الفلسفة التحليلية والفكر الإسلامي.. عالم ما بعد الشمولية
عند استعراض طرق تفكير البشرية، رأينا أنها لم تتغير على مدار آلاف السنين منذ فجر التاريخ، ومجمل هذه الطُرق عبر وسيلتين؛ هما (اللغة والمكان)؛ فباللغة يحصر أديانه وثقافته في مصطلحاتها ومفاهيمها وألفاظها، وتشكل عباراتها قوام ما يراه في هذا الكون، والعبارة اللغوية ليست مجرد ألفاظ وتراكيب؛ بل صور ذهنية ومناظير للحياة المادية متكاملة ومترابطة ومقنعة للشخص نفسه، أما بالمكان فيحصر معلوماته في حدود ما يعيش فيه من موقع جغرافي، فيتأثر بطبيعته المادية؛ فإذا كان صحراويًا قاسيًا اكتسبت أساليبه وسلوكياته شيئًا من القسوة بمقدار ما يعانيه ويهدد وجوده، وإذا كان زراعيًا سهلاً اكتسبت أساليبه شيئًا من المرونة بمقدار ما يشعره بالراحة والاطمئنان على بقائه.
لذا فالتاريخ شهد أن الحضارات قامت على ضفاف الأنهار والمجتمعات الزراعية القديمة بالأساس لتوافر عامل المرونة الذي يسمح بالتواصل بين أفراد المجموعة والتفاهم على طريقة موحدة للعيش والبناء.
لكن سواء كان هذا المجتمع صحراويًا أم زراعيًا فقد ظل محدودًا بكمّ ضئيل جدًا من المعلومات لانعدام وسائل السفر المتقدمة، ولأن الحصول على المعلومة من مصدرها يلزمه السفر لشهور وربما سنوات بما يحتمله ذلك العمل من مخاطر، لذا كان السكوت والصمت عن الحقيقة هي طريقة الإنسان المفضلة على مدار آلاف السنين؛ إما خوفًا على حياتهم أو من المجهول، ولقد ظل هذا السلوك الإنساني شائعًا ومسيطرًا حتى جاءت الثورة الصناعية في القرن 19م بما أنجزته من تطوير هائل في وسائل السفر واختراع المحركات وما تبعه من صناعة السيارات والقطارات، ثم لاحقًا الصواريخ والطائرات، فقد كان لهذا الإنجاز أثره في طريقة تفكير الإنسان وتخليه عن أسلوبه القديم وقناعاته القديمة التي قلنا إنها كانت محدودة جغرافيًا ولغويًا أيضًا، بيد أن الانفتاح الناتج عن تطور وسائل السفر صدم الإنسان بعوالم أخرى مختلفة تعيش ربما بشكل أفضل منه، أو بقناعات أكثر منطقية وهو الذي عاش في الماضي وهو يردد أنا الأفضل وأنا الأحسن وأنا الأعلم والباقي كذب، ثم تبين بالانفتاح أن كل هذا وهم.
لقد انتهت عمليًا طريقة الإنسان القديمة المحدودة “باللغة والمكان”، وصار الشك في هذه الطريقة والثورة عليها واجبًا لمعرفة الحقيقة، لذا فقد شرع الإنسان في تفكيك هذه اللغة أولاً وتحري جذورها وأبعادها وتأثيرها على الإنسان في الزمان والمكان، ومن ثم صار السؤال الذي هيمن على الفلاسفة منذ هذا العصر: كيف نشأت اللغة وكيف نفكر بها وما تأثيرها العملي؟ وما تلك الألفاظ ومعانيها في التاريخ؟ وهل لها أن تتطور وتختلف صوتيًا فقط أم تختلف أيضًا معنويًا مع بقاء الصوت والعكس صحيح؟
وهل ذلك الشمول اللغوي بحاجة لتفكيك وتحليل ودراسة لفهم طريقة تفكير الإنسان؟ وهل ستصمد الأفكار والأديان القديمة أمام هذه الطريقة الحديثة من التفكير؟
وهل للمواد تأثير على اللغة أو العكس؟ وما ضرورة المنطق الصوري الأرسطي؟ وهل ذلك المنطق هو وهم في الذهن أم حقيقة متمثلة بالخارج؟ ولو كان حقيقة مترابطة علميًا؛ فهل لنا أن نرصده ؟ ولو رصدناه فهل يمكن للغة أن تؤثر سلبًا في الرصد أم يمكن الاصطلاح على منهج علمي يمكن من خلاله التأكد بشكل قاطع من حقيقة اللغة والمنطق؟
في سياق هذا التفكير وتلك الأسئلة خرجت الفلسفة التحليلية المنسوبة أكثر لفلاسفة الإنجليز، وفي مقدمتهم “برتراند راسل” (1872 – 1970) و”جورج مور” (1873 – 1958م) و “لودفيغ فيتجنشتاين” (1889 – 1951 م) وتتقاطع هذه الفلسفة مع الفكر الألماني، فالمشهور أن جذورها كانت لدى الفيلسوف الألماني “جوتلوب فريجة” (1848 – 1925م) حتى إن فيتجنشتاين نفسه لديه جذور نمساوية، وهي جذور ألمانية اللغة بشكل كبير، مما يؤكد أن الفكر التحليلي هو تزاوج بين فلاسفة الألمان والإنجليز، وإن كان للإنجليز فضلاً في تطويره لاحقًا وإشاعته في الدول الناطقة بالإنجليزية.
