العرب في الزمن الدائري
نبيل صالح:
لم يكن للعرب سَنة يؤرخون بها للوقائع والأشخاص والأحداث، وبحسب رواية ابن سيرين "أن رجلاً قال لعمر: أرِّخوا، فقال عمر: ما أرٍّخوا! فقال: شيء تفعله الأعاجم في شهر كذا من سنة كذا، فقال عمر: حسنٌ فأرخوا. وروى سعيد بن المسيب أن عمراً جمع الناس فقال: من أي يوم نكتب التاريخ؟ فقال عليّ: من مهاجرة رسول الله وفراقه أرض الشرك، ففعله عمر". وهكذا تم إطلاق التأريخ الهجري القمري مقابل تأريخ الروم الميلادي الشمسي ، وانتقل العرب من الزمن الموضوعي إلى الزمن الذاتي ليثبتوا وجودهم الحضاري تحت شمس الرب.
فالزمان التأريخي لم يكن موجوداً عند العرب، ولايمكنك أن تعرف تاريخ القصيدة أو الرواية أو الحدث عندهم قبل الهجرة، بحيث أنهم أرخوا لولادة رسول الأمة بعام الفيل نسبة إلى أول فيل شوهد في مكة وهو فيل القائد أبرهة الحبشي، وجمعوا آيات الكتاب دونما ترتيب لزمن نزولها، لعدم إدراكهم بأهمية تلازم الحدث مع زمن وقوعه، كما لم تشر آيات الكتاب إلى وجوب التأريخ. وحتى في قواعد النحو لم يكونوا قد ميزوا أزمنة الفعل، إلى أن وضع الإمام علي أسس النحو لأبي الأسود الدؤلي، فميز بين الاسم والفعل والحرف، ثم طوره سيبويه فميز الفعل بأنه حدث مقترن بزمن، ثم ميز الفعل الماضي عن المضارع، بينما ربط المستقبل بفعل الأمر والمضارع، غير أنَّ النحــاة الأوائل لم يفرقوا بين الزمن النحوي والزمن الفلسفي، كما لم يخصصــوا بابــاً مســتقلاً يعــرض إمكانيــات اللغــة العربيــة في التعبـيـر عــن الزمــن، وإنما توزعــت ملاحظاتهــم عـلـى أبــواب الفعــل والمشتقات وأدوات النفــي والنواســخ والظــروف.
ليس الزمان منفصلا ولامستقلا عن المكان ولكنه يمتزج معه ليشكلا شيئا اسمه الزمكان ـ حسب نسبية إينشتاين ـ ويمكننا مواكبة أطوار العقل العربي من خلال تطور مفهوم الزمن عندهم في بوادي جزيرتهم وموطن فصاحتهم حيث كانت شبه معزولة عن تأثير امبراطوريات العالم القديم وثقافاتها، ينضجون في الشمس التي تشكل حركتها وظلالها بحرَ نهارهم وأعمالهم، فقسموا اليوم بحسب درجات ظهورها: الفجر والضحى والظهر والعصر فالمغرب، ثم رُتبت مواعيد الصلاة عليها. وأما الساعة فكانوا يقدرونها بحسب درجات ميل الظل واستطالته في النهار، كما يفعل الرعاة لمعرفة أوقات تسريح القطيع وعودته، وكانت لفظة الساعة تعني الحاضر والقيامة، وكانوا يقدرون الشهر بحسب تقديرهم لمنازل القمر، لذلك كان موقع الأشهر في الفصول متغيراً حيث دورة القمر 27 يوماً ثم يختفي في المحاق ثلاثة أيام، وأقصى ما كانوا يدركونه من الزمن القمري هو العام والسنة، حيث يكون العام من أول شهر المحرم إلى آخر ذي الحجة، والسنة من كل يوم إلى مثله من القابلة.. وأما الدهر فهو الزمان الممتد ، ويقال أزمن الشيء أي طال عليه الزمن وأزمن