خورخي لويس بورخيس.. في عالم آخر
حوار: مارك تشيلدرس، وتشارلز مكنيرـ ترجمة: أحمد شافعي
في 23 أغسطس، 2021، نشرت «لوس أنجلس رفيو أوف بوكس» حواراً، اكتُشفِ حديثاً، مع الكاتب الأرجنتيني الراحل «خورخي لويس بورخيس»، أجراه معه الروائيّان الأميركيّان؛ مارك تشيلدرس، وتشارلز مكنير، سنة (1982) في مدينة «نيوأورلينز» التي زارها لإلقاء محاضرة فيها عن الإستطيقا ونظرية المعنى.
(…) كان قد قَدِم من «بوينس أيرس» لإلقاء محاضرة في جامعة «تولان» حول الإستطيقا ونظرية المعنى. والمكان الذي أراد، بشدّة، أن نصطحبه إليه هو قاعة المحفوظات، وهي غرفة صغيرة مكتومة غير بعيدة من شارع «بوربون»، لم تزل تؤدَّى فيها البقايا الباقية من موسيقى «ديكسيلاند – Dixieland». وقف في الخلفيّة، تاركاً «موسيقى الجاز» تجتاحه «موجات تلْوَ موجات».
في الصباح الذي قابلناه فيه، سنة 1982، في جناحه بفندق «فيرمونت»، كانت ترافقه «مارينا كوداما»، الموظّفة اليابانية الأرجنتينية اللطيفة التي أصبحت زوجته الثانية فيما بعد (حينما مات سنة 1986، غضبت الأرجنتينة المهذَّبة غضباً مستعراً لأنه أوصى لها بجميع ممتلكاته).
لإجراء حوارنا، جلس «بورخيس» في ضوء الشمس الساطع، بجوار شبّاك مفتوح، متذكِّراً موسيقى الليلة الماضية، ابتسم وأخذ يغنّي، بصوت خافت، ثلاثة أبيات من أغنية «مشفى سان جيمس»، وكان إيقاعه الموسيقي في مثل دقّة لغته الإنجليزية خلال حوارنا. كان كريماً بوقته، وأجاب عن جميع أسئلتنا.
هل حلمت ليلة أمس؟
– أحلم كلّ ليلة. أحلم قبل أن أنام، وأحلم بعد أن أصحو، حينما أبدأ في قول أشياء لا معنى لها، وأرى أشياء لا معنى لها. أتذكَّر أن حلماً أعطاني قصّة. تراءى لى حلم شديد الإرباك، شديد التشابك، ولم أتذكَّر منه إلا هذا: «إنني أبيعك ذاكرة شكسبير»، فكتبت قصّة عن ذلك (هي «ذاكرة شكسبير – La Memoria de Shakespeare».
اسم جميل هو «شكسبير»، أليس كذلك؟ أمّا هو نفسه، فكان رديئاً إلى حَدّ بعيد، ألا تريان هذا؟ هو الرجل الذي كتب «يا إنجلترا، يا نصف جنة». وهي أشبه بنكتة رديئة، صح؟ أعني أن «شكسبير» لا يتوقَّف عن خذلانك طوال الوقت. كاتب شديد التفاوت، لا يُعَوَّل عليه، يعطيك بيتاً جيّداً للغاية، ثم يعطيك، محض بلاغة.
هل تحبّ حضور مسرحيّاته؟
– أحبّ قراءة المسرح، لا مشاهدته. ذلك جزء عظيم من حياتي؛ أعني القراءة. أبذل أقصى جهدي لمواصلة القراءة، أواصل شراء الكتب، وأعيش معها، لكنني لا أستطيع قراءتها، بالطبع.
الكتاب جَوٌّ، أليس كذلك؟ وأنا مطوَّق بالكتب. عميت وأنا أقرأ الشعر: حدث الأمر كلّه حدوث شفق شديد البطء، شديد البطء. ما من لحظة مؤسية بصفة خاصّة. أصبح الناس عديمي الأوجه، والكتب خلت من رسومها، ولم يعد بوسعي أن أرى نفسي في المرآة.
