على العلمِ ألّا يحاول امتصاصَ الدين وطرق المعرفة الأخرى
أحمد زايد:
ذكَّرتني سيرةٌ ذاتيةٌ مثيرة عن “ستيفن هوكينج” بأيامِ العلم الخوالي الجيدة، أم أنها كانت أياماً سيئة؟، لا أستطيعُ الجزمَ، فأنا أتحدث عن التسعينيات في وقتٍ سادت فيه الغطرسة العلمية. كما يتذكر الصحفي “تشارلز سيف” في كتابه (Hawking Hawking: The Selling of a Scientific Celebrity)، أقنعنا هوكينج وغيره من الفيزيائيين أنهم على وشك الوصول إلي (نظرية كل شيء) التي من شأنها أن تَحُلَّ لغز الوجود وتكشفَ سبب وجود شيءٍ بدلاً من لا شيء (سبب وجود الوجود)، ولما هذا الشيء على ما هو عليه؟.
سألقي في هذا المقال نظرةً فاحصةً على ادّعاءٍ طموحٍ، وهو أن العلمَ سيمتصُ طُرقًا أخرى ترى العالم بمنظورها، بما في ذلك الفنون والعلوم الإنسانية والدين. لن تختفيَ بالضرورة أنماط المعرفة غير العلمية، لكنها ستصبح (متوافقة) مع العلم: مصدرنا الأسمى للحقيقة. أكثرُ العلماء بلاغةً في الدفاع عن هذا المنظور هو عالم الأحياء “إدوارد ويلسون” أحد أعظم كاتبي العلوم.
إدوارد ويلسون
في كتابه (Consilience: The Unity of Knowledge) الأكثر مبيعًا عام 1998، تنبّأ إدوارد ويلسون بأن العلِم سينتج عنه قريبًا نظرية مقنعة وكاملة عن الطبيعة، بما في ذلك الطبيعة البشرية، وأنَّ ”العلوم الإنسانية، بدءً من الفلسفة والتاريخ وصولًا إلى الأخلاق والدين والفنون، ستقترب أكثر من العلوم وتندمج معها بشكل جزئي“. يُسمّي ويلسون العملية هذه بـ: توحيد المعرفة أو (التقارب – Consilience)، وهو مصطلحٌ قديم يشير إلى أنَّ ربطَ المبادئ من مختلف التخصصات -خاصةً عند تكوين نظرية شاملة- سيحلُّ أزمة هويتنا القديمة، وسيساعدنا (التقارب) على فهم ”من نحن، ولماذا نحن هنا“، على حد تعبير ويلسون.
رفض ويلسون تحذيرات الفلاسفة من مغالطةِ المذهب الطبيعي (Naturalistic Fallacy) لإمكانية اشتقاق المبادئ الأخلاقية من الخصائص الطبيعية، وأصرَّ على أنه يمكننا استنتاج المبادئ الأخلاقية من العِلم. يمكن للعِلم أن يُسَلّطَ الضوء على دوافعنا وعواطفنا الأخلاقية، مثل حبنا لأولئك الذين يشاركوننا جيناتنا، فضلاً عن قدرة العلم على إعطائنا التوجيه الأخلاقي. يُعتَبَر ربط العلم بالأخلاق أمرًا بالغ الأهمية، لأن ويلسون يريدنا أن نشاركه رغبته في الحفاظ على الطبيعة بكل تنوعها، ويَعتبرُ هذا الهدف واجبًا أخلاقيًا علينا.
للوهلة الأولى قد تتساءل: من الذي يمكن أن يعترض على هذه الرؤية؟ ألن نحب جميعًا الاتفاق على رؤيةٍ شاملة للعالم؟، متّسقةٍ مع العلِم؟، تخبرنا كيف نتصرف بشكل فردي وجماعي؟ في واقع الأمر، يشارك العديد من العلماء ويلسون أمَله في دمج العلم مع طُرقٍ بديلة للتعامل مع الواقع. قام بعض المتحمسين بتكوين (مشروع التقارب – Consilience Project) المُكَرّس “لتطوير نظريات وتحليلات اجتماعية تشرح وتبحث عن حلول للتحديات الفريدة التي نواجهها اليوم“. في العام الماضي، كتب الشاعر والروائي “كلينت مارغريف” دفاعًا بليغًا عن (التقارب) أو توحيد المعرفة لمجلة (Quillette)، مشيرًا إلى أنه ”غالبًا ما كان يُستَمَد الإلهام الأدبي من العلِم“.