بالمكان أقام به زماناً، فالزمن في لغة العرب اسم لقليل الوقت وكثيره دون تعيين. وعرّف الطبري (القرن الثالث للهجرة) الزمن بأنه ساعات الليل والنهار، وميز ابن الهيثم (القرن الثالث للهجرة) بين الزمان والدهر حيث قال أن الزمان يكون بين شهرين إلى ستة، أما الدهر فممتد لاينقطع، ويرى الجرجاني (القرن الخامس للهجرة) أن الزمن هو "مقدار حركة الفلك عند الحكماء" وكذا عرفه بدر الدين الزركشي ( القرن الثامن للهجرة) إذ يقول: "إن الزمان الحقيقي هو مرور الليل والنهار، أو مقدار حركة الفلك"، وهذا يدل أن العرب لم يعرفوا التاريخ المعتمد في العالم من حولهم، منذ أيام البابليين (القرن الثامن عشر قبل الميلاد) ثم المصريين فالصينيين وصولاً إلى عهد عمر (منتصف القرن السابع للميلاد)، وبالتالي يمكننا أن نتخيل عمق العزلة التي شكلت حياتهم وطبيعتهم وانعكست سلبياتها وإيجابياتها على لغتهم وتفكيرهم.
غير أن زمن اليهود القمري أيضاً كان أكثر بدائية، فكان عامهم يعادل عشرة أعوام بحيث افترضوا أن الحفيد السابع لآدم، متوشالح بن أخنوخ، قد عاش تسعمائة وتسعاً وستين سنة، كما ذكر في سفر التكوين، حيث يبدو أن العام الواحد عندهم كان يعادل عشرة أمثاله فصارت ال 96 = 969 إذ لايمكن علمياً أن يعيش كائن لمثل هذا العمر!؟ وفي التوراة أن الرب خلق الأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع، حيث قُدِّر اليوم بألف سنة! ويبدأ التقويم اليهودي منذ اليوم الذي خلق الله فيه الأرض قبل 5785 سنة، وهو زمان أسطوري تأخروا في تدوينه والعمل به حتى أواخر القرن الأول الميلادي، حسب الموسوعة البريطانية، وكانت غرر الأشهر اليهودية قبل القرن الرابع للميلاد بحسب رؤية الهلال، وكانوا يحددون عدد أشهر السنة حسب حالة الطقس في نهاية الشتاء، ويكون عدد أيام السنة العادية ما بين 353 و355 يوماً، على أن يكون عدد السنة الكبيسة ما بين 383 و385 يوماً! فهم أيضا كانوا عائمين في الزمن، واستمروا بكتابة التوراة خمسة قرون بعد وفاة موسى دون تأريخ أسفارهم وأيامهم، وعاشوا داخل دائرتهم المغلقة يعيدون إنتاج أيامهم وأفكارهم بسلفية تسبق السلفية الإسلامية التي أخذت عنهم الكثير كما يبدو من حجم الإسرائيليات الواردة في سردياتهم التاريخية، وهذا يشرح عدم قدرة صهاينة اليوم، من اليهود والمسيحيين، الخروج من دائرة ذاكرتهم الإسطورية، فاستمر صراعهم مع السلفية الإسلامية الموازية في دائرة مركزها فلسطين خلال قرن مضى دون أن يغلب أحدهما الآخر، حيث انجرَّ عموم العرب بدورهم نحو المنزلق اليهودي وحولوها إلى حرب دينية بدلاً من كونها حرباً عادلة ضد الاحتلال الصهيوني، ومازالت علمانية حكومات الطرفين تبدو كقشرة سياسية تغلف ذاكرتهم السلفية، وقد ينتهي الأمر إلى قيام دولتين لا سلام بينهما في ذاكرة الزمن المستعاد..