هل تتذكر آخر شيء رأيته؟
– آخر ما رأيته هو الأصفر، اللون الأصفر، لأن أوَّل لونَيْن اختفيا كانا الأسود والأحمر. يحسب الناس أن العميان يعيشون في العتمة. لا. إن أوَّل ما يفقدونه هو الأسود. أتوق كثيراً إلى الأحمر والأسود، وأودّ لو أرى القرمزي.
والآن، أعيش في مركز ضباب وضَّاء من الرماديّ، أو المزرقِّ، أو المخضرِّ. لكنه وضَّاء دائماً.
أبي، أيضاً، أصابه العمى، وجدَّتي الإنجليزية ماتت عمياء، ووالد جدّي الإنجليزي مات أعمى. أعرف أنني الجيل الرابع من العميان. كنت أعرف ما ينتظرني.
هل تقرأ بطريقة «برايل»؟
– لا. للأسف. كان هذا سيغيّر حياتي كلّها. والآن، كبرت على هذا. شاخت يداي.
قلت، مرّةً، إنك تمنَّيت لو أنك لم تغادر، قطّ، مكتبة أبيك التي كنت تقضي فيها وقتك في طفولتك.
– أنا، في الواقع، لم أغادرها. لم أزل هناك. وأنا هنا، أواصل قراءة الكتب نفسها التي قرأتها صبيّاً. وكلَّما قرأتها تغيَّرَتْ، وهي تغيِّرني طبعاً.
ليس لديَّ في البيت كتاب واحد من كتبي، أو كتاب واحد مؤلَّف عني. أكاد لا أعرف ما كتبته. أقرأ لكُتّاب آخرين، أفضل مني. لو أعدت قراءة كتابتي أنا لابتأست. أريد أن أستمرّ في الكتابة، ولا أريد ما يثبِّطني.
كيف تكتب الآن؟
– أواصل الحلم، والترتيب، والتخطيط طوال الوقت. يأتي الناس فأُمَلي عليهم. هذا كلّ ما في وسعي. أعمل بطريقة مبعثرة للغاية، فليس لديَّ منهج. إنما هي طريقة عفوية، وكلّ ما يتّصل بي عفوي.
أبذل أقصى ما في وسعي للكتابة بأسلوب بسيط، كما أبذل أقصى ما في وسعي لاستعمال كلمات بسيطة. أبذل أقصى ما في وسعي للرجوع إلى القاموس. أعتقد أن كتابتي، على السطح، بسيطة. أشعر بنوع من الحاجة الداخلية، نوع من الدافع، وأعيش لإشباع تلك الحاجة، التي تظلّ تقلقني، وحينما أدوِّن، ينتفي القلق.
هل أشبعتَ تلك الحاجة، يوماً؟
– لا، لذلك أواصل الكتابة.
ماذا تكتب حاليّاً؟
– أشياء كثيرة للغاية. عليَّ أن أستمرَّ في العيش حتى أكتب الكثير جدّاً من الكتب، لأكتب كتاباً عن الفيلسوف السويدي «إيمانول سودنبرج»، وأكتب ديوان شعر، وأكتب مجموعة قصصية. درسنا، أنا و«مارينا كوداما»، الإنجليزية القديمة، وندرس، الآن، النورسية القديمة. إنهما لغتان مثيرتان للغاية.
ما لغتك المفضَّلة؟
– أعتقد أنني قد أختار إحدى اللّغتين؛ الإنجليزية أو الألمانية، وربَّما لو كنت أتقن الأيسلندية لاخترتها. أعتقد أن الإسبانية لغة خرقاء بعض الشيء. إليكما، مثلاً، بيت للشاعر البريطاني «روديارد كبلنج»: «انطلقنا من السماء ممتطين القمر الداني»: في اللغة الإسبانية،ليس بالإمكان امتطاء القمر من السماء، فاللغة نفسها لا تسمح بهذا. كم أنتما محظوظان لأنكما ولدتما في الإنجليزية، أليس كذلك؟ هذه لغة رائعة.
