مراجعة لكتاب رحلة إلى جبال العلويين للرحالة ليون كاهن

20-07-2023

مراجعة لكتاب رحلة إلى جبال العلويين للرحالة ليون كاهن

غياث يونس: 


                      " أن تكون في الحرب، أن تكون في الصيد
                         أن ترتدي ثياب رجل، أن ترتدي ثياب امرأة
                         فستظل أنت نفسك بالنسبة لي "
                        

الصفحة 72 من كتاب "رحلة الى جبال العلويين 1878" تأليف الفرنسي ليون كاهون، ترجمة مها الأحمد و تقديم الدكتور سهيل زكّار من نشر "دار التكوين للنشر و التأليف و الترجمة " - دمشق-2004.

لعل هذه النجوى التى تضج بالجمال و الرقة  و الايحاء تعطينا انطباعاً أنها بوح معاصر و لكنها ليست إلا انشودة حب خلابة في العام 1878 تغنيها زوجة أحد الزعماء المحليين و اسمه "محمد"  لزوجها أثناء حفلة مسائية أقامها الوجهاء المحليون على شرف الرحالة أو المستكشف أو "الضابط" الفرنسي ليون كاهون لتلك الجبال المسكونة بشعب يمتاز "بانثربولوجيا شيقة جداً" و يتسم "بالحذر و الجفول و الغموض" مع "الثبات و الحميّة" ص16، و التى تمثل تجربة استكشافها و مخالطة أهاليها في ذلك الوقت "مغامرة مجهولة و غير أمنة الجانب" ص17، كما يروّج السكان المحليون لمدينة اللاذقية في تلك الفترة -اي 1878- على الأقل كألطف تعبير ممكن بحق مجموعة بشرية تقطن جغرافيا جبلية قاسية أهملتها السلطات منذ القدم حيث يقول المؤلف "بانتهاء العهد الروماني سادت عهود من الفوضى استمرت حتى اليوم، و لا أبالغ أبداً اذا قلت بأنه لم يكن هناك في الشرق على الاطلاق شئ يمكنه تسميته بالحكومة أو الادارة" ص97.

كان ليون كاهون  يهتم على الأرجح باستكشاف تلك المنطقة جغرافياً -كضابط- و بشرياً كباحث و لم يتطرق أبداً لمواضيع دينية أو سياسية و من المثير للانتباه محاولاته الحثيثة لارجاع سكان جبال العلويين لقبائل هندو-اوروبية و قيامه على الدوام بقياسات "مضحكة" لأطوال القامات و أبعاد الجماجم و وصف البشرة ولون العيون و الشعر كأسلوب-كان ذائع الصيت آنذاك لعدم اكتشاف الجينات و تواضع البحث العلمي الانثربولوجي- كأسلوب لربط التواجد الديموغرافي في جبال العلويين مع أعراق بعيدة كل البعد عن السواحل الشرقية للبحر المتوسط لشعب يعتبر نفسه دموياً - و ليس فقط دينياً- خلفاً لسلف عربي أصيل!.

و يمكن اعتبار ابحاث المؤلف مقياس معياري لأسلوب استعماري معروف في البحث عن قدم للتسلل الى الشرق كحماية الاقليات أو الاثنيات أو التجسس الاستطلاعي بصورة مدنية و تحت عناوين حضارية كبعثات التنقيب عن الاثار أو دراسات اجتماعية و بيئية ... الخ  و لكيفية تقييم الادارات الاستعمارية انذاك لأوضاع المستعمرات الواعدة كسوريا و لبنان و لاسيما مع قرب الاستئثار على تركة الرجل المريض أي السلطنة العثمانية و أيضاً برهاناً واضحاً على تفسخ الادارة التركية لاقاليمها القريبة و تفشي الفساد في جهاز الدرك و انهيارالروح المعنوية لمنظومات تلك الدولة قبل ما يزيد عن الخمسين عاماً من انهيارها الكامل.

يؤخذ على الباحث سطحيته في البحث الاجتماعي و الاقتصادي لتلك المنطقة و اجتهاده في التقاط اشارات واضحة من بعض المحليين النافذين للتململ من الحكم التركي و الرغبة بالانقياد للدولة الفرنسية أو لنقل الاقتياد بدولة عصرية و اقتصاره على التطرق لأحوال الطبقة الاقطاعية من سكان الجبل في حواضر ريفية تمتاز بالرخاء المطلق مقارنة بأحوال الفلاحين أو سكان المناطق الجردية في سفوح الجبال لمجتمع يعاني من فقر مدقع و سيطرة طبقة رجال الدين و الاقطاعي المتداخلة فيما بينها و اهمال مقصود و تقصير تاريخي و اتهامات معلبة بالهرطقة و عدم الولاء و الفساد الاخلاقي.