لم ينمُ العقل الرياضي والفلسفي في البلدان الواقعة على خط الاستواء ومداراته بسبب شدة الحرارة، وكذا العقل العربي داخل جزيرته لم يكن تجريدياً أو منتجاً للأفكار قبل أن يعرفوا علم اللاهوت الذي بدأت تباشيره مع الحنفاء خلال بحثهم عن الله كفكرة غير مكتملة في ذهنهم لذلك كانوا يخصصون وقتا للعزلة والتأمل في معناه، حيث كانت عزلة القرشيين منهم في غار حراء (كما كان يفعل النبي وعمه وجده من قبله) للتأمل والتفكير في ماهية العالم والله وكينونته (الحنيف لغة: المائل عن الشَّرّ إلى الخير، أو عن الباطِل إلى الحقّ ، ووردت اللفظة فى القرآن الكريم اثنتا عشرة مرة)، فكان ذلك مقدمة لمجيء الإسلام وفتح باب المثاقفة في اللاهوت مع اليهود والنصارى، حيث بدأ العقل العربي بالانتقال من اللفظ إلى المفهوم، ومن المجاز الشعري إلى التجريد الفلسفي، وأغنى كل ذلك اطلاعهم فيما بعد على الترجمات السورية للفلسفة اليونانية والتأريخ البيزنطي لدى كنائس السريان، فأضافوا التقويم الشمسي إلى جانب تقويمهم القمري، وبات لهم زمنهم الذي ينافسون به زمن الروم فيغلبونهم وينغلبون لهم، حيث تقابل زمن المسلمين الدائري مع مفهوم زمن الروم (الخطي) والذي يبدأ بخلق آدم وينتهي بعودة المسيا عند اليهود والمسيح عند المسيحيين والمهدي عند المسلمين، حيث يعود هؤلاء الأنبياء ليقودوا المؤمنين الأخيار ضد الكافرين الأشرار وكأن طبيعة الصراع لن تتغير!؟ فقد كانت فكرة الزمن متشابهة لدى أتباع الأديان السماوية، ولم يتفوق المسيحيون فيها على المسلمين إلى أن فصلوا عن خط الدين ووصلوا مع الفلسفة الإغريقية والبيزنطية، فبنوا على زمن هيراقليطس المتجدد كمياه النهر، وبات الدين شأناً فردياً لايسمح باستغلاله سياسياً، بينما استمر المسلمون واليهود يدورون داخل زمنهم ليصلوا النهاية بالبداية، وهي بدايات كالنهايات تحكمها رمزية أسطورية منفلتة من التأريخ الفلكي، بحيث أنهم قدروا جميع الزمان من ابتدائه إلى انتهائه ومن أوله إلى آخره بستة آلاف عام، وقد أخذ المسلمون عن الرواة اليهود كل ذلك ، وهم جميعا مازالوا يكررون أنفسهم في سلفيات قبلية ودينية ومذهبية وحزبية ضمن دائرة تشبه رمز الحيّة التي تبتلع ذيلها. يقول ابن عربي في ديوانه: أتاك الشتاء عُقَيب الخريفْ/ وجاء الربيع يليه المصيفْ/ ودار الزّمان بأبنائه/ فمن دوره كان دورَ الرغيفْ.. فهو يرى أن زمان الناس يكرر نفسه مرّة بعد مرّة بشكلٍ دائريٍّ بينما يدور المؤمن في فلك الله كالدرويش في رقصته: يتحرك في الزمان دون أن يغادر المكان، وهذا قد يشرح استمرار تأثير ثقافة النقل والمراوحة عند مجتمعاتنا، على الرغم من جهود النخب السياسية والثقافية في العمل على قطع هذه الدائرة وتجليسها في خط مستقيم يتقدم نحو الأمام، منذ بداية تبنيهم للأفكار العلمانية بداية القرن الماضي، ولم يستكملوا بعد إخراج دراويش مجتمعاتهم من دائرتهم بعد .. ذلك أن أحزاب