ميشيل فوكو ومناهضة التاريخانية
خالد طحطح:
ولد ميشيل فوكو في مدينة بواتيه بفرنسا سنة 1926، لأسرة برجوازية ميسورة ذات توجه ديني كاثوليكي، وقد عرفت أسرته أجيالاً من الأطباء، وقد فاجأ فوكو الابن وسطه العائلي عندما أعلن أنه يرغب في أن يصبح مؤرخاً، وقد قُدِّر له أن يكون فيلسوفاً مهووساً بالتاريخ. وبالإمكان زمنياً رصد ثلاثة مستويات في التشكل الفكري لثقافة فوكو، حيث نقع أولاً على الفلسفة التي شكلت ولزمن طويل هويته الجامعية، إلا أنه وقبل ذلك أبدى ولزمن طويل، تعلقه بالتاريخ، ولقد تم التعرف عليه أخيراً بكونه مختصاً في العلوم الإنسانية، وسينتج عن هذا التنوع في التشكل مشروع كتابة تاريخ العلوم الإنسانية.
استطاع المثقف الصَّاعد نسج علاقات وطيدة مع عدد من المفكرين الفرنسيين، وعلى رأسهم: بيار بورديو، وبول فاين، وجون باسرون، كما ارتبط بعلاقة صداقة قوية مع لويس التوسير، وبتأثير منه انتسب إلى الحزب الشيوعي، وبقي فيه إلى عام 1952. كما تابع خلال هذه الفترة محاضرات الفيلسوف ميرلو بونتي، وكان يقرأ لهيغل بكثرة.
خلال الحقبة الممتدة بين 1952 و1955 وبعد انتهاء مرحلته الطلابية؛ بدأ حياته أستاذاً مساعداً في علم النفس في جامعة ليل، وكان يرتاد أحياناً الندوات التي يعدها جاك لاكان، واتسمت سنواته هذه أيضاً بالاكتشاف الكبير لأعمال نيتشه. ولم يشتهر هذا المثقف الباريسي إلا في العام 1961، وذلك بعد مناقشة أطروحته التي تناول فيها موضوع الجنون في جامعة السوربون. والتي استقبلت بحفاوة كبيرة من قِبَلِ: بارت، وبلانشو، وماندرو، وبروديل، فقد اعترف هؤلاء بأن تاريخ الجنون، هو كتاب قيم. وفي سياق إنتاجه سيظهر له كتاب: ولادة العيادة سنة 1963، وسيلتقي خلال هذه المرحلة بالفيلسوف جيل دولوز الذي سيصبح صديقه، وفي العام 1966 سيلْقَى كتابه الكلمات والأشياء نجاحاً باهراً، فهذا الكتاب الموسوم بموت الإنسان هو من سيضع فوكو في طليعة البنيويين، حيث تملص على مستوى الفكر والبحث من الصورة التقليدية التي سبق أن كَوَّنها الجيل السابق عن الإنسان، إذ تخلص بشكل كامل من ميراث متجذر يعود إلى فترة ما قبل القرن التاسع عشر، وهو ميراث ثقيل عُرف بنزعته المغرقة في الإنسانية. وفي العام 1966، وخلال إقامته بتونس من أجل التدريس، صدر له كتاب: أركيولوجيا المعرفة، وهو من الكتب التي نجد فيها صدى للعمل حول نيتشه والتاريخ، فعلى خطى الجينيالوجيا النيتشوية؛ قَوَّضَ فوكو البحث في العلية، وفي الأصول التاريخية. وهاجم -في أعماله- (التاريخانية)، و(التاريخ الشامل)، و(فلسفة التاريخ)، نظراً لما تعج به من المعاني الثيولوجية الهيغيلية والماركسية.
لقد استلهم فوكو تواريخه من نزعة نيتشية مناهضة للمثالية، ورافضة للخطابات الكلية التي تبحث عن التفكير في وحدة المتعدد، فلا يوجد فاعل أساسي وراء الفعل، كما لا يوجد نظام أساسي للتاريخ.