المؤلف الضابط في الجيش الفرنسي و يبدو أنه في مهمة رسمية مع انه لم يذكر تفاصيلها ، كان رجل صامت أمام مضيفيه و لم يقدم لهم وعود أو التزامات و لم يجهد ليقدم نفسه كرجل خارق أو يصوّر السكان المحليين كحالة عجائبية أو خارقة في الغرابة و التصرفات كعادة بعض الرحالة الغربيين .

في تقديمه، يبدو الدكتور سهيل زكّار مؤرخ رصين لا ينقاد وراء اشارات شعوبية تسكن هاجس و عقل المؤلف و يسرد قصة الوجود التاريخي للعرب النصيريين أو العلويين في جبال الساحل السوري.

يشير بعجالة الى أن "الحرانيين هم أسلاف النصيريين" ص8 -اعتقاد تاريخي غير دقيق على الاقل من الناحية الجينية ومرده هو اختفاء مفاجئ لصابئة حران في القرن العاشر الميلادي و لوجود علماء دين علويين من أشهرهم زيد بن شعبة الحراني وأبو القاسم بن شعبة الحراني- و يعتبر أن الامير المكزون السنجاري قد أقطعهم حلب و الى الغرب مما كان يُعرف بجبال بهراء (التسيمة القديمة جبال العلويين) و ان انتشارهم قد شمل كل السواحل الشرقية للمتوسط بما فيها لبنان حتى شمال فلسطين بعد معارك و صدامات اثنية مع التركمان و مذهبية مع العرب الدروز الذين كانوا يقطنون مناطق غرب حلب (انحصر الان ببعض القرى الدرزية في جبل السماق -ادلب) و أيضاً مع العرب الاسماعيليين في تنافس مزمن و دموي أحياناً للسيطرة على القلاع و المناطق الحضرية في الساحل السوري.

خسر العلويون وجودهم التاريخي في لبنان بعد معارك متعددة مع المماليك و كان اخرها بعد فتوى تكفيريية لابن تيمية - الدمشقي الحراني! -سمحت للمملوك الملقب بالناصر محمد بن قلاوون حاكم القاهرة حوالي 1285 م بشن معركة "داعشية" لاستئصال الوجود العلوي في جبال لبنان و يحل محله "الدروز و الموارنة"، ص10، ليكتب فيما بعد ما يسمى بتاريخ جبل لبنان بتنافس جديد بين هذين المكونين و لانحسار التواجد العلوي الى عدة قرى في سهول عكار و الضنية و بعض قرى الجولان و حوران.

ليدخل العلويين في حالة حصار و انكماش و تضييق قارب الابادة والتهجير في فترة الحكم العثماني حتى مطالع القرن العشرين.

يمكن و بايجاز من خلال مطالعة هذا الكتاب و مجموعة مصادر أخرى ملاحظة ما يلي :

1 - لا توجد دعوى للطريقة النصيرية أو لنقل العلوية ، هي ليست مقصورة على التوارث الدموي و لكن لا يجهد العلويون لنشر دعوتهم عن طريق التبشير.

2 - هي دعوى صوفية و طريقة خلاص فردي مسالمة لا تمتهن العنف و لا الاقصاء تعتمد على كنه عرفاني "غنوصي" و تمثل استمرار فريد و وحيد لثقافة الشرق الاولى منذ ما قبل الاديان التوحيدية و مع وصمها و شقيقاتها كالدرزية والاسماعيلية.. الخ بالهرطقة أو الزندقة و اضطهادها من قبل المؤسسة الكهنوتية الرسمية كاهل السنة أو الشيعة إلا ان استيطانها لبؤر جغرافية عصية التضاريس و استعانتها بالغموض و التكيف و الصمود و انشغال الامبراطوريات بحروبها المختلفة قد أتاح لها فرصة للبقاء و للبشرية فرصة مقابلة للاطلاع على مكزون فلسفي و أدبي قيّم لمن أحب الاطلاع بعين الباحث.

