رسالة من الأزهر للإخوان المسلمين
سامح عسكر:
يتفق علماء الاقتصاد والعلوم السياسية أننا نعيش في عصر سياسي مختلف عن ما كان عليه الإنسان قبل 300 عام، والسر في ذلك يعود إلى ثورة الدستور والعقد الاجتماعي في القرن 18 وثورة حقوق الإنسان في القرن 20 بحيث لم تعد كافة دساتير وقوانين العالم تخلو من معالم ومنتجات هاتين الثورتين، وهي عمود ومحور ما اصطلح عليه "بالدولة الحديثة" ومن ثم صارت كل دعوات تهدف إلى عودة الإنسان والدول إلى ما قبل هذه الثورات هي دعوات رجعية إما بصورة ثيوقراطية دينية، أو شوفينية قومية ، أو فاشية استبدادية بالعموم..
ومن هذا المُنطلق صار العالم ينبذ أي حكومة مستبدة ويرسم علاقاته معها بناء على إيمانه بمنجزات هاتين الثورتين، مما دفع العديد من المستبدين إلى خلق حالة ديمقراطية – ولو شكلية – في بلاده تضمن له البقاء أولا ثم اعتراف العالم به ثانيا، لكن الأهم أن يكون الشكل الديمقراطي حاضرا ومؤمنا بالتعددية السياسية والدينية التي يفقدها المستبدون الآخرون من دعاة الرجعية الدينية والقومية، فالشرط الأساسي لأي بناء ديمقراطي هو "التعددية" حتى لو كان هذا المجتمع يعاني فكريا أو محافظا ومتشددا وقبليا تحكمه قوانين وأعراف ليست ديمقراطية، إنما الشكل التعددي للدولة مطلوب لنسج علاقات هذه الدولة مع العالم وجذب الأموال والاستثمارات والاقتصاد وخلافه، بما يثبت أن ثمة تحولات جذرية أصابت العالم في العقود الأخيرة صار فيها الاقتصاد ليس مجرد طريقة لإدارة الأموال والثروات بل هو عصب أي دولة ومصدر أساسي لاستقرارها السياسي والاجتماعي والديني..
قبل ثورة يونيو 2013 كنت أتحاور مع بعض قيادات الإخوان ومفكريهم على السوشال ميديا، وفي الواقع أيضا..فقد تركت الجماعة حينها لكن الرابط الاجتماعي والعاطفي – مع بعضهم - لا زال موجودا بعض الشئ باعتباري أخا قديما، ومما أتذكره حواري مع "وصفي عاشور أبو زيد" في صفحته بالفيس بوك، وكلامي أن مجتمع مصر متعدد الديانات والثقافات والمذاهب والرؤى السياسية، فلا يمكن إنكار هذا التعدد وفرض نمط سياسي وديني واحد عليه، وأن أي محاولة لإنكار هذه التعددية أو تبسيطها أو الزعم بتجانس المصريين وإجماعهم هي (محاولات مُضللة) سوف يعاني الإخوان منها بحشد كل هذا النسيج "غير المتجانس" ضدهم، وهو ما حدث بالفعل في ثورة يونيو حيث نزل المصريون بالملايين في الشوارع من كل الفئات التي أنكر الإخوان تعدديتها ، فلما شعرت تلك الفئات بالخطر على مصالحهم وهوياتهم اصطفت وراء الجيش كأقوى مؤسسة في الدولة على الإطلاق لتحميهم من هذا التهديد والفناء المنتظر..
كانت سقطة سياسية إخوانية دفعهم إليها الشحن الديني والعقائدي الكبير على فضائياتهم وإعلامهم بالإنترنت، فقد بالغ إعلام الإخوان والجماعات في تكفير وازدراء وكراهية كل خصومهم السياسيين والدينيين مرة واحدة وبطريقة متزامنة حتى وضعوا كل الخصوم في صندوق واحد، لدرجة صُنع عالم موازي يعتقدون فيه باصطفاف الشعب المصري (وراء الحل الإسلامي) مثلما كانوا يعتقدون، وأن هؤلاء الخصوم هم مجرد شرذمة وفيروسات يطردها الشعب المصري وينفث خبثها وفقا لما كان يبثه ذلك الإعلام الساذج، كنت أردد حينها أن صناعة الأعداء من أسهل ما يكون وأن الإخوان يجهلون الدولة الحديثة وليست لهم دراية بحياة الإنسان المعاصر..كيف يعيش وكيف يفكر وماذا يرى وما هي أحلامه وتطلعاته، كنت أقول أن النقد الديني ليس حالة مصرية خاصة بل هو حالة إنسانية عامة انتشرت في العالم جراء شيوع وتغوّل السوشال ميديا ، بينما انفتاح الشباب وسهولة الحصول على المعلومات سرّع في حدوث ذلك النقد والتبشير بنتائجه..
