أسباب عفو الأسد عن جرائم الإرهاب
أول ما يمكن أن يُوصف به قرار/ مرسوم العفو الرئاسي، الذي أصدره الرئيس بشار الأسد، عن "الجرائم الإرهابية" التي وقعت في سورية خلال الحرب، أنه غير مسبوق في تاريخ البلد والمنطقة، وقليل أو نادر صدور مثله على مستوى العالم. وأرجو أني لا أبالغ في ذلك.
وقبل البدء، لا بد من الإشارة إلى ان النص يستخدم تعابير "العفو" و"الصفح" بمعان متقاربة، وهو يدرك أن لكل منهما جذور وافاق مختلفة للمعنى، وان قرار العفو أقرب لمعنى "الصفح"؛ وامل ان يحمل هذا النص تبريراً أو تفسيراً مناسباً لما أقوله!
جاء قرار العفو مفاجئاً ومتقدماً، فهو لا يشترط شيئاً تقريباً، لا توبة أو ندم، ولا عودة فورية إلى "حضن الوطن"، ولا مذكرة أو طلب، ولا مرافعة أو مراجعة لأي فرع أمن أو محكمة. ولم يترك القرارُ الأمر لتأويلات وتفسيرات البيروقراطية القضائية والشرطية وغيرها، التي عادة ما تُضيِّق المعنى، وتُضيِّق الأفق، وتُفرِّغ القرارات من معانيها، وقد تُحَوِّل الفرصة إلى تهديد.
وهذه ليست أول مرة يصدر فيها "عفو رئاسي" عام، لكنها المرة الأولى التي يصدر فيها "عفو" عن "الجرائم الإرهابية"، والمقصود بذلك الأعمال العسكرية أو شبه العسكرية المعارضة التي جرت في سياق الحرب. وإذ يستثني القرارُ الأعمال التي أفضت إلى قتل، فهذا أمر مفهوم، وقد لا يكون مقصوداً بذاته، الاستثناء هو تضييق "في عموم اللفظ"، بتعبير الفقهاء، لكنه إفساح "في خصوص السبب"، ذلك أن الباب مفتوح هنا على تأويل نشط للمعنى، يساعد في "التنصل" من "الشرط" إياه، لأي سبب من الأسباب.
فإذا توفرت النية والعزم على "التخلي عن السلاح"، فلن يعدم الأطراف إيجاد أسباب مخففة أو حتى التدخل القصدي على "الواقعة" من باب النظر إلى "النصف المناسب" من الكأس، وخاصة أن المصالحات والتسويات سبق أن أسقطت أي تهم أو ملاحقات قائمة أو محتملة تجاه من ينضوون فيها، بل أفسحت لمقاتلين سابقين أن ينخرطوا في الجيش أو التشكيلات الرديفة.
من المفترض بقرارات من هذا النوع، أن تكون "تتويجاً" لمداولات واتفاقات وتفاهمات بين الخصوم أو بين فواعل الحدث السوري، لكن ما حدث هو أن القرار جاء "من طرف واحد"، ولا نعلم يقيناً عن مداولات جرت بهذا الخصوص، بين أطراف سورية، من الحكومة والمعارضة، ولا عن تفاهمات بين دمشق وأي من فواعل الحدث الإقليمية والدولية.
لكن، إذا كان العفو عن الأفعال، فماذا عن الدوافع، وماذا عن التطلعات والرهانات، والأهداف والمقولات، هل هي محل أو موضوع للعفو أيضاً، هل يقع العفو على الفعل والفاعل، هل العفو ممحاة تمحو ما كان، من طرف واحد؟ وخاصة أن القرار أو الجهات الرسمية لم يذكروا شيئاً عن ذلك. وقد سبقت الإشارة إلى أن العفو لا يشترط مراجعة أو مثولاً أمام أحد، ولا تقديم طلب إلى أي جهة كانت. وماذا عن استجابة المُستَهدَفين بالقرار؟
إن المهم، بالنسبة للرئيس بشار الأسد اليوم، وهذا مجرد تقدير من قبل الكاتب، ليس ما كان عليه العائدون أو المعفو عنهم، ولا "أصول" أو "جذور" مواقفهم، ولا حتى قناعاتهم العميقة، وإنما "موقعهم" اليوم؛ ليس المهم أن يكونوا معه اليوم، وإنما "ألا يحملوا السلاح"، وألا يكونوا على "الجانب الاخر" من خطوط واصطفافات الحرب.