القوميين العرب في بحثهم عن مفاخر الماضي وقعوا في مدار الإسلاميين دون أن يدروا، ويمكننا التمثيل لذلك بشعار "الرسالة الخالدة" عند البعثيين حيث يؤكد استمرارية الماضي في الحاضر رافضا القطع مع الثقافة السلفية بحجة التأصيل (كما عند الأرسوزي وتيزيني والجابري).. والواقع أن شعار الرسالة الخالدة كان متصلا بالرسائل القديمة التي كان يرسلها الله للمؤمنين عبر رسله وكتبه بشكل متكرر ومتشابه دونما تغيير يذكر على امتداد ثلاثة آلاف عام، حتى غدا الرسول هو الرسالة التي أعاد الحاخامات والكهنة والفقهاء صياغتها واستخدامها، فاستمر زمن السرد يحكمنا كما لو أننا نعيش في زمن موسى وعيسى ومحمد (ص)، ولم يخرج العلمانيون (العرب واليهود) في دعاواهم عن المسار السلفي رغم خلافهم مع الجماعات الدينية، ذلك أن الصراع كان على السلطة وليس من أجل إغناء فكرة الحق والعدالة والحداثة التي كانت مقصد الرسالات في زمنها، قبل أن تتحول إلى مسبب للعداوات في أزمنة تالية. لهذا نرى حكومة نتنياهو الدينية كحكومة أمير طالبان هبة الله آخوند زاده، سلفية عائمة خارج الزمن الإنساني، ولاتستطيع أن تمنح السلام لشعبها أوللعالم، فهي تمثل أشخاصاً يناقضون فيزيائية الزمن الأرضي وينتظرون عودة نبيهم ، ليس كداعية للمحبة والسلام وإنما كمحارب وقائد لجيوشهم ضد أعدائهم الآيديولوجيين (الكفار)، وهذا إلغاء لكل ما أنتجه العقل الفلسفي خلال القرون الأخيرة وأوصل قدرة البشر إلى ما كان ينسب للآلهة من أعمال عظيمة!؟
يقول قانون تلازم السبب والنتيجة أنه لايمكن إعادة زمن ما دونما إعادة أسبابه، لهذا فإن يوتوبيا الإسلاميين بالعودة إلى إنتاج الإسلام المحمدي الأول، والأصوليين اليهود إلى زمن الهيكل وسليمان وبني إسرائيل مستحيلة منطقياً، ذلك أن صورة الزمن متغيرة في ذاكرة كل جيل جديد، مثل إصدارات ويندوز وأجيال البرمجيات، حيث الله هو الزمن (الأول والآخر والظاهر والباطن)، وهو المبرمج الأعظم لهذا الكون، كل شيء فيه يسري بمقدار، والفيزياء الرياضية في نهاية المطاف هي ما يشكل الحقائق المنطقية للزمن ، لهذا يجب أن نفرق بين الإيمان السائل والمتدفق في الزمن وبين التدين الجامد في الزمن كالصنم، حيث تبدو الأديان كبرامج قديمة لم تعد مناسبة لتنظيم الحاضر الزمني المتسارع بدليل الأخطاء المريعة التي ارتكبها الأصوليون الممانعون لتدفق الزمان والإيمان وتجددهما في عقول الناس، وكأنهم أهل الكهف الذين ذكر القرآن الكريم أمثولتهم وأظهر أنه من الأفضل أن يعودوا نائمين بعد الفوات التاريخي الذي أصابهم، إذ لم تعد نقودهم وأفكارهم صالحة لعدم تدفقهم في الزمان.. فكل إيمان لا يتدفق في الزمن لا يعول عليه. جاء في التنزيل العزيز: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) الرحمن/29 ..
مركز مجتمع للدراسات
التعليقات
يسعدني تلقي ما تنشرينه. كل…
يسعدني تلقي ما تنشرينه.
كل التقدير
إضافة تعليق جديد