داعمٌ آخر لفكرة التقارب، هو عالم النفس من جامعة هارفارد “ستيفن بينكر”، الذي أشادَ بكتاب إدوارد ويلسون ”الممتاز“ عام 1998 ودعا إلى التقارب فيما بين العلم الطبيعي والعلوم الإنسانية في كتابه (Enlightenment Now) الأكثر مبيعًا لعام 2018. الفرق الرئيسي بين ويلسون وبينكر هو الأسلوب. يهاجم بينكر في كتابه أيضاً، فكرة النسبية العلمية التي يتبناها ”فلاسفة ما بعد الحداثة“ (الفكرة القائلة بأن العلم لا يصل إلى حقائق موضوعية عن العالم بل يصل إلى حقائق نسبية فقط تتغير مع كل عصر).
جاذبية فكرة (التقارب) الدائمة تجعل الأمر يستحق إعادة النظر فيه. تطرحُ فكرة (توحيد المعرفة) سؤالين كبيرين: هل توحيد المعرفة ممكن؟ ثم هل (التوحيد) مرغوبٌ فيه أساسًا؟.
أولًا: الإمكانية
كما يشير ويلسون، كانت الفيزياء موحِّدًا قويًا بشكل خاص، حيث أثبتت خلال القرون القليلة الماضية أن السماوات والأرض، أي (الكون)، مكونة من الأشياء نفسها: الكواركات والإلكترونات التي تحكمها نفس القوى. يبحث الفيزيائيون الآن عن نظريةٍ واحدةٍ تدمُجُ النسبية العامة، النظرية التي تصفُ إحدى قوى الطبيعة – الجاذبية، مع نظرية الكم، التي تفسر قوى الطبيعة الأخرى – الكهرومغناطيسية والقوى النووية القوية والضعيفة. هذه هي نظرية هوكينج عن كل شيء و هذه هي ”النظرية النهائية” لعالم الفيزياء “ستيفن واينبرج”.
توقّعَ عالمُ الأحياء “إدوارد ويلسون”، عام 1998، أن يجد الفيزيائيون نظرية لكل شيء قريبًا، لكنهم يبدون اليوم أبعدَ من أي وقت مضى عن هذا الهدف. والأسوأ من ذلك أنهم ما زالوا غير قادرين على الاتفاق على ما تعنيه (ميكانيكا الكم). كما أشار كاتب العلوم “فيليب بول” في كتابه (Beyond Weird: Why Everything You Thought You Knew about Quantum Physics Is Different) عام 2018، هناك تفسيرات لميكانيكا الكم الآن أكثر من أي وقت مضى مثل:
1) تفسير كوبنهاجن، 2) تفسير عديد العوالم، 3) تفسير دي برولي-بوم، 4) ميكانيكا الكم العلائقية، 5) ميكانيكا الكم البايزية، 6) تفسير التواريخ المتوافقة وغيرها.
وينطبق الشيء نفسه على المحاولات العلمية لسد الفجوة التفسيرية بين المادة والعقل (مشكلة العقل والجسد – لا أحد يعرف كيف تَخْلُقُ المادة اللاواعية [الدماغ] – وعياً). في التسعينيات، كان لا يزال ممكنًا أن يكتشف الباحثون كيف يمكن أن تولِّد العمليات الفيزيائية في الدماغ وعيًا. منذ ذلك الحين، تعرضت دراسات العقل والجسد (لانفجار في النماذج والمقاييس)، إذ تبنى العلماء والفلاسفة مجموعة متنوعة ومحيرة من الفرضيات والمقاييس النظرية -أو التوقعات- لحل مشكلة الوعي، بما في ذلك نماذج معتمدة على علم ميكانيكا الكم ونظرية المعلومات ورياضيات “بايز” (عالم الرياضيات ولاهوت في القرن الثامن عشر). يقترح بعض الباحثين أن الوعي يسود كل شيء، ويُعرف هذا الرأي بـ (الروحانية الشاملة). يُصِرُّ آخرون على أن ما يسمى بمشكلة الوعي الصعبة (The Hard Problem Of Consciousness) هي مشكلة زائفة، فحسبهم الوعي مجرد ”وهم“ ولا وجود حقيقي له.