فالعالم تغير جذريا عن ما كان في عصر المتوكل بالله العباسي أو القادر بالله، تغير أيضا عن عصر الحجاج الأموي ويزيد، وتغير عن عصر المماليك والعثمانيين..بل تغير عن عصر الاستعمار ولم تعد مفاهيمه ومفرداته حاكمة أو تسيطر سوى على قطاع صغير من أصحاب الشعارات وأسرى النوستالجيا، ومن ثم فالذات الفلسفية العاقلة التي تحكم العالم الآن لديها تطلعات في النقد الديني لن تتوقف عن عمليات الاستقصاء والبحث، فالأدوات موجودة والعالم صار لامركزيا والقوى الناعمة لهذا النقد تخلصت من كل قيود الدول والحكومات وصارت بأيدي الإنسان نفسه يتحكم فيها من خلف الشاشات والأجهزة، ومن ثم فالمجتمع المصري به شرائح مؤثرة صنعت وتماهت مع النقد الديني سواء من داخل الصندوق الإسلامي أو من خارجه، مما يتطلب من الإخوان والجماعات أن يراجعوا تصورهم للدولة أولا بسبب أن مراكز القوى الاجتماعية والدينية والفكرية لم تعد لصالحهم بل صاروا مستهدفين ..
وأعني باستهداف الإخوان أن النقد الديني الشائع سوف يجد له أنصار من خصوم الجماعات على مستوى الدين (مسيحيين ويهود ولادينيين وغير مسلمين) وعلى مستوى المذهب (شيعة وصوفيين) وعلى مستوى الفكر والأيدلوجيا (علمانيين وليبراليين ويسار) وعلى مستوى السياسة (كافة الأحزاب الأخرى في جبهة الإنقاذ) سوف يكون اجتماع هؤلاء مُغريا لأقوياء ونافذين الدولة - من خصوم الإخوان - بالعمل معهم والتحالف لإقصاء مرسي، علاوة على دعم وتعاطف دول أخرى إقليمية ودولية لخصومهم من باب درء الخطر المحتمل، فالأمر لا علاقة له بإيمان وكُفر مثلما يعتقدون بل في اجتماع كل هذا النسيج التعددي وغير المتجانس ضد خصم واحد يهددهم جميعا، وقد بالغوا في استفزاز هذا النسيج بظهور إعلامي بائس وغبي أحسن بعض الفنانين في استثماره لصالح حشد شعبي ثوري هائل ضد الجماعة، وأبرز هؤلاء الفنانين الذي استثمروا هذا الظهور البائس للجماعات هو "باسم يوسف"
إن النقد الديني لم يستهدف الإخوان فقط ليُقصيهم دونا عن غيرهم، إنه يستهدف حاليا الأزهر بوصفه (الوريث) الشرعي والاجتماعي لتركة الإخوان الدينية ومذهبهم السياسي والعقائدي في الخلافة ودولة الشريعة، وفي رؤية الخصوم وتصنيف الناس وفقا لانتماءاتهم وآراءهم واجتهاداتهم، لكن قيادات الأزهر حتى الآن لم تبالغ في استفزاز الناس مثلما فعل الإخوان، فهي لم تتورط سياسيا بما يكفي للمقارنة، ويمكن اعتبار خروج البعض منهم برؤية ساذجة وسطحية لتخويف النساء وتهديد غير المحجبات هو ردة فعل انتقامية لنشاط العلمانيين والتنويريين المؤثر على الفضائيات والسوشال ميديا لا أكثر، وقد كان مبروك عطية هو أحد ضحايا هذا الاستفزاز مما عجّل بسقوطه..حتى لو عاد الرجل فقد صار ورقة دينية واجتماعية محروقة بعدما خرج لاستفزاز الشعب وهو لا يدري كيف يفكر العامة، فالمصري مثلما يختار الحجاب لأسباب متنوعة إما عن خيار حر أو التزام بالعادات والأعراف الموروثة، هو أيضا لا يتصور أن تصبح دولته مثل إيران وأفغانستان..بل اعتاد المصريون على مشاهد الحجاب وغير الحجاب في الشارع ، وهذا الاعتياد لا يمثل خيارا حرا في الذات الاجتماعية فقط بل هو سلطة وغريزة شعبية سوف تدفع الناس لحماية غير المحجبات في الشارع فيما لو هاجمهم بعض المتعصبين والموتورين.
