما تواطأ صانعوها وضحاياها على إنكارها. الجديد في «مشهد عابر» هو استنبات الحقائق المعروفة من مقابرها الجماعية، التي أهال قتلاها فوقها من التراب أضعاف ما فعل قاتلوهم. وإذا كان العمل الروائي محكوما بتقديم عبرة ما في خلاصته، فإن فواز حداد لا يتخطى في مشهده العابر دعوة المعري الخالدة، (كما رسالة الحزب الحاكم) الى تخفيف الوطء، لان ثمة أجسادا، وعقولا وأحلاما يتشكل منها التاريخ الموطوء. يدور جزء أساسي من العمل حول أحمد ربيع، وهو كاتب صحافي، يختزل كل ما يحيط بالمثقف العالمثالثي من وهن، ووهم، وتيه، وانعدام فعالية. يتلقى أحمد دعوة الى حضور مسرحية، بعد أن كان تخلى عن «تطفله» على المسرح هاربا من غضب «البلطجية» الذين يسمون أنفسهم نقاداً وممثلين. يذهب ليصادف بالقرب منه امرأة وحيدة، تبدو عليها ملامح الانتظار لأحد ما لن يأتي، يحار في تقدير عمرها. امرأة المسرح رزينة وبسيطة المظهر، محتشمة ورصينة. تتوجه الى أحمد بنصيحة مفادها ان «لا ترم الماضي وراء ظهرك، قبل أن تتصالح معه». وتذكره لاحقا: «ثمة من يشاركونك هذا الماضي، فلا تحاول التصرف فيه منفردا». حصل هذا في بداية الرواية، وعلى مشارف النهاية سيعود أحمد الى المسرح نفسه في «ختام الموسم»، ليجد السيدة المحيرة نفسها، على مقعد مجاور لمقعده، وكما في المرة السابقة سيكون مقعد الانتظار خاليا، ليس ما يمنع أن يكون الرجل المنتظر هو غودو نفسه، كما ليس ما يحول دون الافتراض أن المرأة هي إحدى تجليات الحكمة الإغريقية القديمة، التي كانت تسكن قاعات المسارح، لتبث هواجسها في نفوس زوارها. هي تحمل له نصيحة جديدة: «تعامل مع القصص الماضية كما لو أنها مشهد عابر». لكن كيف يكون له ذلك، وهي مشاهد مقيمة ومتواصلة كعروض الأفلام الداعرة في صالات الدرجة الدنيا التي تزخر بها أزقة دمشق؟ المكولبون بين العرض الاول و«ختام الموسم» ستمر فصول كثيرة، بينها «فتاة الشامبو» القادمة من لوحات الشارع الإعلانية، حيث ينم المظهر عن أناقة وعذوبة وبراءة، في حين يستبطن المضمون كثيراً من التفاصيل الشيطانية، اسمها «دنيا» والأمر أكثر من صدفة. بطلنا مصاب بلعنة المسرح، وأحداث حياته مطوقة بتراجيدية صارخة، حاول أن يكون مجرد متفرج، يكتفي بإبداء الآراء السلبية في ما تقترحه عليه الحياة من عروض، لكن الوقت لا يطول قبل أن تدفع به الأحداث الى الخشبة متعثرا بخيباته الكثيرة. كل الدروب تؤدي الى أقبية المخابرات، هذه واقعة يعرفها كل المعاصرين لتجربة النظام الأبدي: المدرسة التي تختزلها شبيبة الثورة، والجامعة التي يوازيها اتحاد الطلبة، والمنظمة الحزبية المتشعبة في كل الاتجاهات، وصولا الى المسرح والتلفزيون والمسجد وأروقة المحاكم، والصفحات الثقافية للصحف الموجهة، ناهيك عن الغرف الضيقة التي تشهد عقد الصفقات الضخمة، أرقام الفروع الأمنية هي التنويع الوحيد على كل ما سبق ذكره، وما سوف يأتي لاحقا. لا تحتاج الحكاية كي تصنع حبكتها الى ابتكار من خارج المألوف: تهمة زور تنسبها فتاة الإعلان الى الصحافي الذي عاشت معه قصة حب عابرة ذات يوم، كانت في بداية سعيها نحو النجومية، ولما أدركها نعيم السلطة، لم تتذكره إلا في سياق البحث عن متهم وهمي باغتصاب شقيقتها المتخلفة عقلياً، الفاعل معروف، هو أحد قدامى رجال الأمن ممن يكفي ذكر اسمه لإثارة الهلع في نفوس السامعين، وقد دارت به الدنيا كثيرا وجدا حتى انتهى به الامر حطاما آدميا تحت ثلاجة كهربائية، أميركية الصنع، داخل مستودع خصصه لتخزين الرشى العينية التي كان يحصلها من المخالفين، لم يمت جراء الحادثة، لكنه حظي بلوثة عقلية ارتدت به نحو الماضي، صار طفلا في أرذل العمر، تقاطعت رغباته