3 - لا توجد تاريخياً و بشكل  رسمي دولة علوية محضة، قامت على التبشير او الاستئثار بمقاليد السلطة و التوسع العسكري و الاقتصادي و الامر ليس مرده عدم توافر أسباب ذلك و مقتضياته بل لقد ثبُت تواجد علوي سلطوي كامن في عدة دويلات كالحمدانية و البويهية والفاطمية و لكن لطبيعة العقيدة العرفانية و كونها طريقة خلاص فردي لا جمعي لا تعطي بالاً لاهداف سياسية واقتصادية و لامتيازها بالتقية و الغموض و الانكفاء و عدم الخوض في الهم العام فإننا نلاحظ انتقال بشري و ديموغرافي مؤثر و قوي على شكل هجرة و تكاثر للعلويين من شرق العراق و شماله الى غرب بلاد الشام مع انتقال القوة المركزية الى بغداد مع قيام الدولة العباسية.

4 - ظاهرة الترحيب بالتواجد الفرنسي في قبل انهيار الدولة العثمانية لا تقتصر على العلويين بل شملت جميع اهالي بلاد الشام من عرب و شركس و اثنيات و اقليات مختلفة وهو يمثل وعي قومي و رغبة بحكم مدني تحرري أكثر منه مناطقي أو ديني مذهبي و يعود ذلك الى  خسارة الدولة العثمانية لمعركة الحداثة وفساد و انهيار منظوماتها.
5 - مع ترحيب حذر بالاحتلال الفرنسي من قبل بعض الوجاهات الاقطاعية في الساحل السوري حال نفس الطبقة البورجوازية في المدن السورية كافة و الاقطاعية الريفية السورية ككل فإن العلويين ثاروا و حاربو الفرنسيين بتحالف مع اخوانهم في سوريا و كانت الاغلبية الساحقة في صف توحيد سوريا لينبثق من جديد و بشكل عفوي من تلك المنطقة غالب الافكار و المعتقدات القومية لسوريا واحدة مميزة أو لوطن عربي كبير انتمى الي تنظيماتها كالقومي السوري و البعث معظم الشباب العلوي اضافة لانتمائهم الى احزاب يسارية.

6 - لا تعتبر تجربة انضمام بعض الشباب العلوي من اهل الأرياف الفقيرة لقوات المشرق - و هي قوات رديفة للجيش الفرنسي- حدث استثنائي في سوريا أثناء الاحتلال يستوجب الادانة او الوصم بالعمالة، لأن معظم ضباط المدن السورية من شرائح المجتمع السوري كافة بكل طوائفها و اثنياتها كانت من القوام الاداري و التسليحي لتلك القوات و عموماً استعاض السوريون السنة  عوضاً عن ذلك بالانتماء لقوات الدرك الفرنسي و الجهاز الحكومي الاداري كأسلوب استرزاق فقط و لكسب المعيشة و لعدم رغبتهم بالابتعاد عن مدنهم .

7 - يمتاز هذا المكون العلوي لسوريا بالهجرة الداخلية ضمن كافة المناطق السورية و ندرة الهجرة الخارجية و ما زالت تحافظ على وجود بشري قوي ضمن اماكن تواجدها التاريخية في الجبال و انتقال سريع و و جود غالب لحواضر المدن الساحلية كافة في سوريا -ظاهرة هجرة الريف الى المدينة وظاهرة ثقة اكبر بمنظومات الدولة الحديثة -  الذي كان مقصوراً عنهم تاريخياً.

8 - انتشار تعليم قوي و تحرير شامل للمرأة و انخفاض في نسبة المواليد و حضور ادبي و ثقافي قوي في سوريا اليوم لا يوازيه نهضة اقتصادية او عمرانية او تمركز لرؤوس الاموال.

9 - فيما سبق،القوى الاستعمارية كانت تعتمد الاثنيات والاقليات الدينية كمنفذ ثقافي للسيطرة على الشرق، حالياً و مع تعويم مصطلحات رخوة كحقوق الانسان او تحرر المرأة فإن قوى الاستعمار الحديث تنظر للشرق من عين الاستثمارات النفطية و سوق السلاح و لا تقيم وزن البتة لعشاقها القدامى.

10 - هناك اختلاف عميق حول دور العلويين الحالي في سوريا، حتى معظمهم لا يعرف تماماً حقيقة هذا الدور، أهو حمائي ذاتي أم رد فعل آني أم صدامي اقصائي أم وحدوي و مدني و مع ترجيحي للتفسير الأخير باعتبار ان السوريين ككل و منهم و بشكل رئيسي العلويين قد دفع دماءً غالية و ما زال يدفع للحفاظ على وحدة سوريا و مدنيتها و لاسيما في اتون هذه الحرب على سوريا ككل و دورها في الشرق و إن شبهها بعضهم بحروب السلطان سليم و محمد ابن قلاوون من تلامذة ابن تيمية ضد هذه الطائفة.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...