09-12-2020
مستقبلنا النيتشوي
- بول أُو. ماهوني ـ ترجمة: محمد حاذور
بين طيَّات كتابات نيتشه تصريحات متكررة مفادها أنه "سابق لأوانه" وُلد بزمن غير زمنه، معرباً عن قناعته بأنه سيولد بعد موته، مدعياً أن قلة في زمنه لديه آذان للإصغاء إليه، وأنه معولاً بثقته على الأجيال القادمة لفهمه، مبيناً أن هذه الأجيال هي الجمهور الواعد. وفي مقابل هذه التصريحات، يمضي تنبؤه بأن يوماً ما سوف يقترن اسمه بأزمةٍ غير مسبوقة في تاريخ البشرية. يبدو أن نيتشه يشير إلى أن عمله قد يساعد في دفع أخطر مراحل هذه الأزمة، إذ يُموضع نفسه أيضاً بوصفه مرشداً للبشرية خلال وما بعد الإضطرابات القادمة.
ما هي طبيعة هذه الأزمة المتوقعة؟
أعتقد أن أغلب القراءة الشائعة لها تمثل سوء فهم أو استخفاف بطبيعتها ونطاقها. الفكرة الشائعة هذه، هي أن نيتشه يتحدث عن التآكل التدريجي بين البشر من إيماننا بأي قيم مُلزِمة ومتسامية. تتجلى في ذلك النهج على سبيل المثال لا الحصر، تراجع الإيمان الديني. بدون الإيمان الأساسي بالجزاء الإلهي لأنظمة الأخلاق البشرية، وبدون الإيمان بمكافأةٍ وراء سلوكنا في حياتنا الوجيزة هذه، تصبح فكرة أن حياة المرء وأفعاله (جهوده ومعاناته خصوصاً) ذات مغزى أكثر صعوبة في تقبلها. والنتيجة هي العدمية: التخلي ليس عن المعتقد الديني فقط وإنما أيضاً عن القناعات الراسخة للعصور القديمة التي من شأنها تواصل نُمو المجتمع الذي ينتمي إليه المرء، وقد توفر له نهاية ملائمة لسلوكه.
يمكن القول بدون شك أن هذه السلالة من العدمية قد انتشرت، وبمقدور المرء أن يدرك هذا التخلي الجمعي عن القيم الموروثة قد بدأ بالفعل في زمن نيتشه-كما أقر. في الحقيقة، كان نيتشه هو أكثر المؤرخين ذكاءً لهذا التوعّك/المرض، وتفاقمه. لكن، يحتاج المرء ببساطة إلى قراءة بعض من تشخيصات وتنبؤات نيتشه لذلك، لإدراك أن ما يصفه هو عملية محتومة إلى حدٍ ما، بالتالي هو مستقل عنها بطريقة أو بأخرى.
من الممكن اعتبار نيتشه اليوم، سبباً لضمور وخفوت العقيدة الدينية في الغرب، لكن بعد قراءة كتاباته الخاصة عن هذا الموضوع، قد تكتشف بشكل جلي أن تلك العملية كانت ستستمر على أية حال، دون مساهماته بذلك. ما يعني أن المرء قد يتفق مع تأكيد معروف من دفتر ملاحظاته (الإرادة إلى القوة، مقدمة 2) أنه في صعود العدمية، كانت الضرورة نفسها في العمل. لكنَّ تراجع الإيمان البشري بالقيم المتسامية هو مجرد تمهيد. إن الأزمة الحقيقية التي تلوح في الأفق والتي درب نيتشه عينيه كثيراً عليها، هي أكثر تحطيماً
"لا توجد إرادة حرة: إلا بالقوة"
يُشار إلى طبيعة الأزمة المتوقعة من خلال قناعة تم التعبير عنها طوال كتابة نيتشه: عدم إيمانه المطلق بحرية الإرادة البشرية. على الرغم من أن الطبيعة الدقيقة لعدم إيمانه بحرية الإنسان تخضع للنقاش، ما هو مؤكَّد، أن نيتشه لم يتصور أن البشر بأي حال من الأحوال هم آلات حُرَّة، مسؤولون عن سلوكهم وأفعالهم. إن أفكارنا وإدراكنا هي وظائف لعمليات أعمق تفُوق إدراكنا، وحرية إرادتنا هي بِدعة. توجد أشكال مختلفة من رفض أو إنكار الإرادة الحُرة، ويمكن دعم العديد منها في كتابات نيتشه، ولكن أياً منها لا يسمح بمفهوم الحرية جوهرياً بما يكفي لمنحنا المسؤولية عن خياراتنا وأفعالنا. دعونا هنا نلقي نظرة على ثلاثة أصناف يسهل فهمها مجملاً بدون الاستعانة بدربة فلسفية أو قراءة نيتشه على الإطلاق، وأكثر من المحتمل أنها حدثت وتأمل فيها من قبل أي إنسان ذكي بشكل عقلاني.
