الرواقيون
كانت الصفة الأساسية للمفكر الرواقي الواسع الثقافة البالغ الفردية، هي الشجاعة في مواجهة القدر واحتمال الموت، ولكن هذه الشجاعة الزاهدة المتكبرة لم تكن من اختراع الفلاسفة الرواقيين، لقد عبروا عنها تعبيرًا عقليًّا. أمَّا جذورها فترجع إلى الأساطير القديمة وحكايات الأبطال وكلمات الحكماء والشعراء وكُتَّاب المسرح القدامى، وقرون من التفلسف سبقت ظهور المدرسة الرواقية، ولعل حادثةً واحدة هي التي أضفت على الشجاعة الرواقية قوتها الباقية، وهذه الحادثة هي موت سقراط؛ فقد كان موته بالنسبة للعالم القديم كله حقيقةً ورمزًا، كشف عن أصالة الموقف الإنساني في مواجهة القدر والموت، وعبَّر عن شجاعة استطاعت أن تؤكد الحياة؛ لأنها استطاعت أن تواجه الموت. لقد تغيَّر معنى الشجاعة القديم بموت سقراط؛ فلم تعد شجاعة البطولة كما كانت في الماضي، بل أصبحت شجاعة العقل والحكمة، واكتسبت معنًى ديموقراطيًّا يختلف عن معناها الأرستقراطي المرتبط بالفروسية والجندية؛ ولذلك استطاع الناس على اختلاف طبقاتهم أن يستمدُّوا منها العزاء الفلسفي الذي أعانهم على مواجهة كثير من الكوارث والتقلبات في العالم القديم.
عبَّر سنيكا الفيلسوف الروماني المشهور عن هذه الشجاعة في كتاباته خير تعبير، وبيَّن كيف يرتبط الخوف من الموت بالخوف من الحياة، كما ترتبط الشجاعة على احتمال الموت بالشجاعة على تقبُّل الحياة، إنه يتحدث عن «أولئك الذين لا يريدون أن يعيشوا ولا يعرفون كيف يموتون»، كما يتحدث عن غريزة الموت Libidp moriendo حديثًا يشبه ما يقوله عنها فرويد في الزمن الحديث، بل إنه يقترب من كثير مما يتكرر اليوم على ألسنتنا ويملأ صفحات جرائدنا وكتبنا حين يتكلم عن أناس يشعرون بأن الحياة سطحية وخالية من كل معنًى، ويرى ذلك نتيجة للاعتقاد في مبدأ اللذة، والسخط الدائم على النفس التي لا تستطيع تحقيق دوافعها؛ مما يؤدي بالضرورة إلى السأم واليأس والاشمئزاز، ولكن سنيكا قد عرف — كما عرف فرويد — أن العجز عن إثبات الحياة لا يعني القدرة على إثبات الموت، وأن الخوف من القدر والفزع من الموت قد يتسلطان أيضًا على الذين فقدوا إرادة الحياة، وإذا كُنَّا نجد الرواقيين يثنون على الانتحار، بل ويوصون به في بعض الأحيان، فهم لا يتجهون بهذا الرأي لمن قهرتهم الحياة، بل لمن انتصروا عليها، بحيث أصبحت لديهم القدرة على الاختيار الحر بين الموت والحياة؛ ولذلك فإن الانتحار الذي يمليه الخوف والهروب لا شأن له بالشجاعة التي يؤكدونها؛ لأنها في معناها الوجودي هي شجاعة الوجود، إنها الشجاعة التي تقوم على التحكم في العقل، ولكنهم لا يريدون بالعقل تلك القوة القادرة على التفكير والجدل، بل يريدون به «اللوجوس»، أو البناء المعقول للواقع بوجهٍ عام، وللعقل البشري بوجهٍ خاص، فإذا لم تكن هناك صفةٌ أخرى تتعلق بالإنسان بما هو إنسان غير العقل، فإن العقل — كما يقول سنيكا — سيكون هو الخير الوحيد الذي يملكه، وسيُساوي كل أنواع الخير الأخرى مجتمعة.
معنى هذا أن العقل هو طبيعة الإنسان الحقة، وهو جوهره الذي يُعَدُّ كل شيء عداه عرضًا، ومعناه أيضًا أن شجاعة الوجود هي شجاعة إثبات الطبيعة العاقلة لدى الإنسان تجاه كل ما هو عرضي فيه، ومن الواضح أن العقل هنا قريب مما نسميه اليوم بالشخصية، وأنه مركز كل القوى والملكات الذهنية والنفسية، وجزء من العقل الكلي الذي يشارك فيه الحكيم الرواقي بنصيب واف، يمكنه من تحمل الألم والارتفاع فوق الشهوات، ومواجهة القدر والموت؛ وإذن فشجاعة الوجود هي الشجاعة في إثبات طبيعتنا العاقلة، على الرغم من كل ما يتعارض معها أو يعوق اتحادها بالطبيعة العاقلة للوجود الكلي العام؛ ولذلك فهي تقهر الخوف من الموت بالصمود، وترتفع بالعقل والحكمة فوق الشهوة والرغبة، وتنتصر على الألم بالزهد والكبرياء.
هذا الصمود والانتصار، هذا التأكيد لوجود الإنسان الحق برغم كل المخاوف والشهوات، لا بد أن يخلق الفرح. إن سنيكا يحثُّ تلميذه لوسيللوس في رسائله الجميلة إليه «أن يتعلم كيف يفرح»، ولكن هذا الفرح الذي يريده له لا يمكن أن يأتي نتيجة تحقيق الرغبات (فالفرح الحقيقي شيء قاسٍ وعسير!) بل هو السعادة التي تحسها نفس «ارتفعت فوق جميع الظروف»، إنه التعبير العاطفي عن «نعم» شجاعة نتقبل بها وجودنا الحق ونثبته ونؤكده. وفي هذا الإثبات للوجود الذاتي الأصيل تتجمع الشجاعة والفرح، ويتحد الموت بالحياة، هناك يصل الإنسان إلى قمةٍ وحيدة ومخيفة؛ فلا تزعجه المخاوف ولا تتلفه اللذات، ولا يخشى من الموت ولا من الآلهة كما يقول سنيكا في تعبيره القاسي الجميل.
- عبد الغفار مكاوي
من كتاب «مدرسة الحكمة» (1967)
إضافة تعليق جديد