حتى أن هناك انشقاقات داخل مجال علم الأحياء التطوري الخاص بويلسون. ففي كتابه (Consilience: The Unity Of Knowledge) يقترحُ أن الانتخاب الطبيعي يعزز السمات على مستوى القبائل والجماعات الأخرى؛ وربما أورثنا التطور ميلًا إلى الدين والحرب والسلوكيات الاجتماعية الأخرى، ولكن داروينيون بارزون آخرون، لا سيما “ريتشارد دوكينز” و”روبرت تريفيرز”، يرفضون فكرة الانتقاء الجماعي، بحجة أن الانتخاب الطبيعي يعمل فقط على مستوى الأفراد والجينات الفردية، ولا يعمل علي مستوى الجماعات والقبائل.
إذا لم يتمكن العلماء من تحقيق تقاربٍ أو توحيدٍ في مجالاتٍ محددةٍ كعلمِ الأحياءِ التطوري وعلم ميكانيكا الكم وعلم الوعي، فما الأمل الموجود -على سبيل المثال- في التوفيق بين نظرية الديناميكا اللونية الكمومية (النظرية الكمية التي تصف القوى النووية القوية) ونظرية “الكوير” (نظرية جنسية تفترض أن الهوية الجنسية مرنة ومتغيرة ولا يمكن حصرها فقط في ذكر وأثنى؛ أو في مغاير ومثلي). إذا كان توحيد المعرفة يستلزم وجود الإجماع، فإن العلم يبتعد عن توحيد المعرفة (التقارب).
لذلك، لا يبدو توحيد المعرفة ممكناً، على الأقل ليس في الوقت الحالي.
ثانيًا: هل توحيد المعرفة (التقارب) أمرٌ مرغوب فيه؟
رغم شكوكي في إمكانية حدوث ذلك، إلا أني اعتقدتُ ذات مرة بوجوب تحقيق التقارب، فإذا تمكنت البشرية من الاتفاق على وجهة نظر واحدة عقلانية للعالَم، فربما يمكننا القيام بعملٍ أفضل في حَلِّ مشاكلنا المشتركة، مثل تغير المناخ وعدم المساواة والأوبئة والنزاعات العسكرية. يمكننا أيضًا التخلص من الأفكار السيئة، مثل فكرة أن الله يفضل بعضنا على بعض؛ أو أن عدم المساواة العرقية والجنسية والحروب هي نتائج حتمية لبيولوجيتنا.
كما أني رأيت التنوع النظري، أو التعددية (Pluralism)، كما يسميها الفلاسفة، كعَرَضٍ من أعرَاض الفشل. إن وفرة (الحلول) لمشكلة العقل والجسد مثلاً، ككثرة العلاجات لمرض السرطان، إن هذه الوفرة تعني أن تلك الحلول ليست حلولاً مناسِبة. ولكني أرى، بالمقابل، أن (التعددية) شيءٌ ثمين وضروري يلائم توقنا للوصول إلى اليقين، فتظهر أهمية (التعددية) عندما يتعلق الأمر بأفكارنا حول من نحن، وما يمكن أن نكون، وما يجب أن نكون عليه.
يقر “ويلسون” أن مشروع (التقارب) أو توحيد المعرفة هو مشروع اختزالي سيقضي على العديد من الطرق المختلفة في (رؤية العالم). فكرْ في كيفية تعامل ويلسون مع التجارب الروحانية. في رأيي، تُشير هذه التجارب إلى غرابةٍ في الوجود لا يمكن وصفها، غرابةٌ تتجاوز كل معارفنا وكل طُرق التعبير عنها. وكما يقول الفيلسوف الكبير ومؤسس علم النفس الأمريكي “ويليام جيمس” في كتابه (The Varieties of Religious Experience) عن التجارب الروحانية الدينية: “يجب أن تمنع هذه التجارب الروحانية الإغلاق المبكر لحساباتنا مع الواقع“ (رأى ويليام جيمس أن التجارب الدينية الروحية نافذةٌ يرى المرء من خلالها عالمًا أكثر اتساعًا وشمولية يتجاوز العالم ”الفيزيائي“ الذي نعيش فيه).
