الحياة مشياً على الأقدام

01-08-2023

الحياة مشياً على الأقدام

"لقد صارت البشرية قعودةً في مكانها، وتعاني اليباس مللاً. فلزوم الناس لمكانهم أمام شاشات هواتفهم وحواسيبهم أو أمام مقود سياراتهم أو في مكاتبهم أضحى من الهموم الصحية الكبرى. كان الناس في فرنسا الخمسينيات يتمشون بمعدل سبعة كيلومترات يوميا. أما اليوم فهم بالكاد يجاوزون الثلاث مائة متر. والعديد من معاصرينا يحملون وزر جسدٍ لا يستعملونه أبداً إلا للقيام ببعض المهام في شققهم. فبعدما كان الجسد يحملنا وينقلنا من مكان لآخر، صار المرء يحمل جسده وينقله معه."
"المشاؤون يبطئون إيقاع العالم كي يجعلوه في متناول الجسد، وهم يتسللون إلى بعدٍ للزمن لا يحدث فيه شيء، ويكون فيه مباحاً التوقف للتمتع بمنظر طبيعي أو لأخذ قسطٍ من الراحة."
"المشي في مجتمعاتنا المادية انغماسٌ في الذات وانسلاخٌ عن الهموم اليومية إذ هو يصالح بين الحياة التأملية والحركة الجسمانية وبين الفكر والجهد البدني. يستدعي المشي الولع بما هو غير نافع أو مجدٍ. إن لحظة مشي لا تنفع في أي شيء سوى في إدخال الدهشة للحظة الحاضرة. وهي لحظة لا مردودية لها بالمعنى المالي أو المهني، غير أنها ذات خصوبة كبرى في اكتشاف الذات كما في حرارة اللحظات المعيشة. فهي تحيل إلى الكرم الخالص لعيش المرء من غير أي مبرر آخر. غالباً ما تكون أفعالنا اليومية مجردة من أي قيمة كانت غير قيمة جدواها ونفعها. إنها لا تصادف أي شيء خارجها يؤدي إلى النظر إليها تحت أضواء أخرى."
"المشي تجربةٌ للزمن مقدار ماهو تجربة للمكان. إنه احتفاء بالتؤدة وعشقٌ للامبالاة. يكمن ثراء المشّاء في تصريفه الحر للمدة الزمنية، فهو يملك الساعات بوفرة، ولا حاجة له للساعة لحسابها، وهو يمشي في طريقه بإيقاعه الخاص. إنه يوجد في فساحة الفضاء، لكنه يوجد بالأخص في شسوع الزمن."
"حين بدأ ستيفنسن رحلته إلى موناستيي اندهش أناس القرية حين رأوه يتمشى في أحوازها. "السائح من فصيلتي كان حينها شيئاً جديداً كل الجدّة في تلك المنطقة. لقد كانوا ينظرون إليّ بنوعٍ من الرأفة الممزوجة بالمقت، كما لو كنت شخصاً قرر الرحلة إلى القمر".
"سمع راهبٌ شدو عصفور، فتبعه غير عابئ بالوقت الذي يمر. وحين عاد إلى ديره كان الدير قد صار أطلالاً مهجورة من وقت طويل. فلقد اقتفى الرجل أثر العصفور مشياً لمدة قرون من غير أن يدرك ذلك. المشي يلتهم الوقت، فهو يكون معاكساً للإيقاعات الاجتماعية، لأنه بالأخص ينغمس في مدة باطنة لا تحركها إلا الرغبة وحدها."


الحياة مشياً على الأقدام - دافيد لوبروتون
ترجمة فريد الزاهي عن المركز الثقافي للكتاب.
 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...