هذا يعني أنه لو تصرف الأزهر ضد هذا النقد العالمي للأديان بعنف واضطهاد وقمع سوف يكون مصيره هو مصير الإخوان، فالجماعات قبل يونيو كانت تعتقد أن الشعب المصري مع الحل الإسلامي ثم كانت الصدمة بعشرات الملايين في الشارع ضدهم، كذلك يخرج بعض الأزهريين الآن لترويج نفس الخطاب وهو أن الأزهر حصن الإسلام والمتحدث الرسمي باسم 1،5 مليار مسلم، وأن المعارضين هم شرذمة من العلمانيين والملحدين والشيعة والصليبيين والشواذ..إلخ، لم يتعلموا من الخطاب السياسي والاجتماعي الإخواني قبل الثورة عليهم حيث يعيدون استنساخ هذا الخطاب حرفيا، لكن ما يحفظ للأزهر هيبته هو عدم تهوّر قياداته بعد وتصدير أي خطاب سياسي حاد ضد المعارضين..باستثناء البيان الأخير للمركز العالمي للفتوى التابع للأزهر وإعلانه حظر خروج غير المحجبات ، فبرغم أن البيان سياسي محض وتهديد للدولة المدنية وإعلان الأزهر سلطة دينية رابعة لكن مسارعة الأزهر بتعديل البيان وحصره لصلاة العيد يؤكد أن قيادات الأزهر ما زالت ترفض الانخراط والتورط في السياسة أو الصدام مع مؤسسات الدولة، خصوصا الجيش الذي أعلن نفسه حاميا وحارسا لمدنية الدولة، وبيان كهذا هو تهديد صريح وخطير لوظيفة القوات المسلحة..
كذلك ما يحفظ للأزهر وجوده استجابة قياداته – جزئيا – لمطالب الإصلاح الديني، فيخرج شيخ الأزهر وبعض الفقهاء بمجمع البحوث وهيئة كبار العلماء بتصريحات وفتاوى جيدة ناحية الأقليات والمرأة، أشهرها تصريح شيخ الأزهر بأن المسيحيين ليسوا أهل ذمة، وهو انقلاب على إجماعات الفقهاء السنة الذين يرون عقد الذمة شرط أساسي لبناء دولة الشريعة، ومن ثم فتحصيل الجزية من الأقليات هو فرض واجب على الإمام يحدد شرعيته الدينية من عدمها ، كذلك تصريحات شيخ الأزهر ناحية تعدد الزوجات واعتبار أن التعدد قد يكون مكروها في بعض الأحيان وأن الأصل هو الإفراد وبالنسبة للقرآن الذي نص على التعدد فهو مقيد للأرامل المُعيلات، وتصريحات أخرى جيدة بالنسبة لحقوق الزوجة الحاضنة وحق الكد والسعاية وغيرها، ولولا الضغط الذي يصنعه العلمانيون والمثقفون والدولة معا في الإعلام والسوشال ميديا ما حدثت هذه الاستجابة من الأزهر..
أتخيل لو استجاب الإخوان جزئيا بنفس الدرجة لمطالب الإصلاح السياسي قبل ثورة يونيو، هل كنا سنرى عشرات الملايين في الشارع يهتفون "يسقط حكم المرشد"؟؟..كذلك أتخيل لو لم يستجب الأزهر لمطالب الإصلاح الديني جزئيا هل سنرى الملايين في الشوارع يهتفون "يسقط حكم الأزهر"؟..لما لا وقد هتف الآلاف منذ أيام بهذا النداء في السوشال ميديا، وقد تصدر هذا التريند مصر لثلاثة أيام متصلة، وهي رسالة يجب أن يعيها الأزهريون جيدا أن أي محاولات لفرض وصايتهم الدينية على المصريين سوف تؤدي لانتفاضة شهور وأعوام، وسوف يلاقوا مصير الإخوان، وحقا فالأزهر لا يحكم سياسيا من هذا الباب فالمقارنة قد تكون خاطئة..لكن تسرب الجماعات وفكر الإسلام السياسي مؤخرا للأزهر وكثرة اهتمامه وفتاويه ضد غير المحجبات ووصفهن بالعاصيات هو استفزاز له نتائجه، وكذلك أحلام البعض بتنصيب شيخ الأزهر زعيما دينيا وسياسيا سوف تعجل بسقوطه، وما درس عمر مكرم من المصريين ورجال الدين ببعيد..