“ويلسون” لا يتفق مع ذلك. ويعتقد أن التجارب الروحانية يمكن اختزالها في العمليات الفيسيولوجية في الدماغ. في كتابه (Consilience) يعزو هذه التجارب الروحانية إلى الآياهواسكا: وهو شاي مهلوس يتم تخميره من نباتين من الأمازون، ويحتوي هذا الشاي على مركبات كيميائية، بما في ذلك ثنائي ميثيل تريبتامين وهو مخدر قوي مثل تلك المخدرات التي تُحفّز الأحلام، والتي تنبع، على حد تعبير “ويلسون”، من ”تحرير المعلومات الموجودة في ذاكرة الدماغ“. يحاول الدماغ تجميع هذه الإفرازات العصبية العشوائية في ”روايات متماسكة“ نعيشها كأحلام.
بهذه الطريقة، يشرح “ويلسون” التجارب الروحانية بوساطة علم النفس والكيمياء العصبية. هذا مثال رائع لما يسميه الفيلسوف “بول فييرابند” -فيلسوفي المفضل والمدافع الشرس عن التعددية- بـ: (استبداد الحقيقة). يفرضُ “ويلسون” نظرته المادية والعلمانية على الوجود، ويُجرِّدُ الرؤى الروحانية من أي أهمية روحية حقيقية.
“إدوارد ويلسون” رجلٌ مهذب، ولكن مشروعه الوجداني ينبع من إيمانٍ مفرطٍ بالعلم أو العلمويّة. فكل من ويلسون وبينكر يتبنّى مصطلح العلموية، ولا شك في أنهما يعتقدان أن عبارة (الإيمان المفرط بالعلم) عبارة متناقضة؛ نظرًا للفشل في تحقيق الإجماع في الفيزياء والبيولوجيا – ناهيك عن أزمة التكرار (عدم حصول العلماء على نفس النتائج عند إعادة إجراء التجارب) والمشكلات الأخرى في العلوم الطبيعية. يجب أن يتوقف العلماء عن الانغماس في الأوهام حول تحقيق شيء يشبه (المعرفة المطلقة). باختصار، يجب أن يكون العلماء أكثر تواضعًا.
ومن المفارقات أن إدوارد ويلسون نفسه تساءل عن مدى صحة المعرفة النهائية في بداية حياته المهنية. في نهاية تحفته الفنية، كتاب (Sociobiology) عام 1975، توقّع ويلسون أن نظرية التطور إضافة إلى علم الوراثة سيمتصّان -قريبًا- العلوم الاجتماعية والإنسانية. لكن ويلسون لا يبتهج بهذا الاحتمال، فعندما نجيز تعريف أنفسنا ”بمصطلحات ميكانيكية طبيعية؛ سيكون صعبًا علينا تقَبُّل نتائج هذا الأمر“.
لا داعي لقلق ويلسون، فيبدو أن تحقق المعرفة العلمية المطلقة قل احتماله أكثر من أي وقت مضى، والبشر متنوعون للغاية ومبدعون، ولم ولن يقبلوا بالتسليم لـ: (رؤية واحدة/منظور واحد للعالم) من أي نوع. وبإلهامٍ من الروحية والفنون، وكذلك بالعلم، سنستمر في الجدل حول الأشياء إلى الأبد. هل التقارب فكرة سيئة وسنغدو أفضل حالاً من دونها؟، لن أذهب إلى هذا الحد. يمكن أن يكون (حلم المعرفة الكاملة) بمثابة دافع مفيد لشحذ الخيال، ما دمنا نراه نموذجًا لا يمكن الوصول إليه. دعونا نأمل فقط ألَا نعتقد أننا قد وصلنا إليه!.
المحطة
إضافة تعليق جديد