لقد جرى استثمار وتشغيل المناهضة النيتشوية لفلسفة التاريخ، تصوُّراً وتحقُّقاً، لدى ميشال فوكو، في أمكنة متعددة من تحليلاته، بغية التحرر من متاهات كرونوزوفيات فلسفات التاريخ، وبغية التخلص من منظومات من سماهم نيتشه: (عمّال الفلسفة)، من أمثال: كانط، وشوبنهاور، وستيورات، وسبنسر.. وبخاصة منهم هيغل. وهذا هو مقصد فوكو من قوله: (إن عصرنا كُلّه حاول -بكل الوسائل- أن يفلت من قبضة هيغل، سواء عن طريق المنطق، أو عن طريق الإبستمولوجيا، أو عن طريق ماركس، أو عن طريق نيتشه).
تبنى فوكو، في مقابل مفاهيم فلسفات التاريخ التي تتأسس على القول بالمسار والغائية والتقدم والعلية والقانون؛ منظوراً آخر للتاريخ، قائماً على اللاأصل، واللاقانون، واللامبدأ، واللاعقل، فالتاريخ -عنده- لا يخضع لعلاقات آلية؛ وإنما للمصادفات. لذلك فقد اهتم بالطارئ، والجديد، والراهن، والمتشظي، وبما هو حدثي، ووجه انتباهه إلى الانقطاعات الجذرية، رافعاً من شأن التصور القائل بالقطيعة الإبستيمولوجية، وبلا استمرارية الزمن، متيحاً بذلك، المجال لفلسفة الأحداث التي انشغل بفرادتها، لا بغائيتها، معتمداً، بالأساس على الأرشيف، ومقلصاً، إلى أبعد الحدود، من قيمة الذات الواعية التي تحمل وهم تحكمها في الزمن، فالتاريخ لن يكون البتة وصفاً لتطور ما، كما هو الحال في علوم البيولوجيا.
ووفق هذا المنظور، رحَّب فوكو بالتحول الإبستمولوجي الذي أنجزته مدرسة الحوليات في التاريخ، تلك التي ربطته بها قرابة كبيرة بمناهجها، وصلة موثوقة برموزها، وخصوصاً منهم (فرناند بروديل) الذي خصص مقالاً خاصاً لكتاب: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، نشره بمجلة الحوليات سنة 1962. وتبدو علاقة فوكو الوطيدة بهذه المدرسة التاريخية جلية في مقدمة كتابه: حفريات المعرفة، حيث اعتمد بوضوح التحليل التسلسلي الذي يتأسس على مفهوم الانفصالية، وضبط القطائع والشروخ الدالة، والتمييز بين الطبقات الزمنية. كان فوكو بالنسبة إلى بول فاين، صاحب ثورة كبرى في كتابة التاريخ.
كان هناك جهل كبير لدى الفلاسفة بحقول البحث البعيدة عن تخصصهم، ومنها التاريخ، الذي كان مهملاً في أبحاثهم. وبدورهم كان المؤرخون متوجسين من تناول الفلاسفة لموضوعاتهم، إلى أن قام الجيل الأول من مدرسة الحوليات بكسر هذا الطابو، بين الطرفين، وقد ساهم ميشيل فوكو بدوره في تحقيق نوع من التقارب بين حقلي الفلسفة والتاريخ، والأمر نفسه ينطبق على الفيلسوف بول ريكور الذي فتح نقاشاً واسعاً مع مدرسة الحوليات، وكان لافتاً احتفاء المؤرخين بكتابه: التاريخ، الذاكرة، النسيان، إذ استقبلوه بحفاوة بالغة، فأعماله تُعَدُّ الحدث الفكري الأكثر أهمية في قرننا، وتاريخيته تؤسس لفلسفة جديدة للممارسة تستلهم روحها من نيتشه، وتقطع بصفة حاسمة مع رواسب الهيغيلية والماركسية وفلسفات الوعي، وهذا ما نستشفه من دراساته حول تاريخ العيادة، وتاريخ الجنون، وتاريخ السجن والجنسانية.
إن التاريخ في ثوبه الجديد حسب ميشال فوكو (حررنا مما كان إلى عهد قريب يشكل فلسفة التاريخ، وتخلصنا من الأسئلة التي كانت تطرحها حول المعقولية والغائية اللتين تطبعان صيرورة التاريخ). والنتيجة خفوت أصوات كرونوزوفيات فلسفة التاريخ التي أصبحت غير مسموعة.
إضافة تعليق جديد