أولاً: نلحظ ببساطة أنه ليس بمقدورنا أن نكون مسؤولين عن من نحن، لأننا لا نملك قولاً في بِنيتنا/شكلنا. وغير مسؤولين عن جيناتنا، أو بايلوجيَّتنا، أو الكيمياء الحيوية، أو مَهام المخ، أو البِيئة التكوينية التي نُولد وننمو فيها. ولأن هذه العوامل عميقة جداً، فهي تسير بشكل أعمق نحو جعلنا من النوع الذي نحن عليه، مع الرغبات وعمليات التفكير التي نمتلكها، ليس بمقدرتنا أن نقول بصورة واقعية، إننا مسؤولون عن اختياراتنا وأفعالنا. يعتقد "جالِن سِتراوسُن" أن ذلك هو موقف نيتشه، وهو مؤيد لنفس الموقف. يُلخّص هذه النقطة بالقول، إننا لا نستطيع أن نخلق أنفسنا. توضح هذه الدراسة، أن أشهر دراسة تطوُّرِيَّة وطويلة الأمد في العالم، هي دراسة "دُنيدن" أظهرت أن التحكم في التقلبات، مثل الطبقة الاجتماعية، وضعف التحكم في الإندفاع في مرحلة الطفولة، هي أكثر المؤشرات الموثوقة للنتائج السيئة في الصحة والثروة والجريمة في مرحلة البلوغ. تُشير الدراسة إلى أن البحث الراهِن يؤكد، كيف تلعب العوامل الوراثية ومَهام الدماغ أدواراً بالغة الأهمية في التحكم في الإندفاع-وكلاهما خارج نطاق الشخص الطبيعي الذي لم يخلق نفسه.
ثانياً: التصور المسرُود بذكاء عن افتقارنا للحرية، يستند إلى تأكيد نيتشه، على أن الجسد هو الذات. بعبارة أخرى، إن العمليات الفسيولوجية (رغم فهمها بشكل سطحي) تحتوي على أو تحدد الشخصية البشرية بشكل تام. ومن وجهة النظر هذه، فإن الوعي ببساطة هو مَهام للعمليات البايلوجية وهي خارجة عن سيطرتنا. قد يجد هذا الزّعْم دعماً في بعض الأبحاث الحديثة. مثلاً، تدعم الأدلة التجريبية أن فكرة طُفيل "التكسوبلازما"¹ الشائع، ربما يحبس خطورة النفور من استضافته. بسياق آخر، إن استضافة هذا الطفيلي، يجعل الناس أكثر ميلاً نحو المخاطرة بشكل أكبر.
ما هو أكثر تداولاً، هو الأدلة المتواصلة عن أن بكتيريا الأمعاء تلعب دوراً في تنظيم المزاج، وتحدد شهيتنا تجاه الطعام. يبدو أن هذا البحث في فسيولوجيتنا، يُقوّض إمكانية الإرادة الحرة. البكتيريا أو الطفيليات التي نستضيفها تحدد سلوكنا ومزاجيتنا، أيضاً حياتنا ومعتقداتنا، حتى حينما نعتز بفكرة أننا بأنفسنا نحدد مصائرنا. وقد اقترحت آخر الأبحاث الحديثة، أن الدلالة الأكبر على إنسانيتنا ووعينا قد تكون مُحصّلة لربط الشيفرة الجينية لفيروس "Arc" بالجينوم البشري منذ زمن بعيد.
1. التكسوبلازما: بكتيريا أو مرض يصيب القطط وهو معدي وتنفر منه النساء خصوصاً الحوامل لما يسببه من اجهاض (المترجم)
الموقف الثالث والأخير والأقوى الذي يُحجِّم حرية الإنسان هو "الحتمية الكونية" تبدأ الحجة بافتراض أن كل أثر مادي ينبغي أن يكون له سبب مادي، وأننا البشر كوننا ماديين بأجسادنا، نخضع لهذه القاعدة. لا يمكن إعفاؤنا من السبب والنتيجة في العالم المادي. لذا، إن كل ما نقوم به أو ما نعتقده هو نتيجة لأسباب مادية/جسدية سابقة، وآثار الأسباب نفسها، ما زالت في وقت سابق تعود إلى بداية الزمن.