تقوم أسس هذه الفلسفة على حقائق عدة أهمها:
♦أولاً: المنطق والرياضيات؛ فعن طريقهما يمكن تفسير ظواهر الكون والمجتمع البشري لإحكامهما في الواقع المحسوس، ومن هذا الجانب ظهر ما يسمى “الذرية المنطقية” Logical atomism، وتعني أن العالم محكوم بقوانين رياضية منطقية، عبارة عن ذرات في الواقع المحسوس، فلا يمكن اكتشاف العالم إلا من خلال معرفة قوانين عمل تلك الذرات؛ لا من خلال تصورنا للمواد، لأن هذا التصور محكوم بنزعة مثالية ورغبات وأمنيات بالأساس، وأن أحكامنا المسبقة تؤثر فينا لترسم صور هذه الأشياء لدينا قبل رؤيتها، وفي هذا الجانب يعتبر الفلاسفة التحليليون -واقعيين تجريبيين- تأثروا بكتابات فلاسفة التجريب بعصر الأنوار كالإنجليزي “ديفيد هيوم” (1711- 1776م)، والإنجليزي الآخر “فرانسيس بيكون” (1561- 1626م)، والطبيعي من خلال ذلك أن يخاصم التحليليون كل فلاسفة العرفان والباطنية والمثالية القديمة خصوصًا منها التي صنعت الأديان.
فكل من يفكر ويتأمل ما وراء المحسوس ويبني أحكامه العلمية بناء على هذا التأمل هو مخرف أو واهم حسب فلاسفة التحليل، لأن المحسوس عبارة عن ذرات محكمة رياضيًا بالأساس، وتناولنا لقوانين عمل تلك الذرات يجب أن يحدث من خلال المنطق، لا عن طريق الخيال الذي يرسم صورًا لهذا المحسوس لدينا قد تكون مزيفة، وعند تصور ذلك في الفكر الإسلامي نرى أن الإسلام قام على نزعة تحليلية ثائرة على هذا التفكير الباطني المثالي برفض وتسخيف العلاقة بين عرب قريش ومعبوداتها في الجاهلية؛ فالعلاقة بين الصنم والعربي ليست منطقية في الظاهر، ويسهل للمسلم حينها إثبات وهمية تلك العلاقة بأبسط أدوات المنطق، ومن خلال هذا نزل القرآن بعديد من الآيات التي استعمل فيها المنهج التحليلي المنطقي والواقعي في نقض الدين القُرشي، ومن ذلك قوله تعالى: ” إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين” [الأعراف : 194] و ” والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون” [النحل : 20] ” ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقًا من السماوات والأرض شيئًا ولا يستطيعون” [النحل : 73] ” قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئًا ولا يضركم” [الأنبياء : 66]
فكانت الدعوة الإسلامية ضد الدين القرشي قائمة على أربعة مبادئ منطقية؛ وهي أن آلهة القوم (لا يخلقون – ولا يرزقون – ولا ينفعون ولا يضرون – ولا يستجيبون الدعاء)؛ فلو قالوا إن هذه الآلهة تخلق، لتدخل المنطق الرياضي فورًا بأنه لا يجوز للخالق أن يخلق ما هو أكبر وأقوى منه، ولو قالوا إنها ترزق؛ فالطبيعي أن الخالق هو الأكثر قدرة على الرزق، ولو قالوا إنها تنفع وتضر لقيل إن الخالق والرزاق هو الذي ينفع ويضر، ولو قالوا إنهم يستجيبون الدعاء قيل إن من يخلق ويرزق وينفع ويضر هو الذي يستجيب الدعاء. وهكذا كان الترابط المنطقي والتسلسل الهرمي في الاحتجاج على دين قريش محكومًا بشكل رياضي مقنع، وهو ما سهّل الدعوة الإسلامية في بداياتها لكسب الأنصار، فضلاً عن منطقية (وحدانية الله) بمبدأ عدم التنازع والذي تمت صياغته في الآية ” لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ” [الأنبياء : 22]