صحيح لا توجد إحصائية تدل على شعبية الأزهر سياسيا ودينيا، وما نراه هي حملات منظمة وعشوائية على السوشال ميديا دفاعا وهجوما، لكن المؤكد أن الأزهر ليس مؤسسة سياسية أو تنظيما يستقطب أفراد وجماعات أو يحمل شعارات أيدلوجية جذابة لأحلام وتطلعات الشباب، وكافة مصادره المالية من الدولة خلافا للإخوان والسلفيين الذين تعددت مصادرهم المالية بدعم مالي هائل وكبير من دول ومتطوعين ، بالتالي شعبية الأزهر لن ترتقي بأي حال من الأحوال للإخوان المسلمين والجماعات، وبالنسبة للشعب الذي يعتقد أنه متدين وداعم للمؤسسة هو داعم أكبر وأهم للجيش، وإذا خُيّر المصريين بين الجيش والأزهر فلن يتردد، فالقوات المسلحة ليست مجرد مؤسسة أمنية مصرية ولكنها كيان شعبي وثقافي وسياسي وعسكري وديني يصنع توجهات الشعب، وما سيحدث – لا قدر الله – إذا حصلت تلك المواجهة سوف يحتشد المصريون ككرة الثلج خلف الضباط الذين أنقذوهم في السابق من الإخوان وعلى استعداد لإعادة الكرّة مع من يشبهوهم..
لست داعما لهذه المواجهة ولا أتمنى سقوط الأزهر فهو عندي مؤسسة تعليمية هامة جدا يجب أن تظل موجودة لمكافحة التطرف، وقد قلت قديما أن سبب أصيل لعدم تحول مصر إلى نموذج أفغانستان هو وجود هذه المؤسسة، فبرغم مما يخرج منها من متطرفين ومتعصبين بين الحينة والأخرى لكن الخط العام للأزهر ضد (العنف الديني) وضد (التكفير السياسي والعقائدي) وهذا الخط الموروث من الأئمة الأشاعرة فيما اصطلح عليه "بموانع التكفير" هو حلقة فقهية أصيلة من ميراث التسامح في الفكر الإسلامي، لكن الحفاظ على هذا الخط وتطويره يتطلب مكافحة المتعصبين داخل المؤسسة، وتعديل القوانين والدستور لمنع أي نوافذ وطرق تؤدي لتورط الأزهر في السياسة، وأن تتبنى الدولة مشروعا قوميا إصلاحيا بتحويل الأزهر إلى مؤسسة تعليمية محضة مثلما كان عليه في بداياته، مع دعم وتطبيق حرفي لمواد الحريات في الدستور..
سوف يشجع ذلك آلاف الفقهاء المستنيرين داخل المؤسسة على الاجتهاد والعمل على مكافحة التطرف الديني وتفكيك خطابه السياسي والاجتماعي، وسوف يشجع أيضا المثقفين على التواصل أكثر مع الأزهر وعقد المؤتمرات والتحالفات، سيكون الجوّ الاجتماعي والسياسي مفتوحا ينمو فيه الفكر العقلاني والتسامح الديني مما يعيد الأمل لعودة جوهر الإسلام على حقيقته الأولى التي سلبت منه بفعل السياسة، وسوف تتغير رؤية الأزهريين للحالة الكونية العامة للنقد الديني وبدلا من النظر إليها بعين المؤامرة والخوف، سينظرون إليها من باب الاحتواء والتنوع والتواصل مع أطرافها ونشطائها، وسينمو الجانب الروحاني والصوفي على سلوكيات العلماء من جديد، وسيعود الإيمان بالتعددية الفكرية كأساس للعمل المشترك..بحيث لا يكون هناك خوفا من أي دين أو مذهب أو فكر، بل سيجري النظر لكل هؤلاء كبشر لهم حق الاختلاف..لكن الجميع هو مُسيّر لنتيجة واحدة وهدف واحد هو (خدمة هذا الوطن وتنميته)...
الحوار المتمدن
إضافة تعليق جديد