كيف يكون إحساسك حينما تقرأ عملاً لك، في ترجمته الإنجليزية؟
– المترجمون يحسِّنونه كثيراً.
لماذا لا تؤلّف بالإنجليزية؟
– أحترم الإنجليزية كثيراً. مَنْ أكون حتى أتطفَّل على الإنجليزية؟
هل تؤمن بالإلهام؟
– نعم. أعتقد أن الأمور، في حالتي أنا، على الأقلّ، تبدأ بالإلهام. شيء ما … نطلق عليه الشبح المقدَّس، أو ربّة الشعر، أو الذاكرة العظيمة، أو اللاوعي. حينما أكتب الشعر، أميل إلى التفكير في شيء آنيّ، مباشر. شعري أكثر حميميّةً لديَّ من نثري. كثير من الناس، في بلدي، يكرهون شعري، ويستمتعون بنثري.
في حالة النثر، عليَّ أن أخترع قصّة، حبكة، أن أخلق شخصيات، وما يماثل هذا. ثم إنني، حينما أحصل على شيء، أحاول الجلوس والمضيّ قدماً. لا أسمح لآرائي الشخصية أن تتداخل مع عملي. أحصل على حكاية، حبكة … فلنرَ، هل يحدث هذا، مثلاً، عند انعطاف القرن العشرين، أم في حياة كحياة «ألف ليلة وليلة»، أم نجعله قد حدث فحسب؟ لعلي أكون في أسكتلندا، أو بيونس أيرس، أو مونتفيدو.
ذكرت في حديثك (اللاوعي). ما رأيك في علم النفس؟
– فيه، ينبغي على كلّ فرد أن يكره أباه أو أمّه. كان أبي يراه علماً عديم الجدوى تماماً، وأنا، شخصياً، لا أفهم أولئك الذين يزعمون أنهم ضليعون في علم النفس. أشفق عليهم من اهتمامهم البالغ بأنفسهم، بتحليل أنفسهم. أنا، شخصّيّاً، أكاد لا أعرف نفسي، ولا أحد يعرف نفسه.
فقدنا علماً شديد الأهمّيّة: الأخلاق. الناس يعجبون بالكذب، و يعجبون بالغشّ. يعجبون بالرجل حين يصبح مليونيراً، في حين أن الأمور المهمّة، المهمة بحقّ، هي الكتب التي يقرؤها رجل، ومشاعره، وأفعاله، أمّا آراؤه فليست كذلك، لأنها تأتي وتذهب. لقد كنت قوميّاً، وكنت شيوعيّاً، وإلى حَدٍّ ما أناركيّاً.
هل تعني أن الأرجنتين فقدت ضميرها الأخلاقي؟
– لنَرْجُ أن تكون ظاهرة محلِّيّة. الأمر، فقط، أن بلدي بلد مقطوع الأمل. الشيء الوحيد الذي بقي لنا هو حقيقة كوننا مقطوعي الأمل. لا أحد يتوقَّع أيّ شيء. ابتزاز، فساد، واختطاف… الناس يختفون! نحن ننحدر باطِّراد. لو كانت لدينا ديموقراطية، لكنّا اخترنا أحمق أو محتالاً مثل «بيرون»، والرجل الحالي عديم الكفاءة إلى حَدّ بعيد، وما الذي يحمله على أن يكون كفئاً؟
ما تعريفك للأخلاقيّات؟
– ليس عليَّ أن أعرِّفها، فهي تظهر من تلقاء نفسها؛ أعني أنني عندما أقوم بفعل، أعرف أين أنا؛ مصيباً كنت أم مخطئاً. على الأقلّ، أعرف أنني أفعل. هو شعور، شعور داخلي.