هذا شكل مادي عميق من الحتمية، وربما هذا الشكل التقليدي، كان أكثر قلقاً للفلسفة. ( تصادف أنني أعتقد أن نيتشه يؤيد هذا الموقف الأخير والأقوى، على الرغم من كراهيته للرؤى "الآلية" المبتذلة للكون التي ينطوي عليها، وانتقاداته لمفاهيم السبب والنتيجة، فهو في النهاية حتمية كونية.)
والتسليم لأي من هذه المواقف يعني على الإنسان أن يتخلى عن حرية الإرادة، وبالتالي المسؤولية الأخلاقية. أياً من مفاهيم الفضيلة أو نقيضها، العدالة أو الظلم، ينبغي أن تُزهَد. لم يعد بإمكان المرء تحميل أي فرد المسؤولية الجنائية. كذلك لا يمكن للمرء أن يلتزم بأية فكرة عن التسلسل الهرمي للقيمة استناداً إلى أفكار "نبيلة" أو "ذميمة"، لأنه لا يمكن تحميل أي شخص سواء كان نبيلاً أم ذميماً، مسؤولية أفعالهم. أعتقد أن نيتشه لم يحل هذه المعضلة، إنها الدودة في صميم نظامه.
يُحكَم على فلسفته العملية أنها غير متماسكة أو غير متِّسقة. على أية حال، إن النقطة الحاسمة هي أن نيتشه يتنبأ بمجيء حقبة يصبح فيها المفهوم التقليدي لموضوع حرية الإنسان المسؤول عن نفسه وعن الآخرين، غير قابلة للتطبيق ببساطة، وهي سُخرية من بقايا الزمن الغابر.
"ماتت الحرية ونحن من قتلها"
دعونا نفترض أن إحدى الحالتين التاليتين تحصل في نقطة ليست ببعيدة جداً في المستقبل: إما أن يتم تقديم دليل علمي نهائي على عدم واقعية الاختيار البشري، أو أنه على الرغم من أن الدليل القاطع على هذه الحقيقة لم يصل حتى الآن للأدلة المقترحة.
في كلتا الحالتين، ينبغي نبذ أفكار حرية الإنسان والمسؤولية الأخلاقية من قِبل أي شخص نزيه ورصين والذي يفحص البراهين أو الأدلة. تخيل بعد ذلك، أن هذه هي الحكمة التقليدية، والتي تنتشر بشكل لا يُقاوَم حتى تتأقلم الفكرة مع الإنسانية، مما يفرض علينا اعتباراً جديداً وغير مسبوق مع طبيعتنا. فقط في هذا التصور، بدأ المرء في تأمل وتوقع الأزمة التي توقعها نيتشه، متصوراً أنها سترتبط باسمه.
إن العالم الذي أصبحت فيه الأفكار الحتمية مبادئ أخلاقية، تؤمن بها وتعيشها الغالبية العظمى من الناس، تحدد أبعاد أزمة نيتشه. هنا، الاعتقاد بأن الإنسان لا يُمكن محاسبته بصورة واقعية على أفعاله، هو المعيار. سيكون عالماً غير مكترث لمفهوم المسؤولية الجنائية/الإجرامية، ولم يعد من الممكن توجيه الانتقاد أو التقدير. إن المَهمَّة التي تُجابه البشرية ككل هي أن تتصارع مع عواقب هذه الحكمة التقليدية الجديدة وأن تحسب عواقبها بدقة. هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن البشرية التي تواجه هذا التفنيد لأوهامها العزيزة والمستدامة ستدمر نفسها في نهاية المطاف.
ما الذي ينبغي فعله إذا أرادت البشرية أن تبقى على قيد الحياة في عصر نيتشه، حيث تم التخلي عن الإيمان بحرية الإرادة؟
"مستقبل الفلسفة"
ما من شكٍ إن التخلي عن فكرة الحرية سيُمثل تحطيماً لا رجعة فيه للبشرية كما هو مفهوم تقليدياً، مما يؤدي إلى نوع من الاختلال في جنسنا البشري. إن مثل هذا التخلي ربما يكون أمراً لا مفر منه، والإيمان بالحرية لا يمكن استرداده، إنما لايمكن تخيله على الإطلاق.