أما عن الذرية المنطقية؛ ؛كان الفكر الإسلامي ممثلاً لها في التأمل والتدبر الكوني، وهو ما تمت صياغته في كتب مشهورة؛ كالآثار العلوية للقاضي أبي الوليد بن رشد (520 – 595هـ) مستدلاً بعشرات الآيات المعروفة بكونها علامات الاستدلال المادي على الله، والاحتجاج العملي بها على منكريه، كحركة الأفلاك والسفن وطبيعة النجوم والمسافات بينها والشجر والحجر وكل ظاهرة كونية تعمل بنظام دقيق يضمن لها الاستمرارية والتطور، لكن الذرية المنطقية التي قال بها “راسل” وعارضها جزئيًا “فتجنشتاين” لم تقل بصحة الأديان من هذا الجانب، ولكني ودت الإشارة هنا إلى أن مبادئ الفلسفة التحليلية تم استعمال البعض منها في الأديان ضد خصومها، باعتبار أن مؤسسي أي دين يقولون بخرافية ووهمية الدين السابق من هذا الجانب، وهو الطعن في واقعية ومنطقية هذا السابق، ومعروف أن راسل كان ملحدًا منكرًا للأديان بالعموم، ولعل الذرية المنطقية التي قال بها كانت جزءً من أسبابه التي دفعته لإنكار الأديان، على اعتبار أن معرفة قوانين عمل تلك الذرات يكفي للعلم عن الأديان التي تزعم – وفقًا لتعبيره – العلم بهذه القوانين بمجرد الادعاء دون دليل مادي ملموس.
علمًا بأن جذور الذرية المنطقية قديمة جدًا منذ زمن اليونان، الذين فسروا الكون وفقًا لاجتماع عدة عناصر مثلما قال فلاسفة المرحلة الطبيعية اليونانية التي سبقت تاريخيًا العصر السوفسطائي، وكان من أعلامها فيثاغورث وديموقريطيس ولوقيبوس وطاليس وغيرهم، حتى إن بعض فلاسفة اليونان المتأخرين بعد أرسطو قالوا بالعالم الذري، وأشهر هؤلاء أبيقور (341ق.م – 270 ق.م)(المصدر – فلسفة التحليل المعاصر صـ 30/ ماهر محمد علي).
وأشير إلى أن السلفية الوهابية استفادت من هذا النهج الإسلامي التحليلي بادعائها كفر الصوفيين والشيعة؛ فحصلت على الأنصار أيضًا من هذا الجانب، وهو سهولة ضرب العلاقة بين الولي الصوفي وأتباعه، أو بين آل البيت وأتباعهم؛ فمجرد الاحتجاج المادي بشكل رياضي منطقي مصحوب بتسخيف هذه العلاقة تنشأ صورة ذهنية صادقة في الذهن عن هؤلاء أنهم جهلة كذابون، ومن ثم جرى استدعاء نفس الصورة التي بناها المسلم القديم عن مشركي قريش لدى أتباع ابن عبد الوهاب، وحصلت له شعبية كبيرة مكنته من إنشاء دولة قوية هددت الدولة العثمانية، حتى إن البعض وضع لعبد الوهاب منزلة المصلحين في العصر الحديث تبعًا لمنطقية ما جاء به في الظاهر مع حفظ أن خصوم ابن عبد الوهاب لم يكونوا بهذه الصورة التي رسمها عنهم وصدّرها لأتباعه، لكن دعاية الوهابية كانت أسبق وأنفذ بغض النظر عن صدقها.