هل هذا الإحساس دينيّ، أيضاً؟
– لا أشعر… لا أشغل نفسي بذلك. أنا لاأدري إن كنت سعيداً أم مرحاً. أفترض كلّ يوم أننا في الجنّة، أو أننا في الجحيم، أو أننا في كلّ موضع. أليس كذلك؟ أشعر بشيء ما، وقد أرجو شيئاً ما. لكن، في النهاية، هذه كلّها مسائل شخصية.
الشيء الوحيد الذي خبرته هو السحر، ولعلّي لم أَخْبَر شيئاً غيره. أتذكَّر مذنَّب هالي، عندما كنت طفلاً. تصوَّرته جزءاً من احتفالات القرن في «بيونس آيرس». أُضيئت المدينة كلّها. تصوَّرت ذلك نوعاً من الألعاب الناريّة السماوية.
هل تنتظر، في شوق، عودة المذنَّب (في عام 1986)؟
– لا. لا، على الإطلاق. لا. لو متّ، الآن، فسيكون هذا هو الفعل الصائب، أليس كذلك؟ جالساً هنا أُكَلِّمُكُمَا، في «نيوأورلينز»؟ ماذا بوسعي أن أفعل غير هذا؟ كلّ الوقت في فراش المرض؟ أفضِّل أن أموت الآن.
لكن، لم تزل لديك قصص كثيرة لتكتبها.
– نعم، لكنني أعتقد أنني حكيت أفضل قصصي. أنا في الثانية والثمانين، ولم يبق لي من مستقبل، أو نوع من مستقبل حلميٍّ، لعل هذا هو المستقبل الوحيد الممكن. ماتت أمّي في نضج التاسعة والتسعين، وكانت تخشى أن تبلغ المئة.
حينما تبلغ الحادية بعد المئة، سترى القرن التالي.
– أوه! أرجو ألّا يحدث هذا. لا تكن متشائماً.
ألن تستمرّ من خلال أعمالك؟
– لن أكون موجوداً. سأكون غائباً. سأكون في عالم آخر، ولا أبالي به طرفة عين. أعتقد أن أعمالي سوف تجد طريقها.
هل كنت تريد أن تجيء إليك الشهرة أسرع ممّا جاءت عليه؟
– لا، فأنا غير مستمتع بها، ولا مرتاحاً إليها، ومثلما قال أبي: «أودّ لو أكون رجلاً ثريّاً، خفيّاً». لا أذهب مطلقاً إلى حفلات الكوكتيل، أو الاجتماعات من أيّ نوع: مصافحة الأيدي، الأيدي الثابتة، والقول: «سعيد بمقابلتك، يا سيّدي»، ومثل ذلك الكلام، الذي يتردَّد مراراً وتكراراً، ومقابلة الناس، ممَّن لا أستطيع رؤية وجوههم. أمر رهيب حقّاً هو الاضطرار إلى التبسُّم، والاضطرار إلى الامتنان.
والسفر، هل يتعارض مع كتابتك؟
– بالعكس. أنا ممتنّ له جدّاً. يمكنني أن أشعر بالبلاد. لم أرَ مصر، لكنني ذهبت إليها. لم أرَ اليابان، لكني ذهبت إلى اليابان، وهذا يحدث فارقاً كبيراً. لا أعرف، أيأتي هذا من الحواسّ أم ممّا وراء الحواس؟ أنا، الآن، هنا، وأن أكون في أميركا أمر لا يصَدَّق، وبالغ الروعة، ومختلف عن الوجود في «بيونس أيرس»، المدينة الفاترة تماماً.
متى سترجع إلى أميركا؟
– بأسرع ما أستطيع. أريد أن أسافر دائماً، وأريد، أيضاً، أن أعود إلى البيت. فذلك جزء من السفر. يكون متوقَّعاً، في أيّة لحظة، أن أصل، أو أن أذهب إلى غير رجعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر:
https://lareviewofbooks.org/.../ill-be-in-another-world.../
مجلة الدوحة أكتوبر 2021
إضافة تعليق جديد