هذا أمر مهم لصانع سياسة، يرث عقوداً وقروناً من "حيل السياسة" في هذا المشرق الجميل. وكان والده الراحل حافظ الأسد قارئاً ممتازاً للتاريخ. ويُنقَل عن أحد أمراء الخليج قوله: "عندما كنا نلتقي الرئيس حافظ الأسد، كان نصف اللقاء عن تاريخ العرب وبلاد الشام، والدولتين الأموية والحمدانية، والنصف الاخر عن موضوع اللقاء والزيارة". لكن على من تلقي مزاميرك يا داوود!
ولا بد أن الرئيس بشار الأسد ورث واختبر وأضاف إلى ذلك، باعتبار خبرة الحرب المهولة التي طالت كل شيء في الظاهرة السورية. ومن كان يظن أن ما بدأ في العام 2011 سوف ينتهي إلى ما انتهى إليه، أو يظن أن النظام السياسي والدولة سوف يتجاوزان لحظات حرجة وصدوعاً تفوق قدرة أي بلد على تحملها. بكل الأهوال والماسي التي حلت به وبأهله.
اذا كان حامل السلاح والمقاتل محل "عفو"، فمن المقتضى أن ينسحب على المعارضة السياسية، ولو أن من الصعب تصور كيف يمكن أن يحدث ذلك. وخلافاً لقرار العفو عن حاملي السلاح، فقد لا يكون الموقف مع سياسيي المعارضة "ابتداء"، وإنما "تتويجاً" لتحول مقابل في القراءة والمقاربات لدى أولئك. ومن المفترض أن ينظر فواعل الحدث السوري لقرار العفو، بوصفه "تراسلاً" عالي النمط ينتظر تلقياً حسناً أو مناسباً، بوصفه فرصة للجميع، وخاصة لهذا البلد المشرقي الجميل الذي ناء أبناؤه بحرب ثقيلة تكاد تأخذ كل شيء منهم، وينتظرون الخلاص.
تساءلتُ في مقال سابق، عما إذا كان الرئيس بشار الأسد "يقرأ في كتاب جديد"، ويشكل مقاربات جديدة للحدث. وفي قرار العفو عن "الجرائم الإرهابية"، جانب من الجواب على السؤال. ما يفسر التغير في النمط، وفي الاستجابات. ومن المفترض أو المؤمل أن يساعد ذلك على "فك الانحباس" في الحدث، وحلحلة المواقف والسياسات، والتأسيس لمرحلة مختلفة في التعاطي مع حالة الحرب.
ان المهم بالنسبة لقارئ قرار العفو، وبالنسبة للسوريين، هو كيف يمكن "موضعته" في اتجاهات الحل/التسوية القائمة والمحتملة، وكيف يكون جزء من خطة سياسات كبرى مقبلة، وخاصة أن قراراً من هذا النوع، لا بد أن يكون جزء من مقاربة كلية، تغير النمط، وتغير المنظور، وتنفتح على تقديرات سياسية واستراتيجية جديدة في إدارة الحدث السوري، بكل ما يتطلبه ذلك من همة وإقدام على تجاوز إكراهات الظاهرة السورية اليوم.
وأخيراً
إن قرار العفو عن الخصوم والأعداء، الذين كانوا جزء من الحرب، تحت عناوين وتسميات كثيرة وقاتلة؛ هو قرار جريء وشجاع، ويقول لفواعل الحدث السوري والمهتمين به، إن الأسد مستعد للمضي في أي طريق يمكن أن يساعد في حلحلة الواقع، وتفكيك العُقَد، والتخفيف من تبعات وأحوال وأهوال الحرب.
وما ذلك على الله بعزيز!
عقيل سعيد محفوض - موقع لعبة الأمم
إضافة تعليق جديد