ويمكن القول بأن لدينا طريقتين في التفكير هما ما أدتا لهذا الوضع:
الأولى: وهي طريقة التحليل المادية المحكومة رياضيًا ومنطقيًا، بينما الثانية: طريقة العلم الروحاني والتأمل العرفاني والنظر فيما وراء المحسوس، الأولى عرفت بالفلسفة التحليلية التي نناقشها، بينما الثانية عرفت بالفلسفة القارية، وهي مجموع كل الفلسفات الروحية والعرفانية المتعارضة مع التحليلية، أي أن القارية هنا طريقة تفكير بشرية تميل للرؤية الباطنية للنصوص والتأويل العقلي والمثالية بكل أنواعها، التحليلية تقول بأولوية العلم التجريبي، لأن العالم متألف أساسًا من ذرات وقوانين مادية، بينما القارية تقول بأن تغير العلم والاكتشافات يشهدان على أن الحقائق تكمن في تفاصيل غائبة عنا لا نعرفها سوى بالتأمل العقلي والروحي، وأن يعود الإنسان لحالة صفرية وسلام نفسي يمكنه من البحث العلمي بتجرد، ومن تلك الزاوية يميل المؤمنون بالأديان للفلسفة القارية، وإن كانوا يستعملون النهج التحليلي فقط ضد خصومهم مثلما فعل السلفيون الوهابيون ويفعل كل المتشددين والمبشرين في كل الأديان.
♦ثانيًا: تكسير الكليات إلى جزئيات، وفي ذلك يميل فلاسفة التحليل إلى أدق التفاصيل التي ترسم معالم المفهوم؛ فكل مصطلح لديهم أو عبارة هي مفهوم كلي يجب تكسيره وتجزئته، ولو كان جزئيًا يجب تكسيره أيضًا لأجزاء أصغر، وهكذا.
ومن هذا المبدأ عرفت الفلسفة بهذا الاسم؛ وهو “التحليل”؛ فالإنسان القديم كان يفكر بطريقة شمولية لا تمكنه من فهم العبارات والجمل والمصطلحات بشكل دقيق، لأن الفكر الشمولي قد يُعطي انعكاسًا للمفهوم على الواقع بطريقة خرافية غير حقيقية، كمفهوم الدولة مثلاً الذي جرى استخدامه في القرون الوسطى، وكان يعني – وفقًا للنهج الشمولي – سلطة مركزية تحكم مجموعات من البشر لها حدود جغرافية معروفة، وبالتالي عندما تؤمن السلطة بدين لابد وأن هذه المجموعات تدين بهذا الدين فورًا كي لا يحدث تنازع من جهة، ولكي يسهل للحاكم إقناع شعبه وبلاطه بنفسه من جهة أخرى.
هذه الطريقة انتهت مع الفلسفة التحليلية التي قسّمت مفهوم الدولة لأجزاء؛ منها البُعد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والعسكري والديني.. إلخ؛ فلم يكن الإنسان القديم ما قبل التحليلية يفهم الدولة بهذه الأبعاد؛ بل يراها جميعًا واحدة، وكل قرار للحاكم هو صالح لكل هذه الجوانب المختلفة، لكن مع التحليلية تبين أن هذا كان وهمًا كبيرًا عاشه الإنسان، هو الذي أدى للحُكم الديني والاستبداد، فبعد أن يتبين بشكل عملي فساد رأي الحكومة على جانب الاقتصاد مثلاً يثور الشعب والقادة أو تحدث مجاعات وأوبئة دون القدرة على اكتشاف السبب؛ فالكوارث كانت تحدث دون القدرة العلمية على رصد أسبابها العملية، لأن الشمولية السياسية للسلطة كانت أسبق في إقناع الشعب والبلاط والقادة أن السبب ليس في الحاكم ولا قراراته، لذا كانوا يلجؤون لتفسير تلك الكوارث بطرق أخرى ميتافيزيقية وغير عملية، كأن هذه الكوارث هي غضب من الله على الشعب لذنوبه.
من هذا البند اعتنت الفلسفة التحليلية بمبدأ آخر؛ وهو (الوضوح)؛ فالدافع من وراء تحليل الكليات وتكسيرها لجزئيات كان لتوضح المفاهيم الغامضة، ومن ثم جرى العُرف على أن الفلسفة التحليلية لا تهدف بالأساس لمعرفة جديدة؛ بل تحليل ما هو موجود بشكل أولي، ولو أدى ذلك لمعرفة جديدة كان بها. ولو لم يؤد فالغرض من التحليل انتهى، وهو معرفة ما هو موجود وتوضيح الغامض منه، وقد أثر ذلك بشكل إيجابي على الفصل بين المنهجين؛ (المعياري والوصفي)؛ فالأول كان لمعرفة الصواب والخطأ في المنظومة ووضع دستور – معيار – لقياس التزام الناس به، والثاني لمعرفة تفاصيل المنظومة وبنيتها، ومن ثم وصف كل تفاصيل هذه المنظومة بعبارات محددة هي ليست معيارًا ملزمًا لتفاصيل أخرى مختلفة، وأقرب مثال على ذلك مفهوم الدولة، فعن طريق الفلسفة التحليلية فهمنا مادة ووظيفة الدستور كمعيار وقانون ومعلم إرشادي، لكن صياغة قوانين ومفاهيم مؤمنة به شيء آخر مختلف، لأن الدستور تم تعريفه كمعيار، لكن القوانين والمفاهيم التي تدخل مثلاً في جوانب التعليم والسياسة والاقتصاد هي أوصاف لشيء موجود بالفعل.