مع مثيلاتها لدى شقيقة دنيا التي تماثله في الأزمة العقلية، كانا يظنان نفسيهما يلعبان عندما تبين أن الفتاة حامل، مما استدعى البحث عن والد وهمي للجنين، هنا استعادت فتاة الإعلان اسم أحمد ربيع من دفاترها العتيقة. نقع في سياق السرد الروائي على مونودرامات متعددة، تتناسل من بعضها لتشكل عملا مسرحيا متكاملا، القاضي البروشي مثلا، موظف في إحدى الدوائر النائية، تدفع به الى سلك القضاء وشاية على بعض أهل قريته، حكايته ستتيح لنا الاطلاع على صراعات مراكز القوى، حيث يرفض الجهاز الحزبي إسناد المنصب القضائي الرفيع الى رجل يفتقر للتجربة الحزبية، لكن المخابرات تصر على مكافأة الشخص الذي تحمل غضب أبناء قريته ليقوم بواجبه نحو الوطن. هنا يظهر البروفسور، أو «المثقف الأمني» كما يدعوه أحد الحزبيين متهكماً، حامل الشهادات العليا هذا هو متعاقد مع المخابرات، التي «قررت أن تفكر أخيراً»، هكذا يسحب الامنيون بساط المعرفة من تحت أقدام جماعة الحزب، ويقررون نسف المعادلة التقليدية: الأمن له قوة العضلات وللحزب عقله. وسنستمع الى البروفيسور يتهم المسؤول الحزبي بأن تنظيمه يملك بعض الفضائح الفكرية ليس إلا. بعد تجربة مهنية مرعبة خاضها البروشي، منحته صفة قاضي القضايا المميتة، سنختلس النظر الى بعض أوراقه الحميمة، لنعثر فيها على خواطر وجدانية موغلة في رومانسيتها، ولندرك كذلك أن الرجل لم يكن طامحاً الى الثروة، كما أنه لم يسع الى استغلال منصبه في إرضاء نزواته العاطفية، هو ببساطة يعاني عقدة «الكولبة» أي المحرس الحديدي الذي منحته السلطة الى الخاصة من أبنائها، وهو سيبدي في اللحظات الصعبة استعداده للتخلي عن كل شيء، مقابل هذا الامتياز الملغز. ما الذي يعنيه ذلك؟ قد يعني ببساطة ان بإمكان بعض الأنظمة السياسية استيلاد أنواعا خاصة من الأمراض النفسية الجماعية، ثم تورثها لأبنائها، الناس «المكولبون» هم نتاج منطقي لبلاد كانت خليلة التاريخ يوما، ثم آل بها الامر لأن تصبح «كولبة» كبيرة ليس إلا. ثمة مشهد آخر يجدر التوقف عنده، هو مشهد جميل عجنوني: مصور صحافي نافس المخابرات في استراق السمع الى الأسرار المخملية، لكنه تفوق عليها في متعة إعلانها على الملأ. كان لا بد أن يصنف خطرا على الأمن المنحاز الى الصمت، أما التهمة فيمكن اختراعها: الانتماء الى تنظيم «الإخوان المسلمين»، كان إعداد الملف قد بلغ مرحلة متقدمة، عندما تنبه المعنيون الى كون الرجل مسيحياً، لكن الاكتشاف لم يردعهم، ما المانع من اختراع قصة حب لفتاة مسلمة جعلت صاحبنا يشهر إسلامه، ويساعد حبيبته المزعومة على تسهيل فرار شقيقها «الاخونجي» خارج القطر؟! ثمة أمر لافت هنا، وهو أن تصير العلاقات العاطفية معبرا شبه إلزامي الى المطهر الأمني. جميل تربى على أيدي خمس عجائز هن ثلاث خالات وعمتان، بعد وفاة والده وزواج أمه. ولما اتخذ المسؤول الأمني قراره بإدخاله المعتقل، غاب عن ذهنه ما الذي تستطيعه خمس عوانس، دفاعا عن ذكر وحيد. اغتنمن فرصة زيارة الحبر الأعظم الى سوريا، وهي حصلت فعلا، لتهديد الضابط برفع ظلامتهن إليه، لم يعد أمام المسؤول عن أمن الضيف التاريخي، سوى حفظه من أي تماس عابر مع أي امرأة عجوز، تدس في يده ورقة ما، فينكشف السر. حماية البابا صارت تعني حماية الذات منه. حضر الثالوث التاريخي المحرم في «مشهد عابر»: الدين والسياسة والجنس، إلا أن الحاضر الأكبر هو الكلام المباح بعد عقود من الصمت، فصار بديهيا أن يكون موئلا لحفاوة بالغة، وأن تكون الرواية مترعة بالدهشة والغرابة، بالرغم من عادية شخوصها، وواقعية أحداثها، لعل الأصح أن يقال.. بسبب ذلك.
علي العزير
المصدر: السفير الثقافي
إضافة تعليق جديد