علمًا بأن تقسيم مفهوم الدولة على النحو المذكور منذ قليل صار يُلزم كل من يدعو لشريعة أو دولة دينية ثيوقراطية أن لا يشتمل تعريفه للدولة على النظام القديم؛ بل يجب عليه الإيمان بالفكرة الحديثة التحليلية التي كانت وراء مبدأ السلطات الثلاث، وهذا عالم ما بعد الشمولية الذي أقصده؛ فالجماعات الإسلامية لا زالت تفكر بالطريقة الشمولية القديمة في رؤيتها للدولة، ولم تفطن بعد أو يتطور إدراكها لرؤية ما جدّ على تعريف الدولة نفسه، والذي أصبح مُلزمًا لكل دول العالم، ومن ذلك المنطق جرى العرف الدولي على استعداء أي دولة وشعب يحكم بالطريقة الشمولية القديمة؛ سواء كانت دينية أو عسكرية، لأن الطابع الشمولي هو الذي يهيمن على كلا النموذجين بصبغ دولهم بتعريف قديم لا يفصل بين السلطات والمؤسسات، ولا يؤمن بانتخاب الحاكم، ولو أن بعض النُظُم العسكرية تفصل وتنتخب جزئيًا بشكل يضمن لها السلطة في الأخير.
♦ثالثًا: تحليل اللغة؛ وهذا الجانب هو الأهم والأكثر اهتمامًا لدى كل فلاسفة التحليل، لما ينطوي عليه من نتائج في فهم النصوص التاريخية والأدبية والدينية التي شكلت عقبة أمام مصلحي عصر التنوير، مما أدى بهم لانتهاج أحد الطريقين أو كليهما، وهما “القطيعة والتأويل”؛ فبالأولى تحدث صدمة نفسية تحكم كل مناهج البحث وتجعل العلم رهينًا للأمنيات والرغبات، وهو الذي أدى لظهور تيارات عدمية وأناركية لاحقًا تكمن إشكالياتها الأساسية في عدم الثقة أو اليقين بالعجز الذاتي عن المعرفة، وبالثانية يحدث الانتقاء وضياع الحقيقة لحساب المصالح، فكان تحليل لغة السابقين واللاحقين مشروعًا ثوريًا في ذاته يعالج إشكاليات كبيرة في المنهج، ويرد على المتعصبين والأصوليين والمدافعين عن السائد بشكل علمي جديد لم يعهده الإنسان من قبل.
ومن خلال تحليل اللغة ظهرت علوم جديدة كعلم دراسة اللغات المقارن “فيلولوجي” Philology وعلم أصول الكلمات “أيتيمولوجي” Etymology، وهي علوم حديثة جدًا نشأت بناء على الفكر التحليلي والثورة العلمية اللغوية في القرن العشرين، والتي كانت من بين بناتها الفلسفة البنيوية التي سبق وشرحناها على مواطن، ومجمل هذه العلوم الجديدة أن يدرس الفيلسوف أصول الكلمات في الزمان والمكان، ووقعها في النفس البشرية بالتماهي مع الثقافة المحدودة، وهو يتطلب الإلمام بحقائق التاريخ دون ميول مسبقة، وأن يدرس الفيلسوف حركة التاريخ بتجرد، فضلاً على دراسة علوم أخرى كالأنثربولوجي وتأثير التنوع العرقي والقومي والعشائري على الألفاظ والعبارات، وعلوم أخرى أيضًا كالجغرافيا وتأثير المواد والمحسوس على حركة الفكر في الزمكان، ومن ثم يتبين لنا أن الفلسفة التحليلية ليست سوى مُدخلا للبحث الدقيق في علوم أخرى وأنها منهاج ومعيار أكثر مما هي علم ووصف.
مواطن
إضافة تعليق جديد