كيف يمكن للمرء أن يقود نفسه في مثل هذه البيئة المضطربة؟
ينبغي أولاً أن يُقال، بالرغم من أن هذا السيناريو المستقبلي قد يبدو محفزاً لليأس، فمن المرجَّح أيضاً بعد فترة من التكيف، أن يكون دافعاً للتحرر-من المسؤولية ومن التسلسل الهرمي ومن الخوف. والذي لا يخاف، أكثر استعداداً على فعلٍ ما. في المستقبل سيأتي العديد من البشر بشكل متخلف لامتلاك مأثرتي نيتشه "الجرأة والصدق" والتي من شأنها أن تميزهم كأنواع سامية. إن أي سلوك أو فعل لن يُقدِّر اختياراتهم، أو يستحق الثناء أو الجدارة، سيزيد فقط من الشعور بالخوف والالتزام.
في ظل هذه الظروف، سيكون المفهوم المناسب للحياة هو لعبة: قطعة مسرحية كبيرة ومستمرة وشاملة وغير هادفة.
إن الكون بوصفه لعبة "مَجازياً" كان نيتشه مغرماً به.
إن النظر للكون على أنه لعبة، هو بالضبط نوع رؤية الله بالعين المناسبة للفيلسوف، والذي بدوره ينظر إلى الخلق من وجهة نظر إلى ما وراء الخير والشر. الفكرة إلى جانب الفكرة التي تقول بأنه ليس بالحقيقة بل بالوهم نواصل الحياة، بارزة في كتابات نيتشه المبكرة غير المنشورة عام 1870، على سبيل المثال في مقالته "الفلسفة في العصر المأساوي الإغريق، كتابه الفلسفي-فيما بعد"، تتكرر الفكرتان أيضاً بشكل واضح في عمله الناضج "ما وراء الخير والشر 1886"، والذي يسميه "مقدمة لفلسفة المستقبل". إنها أقل مما قد يتصوره المرء عند التأمل في دور الفيلسوف الاحتمالي تجاه العالم المستقبلي الخالي من الحرية، فإن نيتشه، العدو الأكبر للمسيحيين، يضع بشكل كبير تقديره للطبيعة الدينية المخلصة/الصادقة-الغريزة المُحافظة للزعيم الديني أو المؤسس. من غير المفاجئ حتى الفيلسوف المستقبلي، وعلى عكس الصورة النمطية، ليس عبداً للحقيقة أو حتى خادماً لها، بل هو أقرب إلى الفنان. إن الطبيعة الدينية بالطبع مُتضمنة بين أعلى مراتب الفنان، وفيلسوف المستقبل، سيستخدم أياً من الآثار القدسية/الدينية، التي لا تزال تُحيط بمعاصريه، والروحية الدينية بشكل عام.
ينبغي لفيلسوف المستقبل أن يتحرك نحو عالم أهلكت فيه المعرفة لينشرها ويجعلها أكثر قبولاً، ذلك أنه لم يعد مستودعاً لحكمة خطيرة أو لا يمكن تحملها كما كان تقليديا. يقول نيتشه أنه سيكون مُختبِراً ومغرياً بين الناس، وكيف يمكن للواقع أن يكون خلاف ذلك، عندما يتعين عليه أن يتنافس مع الغاوين ووعودهم الجوفاء، لأن هذه، هي الطريقة التي تصور الحياة على أنها لعبة، بشكل فردي وجمعي، ساذجة وبلا هدف، تميل نحو النظام. ستظهر الرؤى المتنافسة، والتأويلات المتنافسة، والأشكال التنافسية في اللعبة، أو حتى الفرص لقضاء وقت قصير في اللعب، لا أحد منهم يدعي أنه شيء ما، سوى أنهم واهمون.
لا يوجد سبب لعدم تعايش عدد كبير من أشكال اللعبة، بعضهم قد يكون مُستجداً، وآخرون إدراكهم بدائي/رجعي. يمكن للمرء أن يتصور مجموعةً تتجمع معاً لعبادة "أودين" والعيش مثل الفايكنج، واعية تماماً لكنها ملتزمة بهذا الادعاء-ولكن لا يوجد ادعاء لديه شرعية أكثر أو أقل من أي شيء آخر.
إذا حدث العنف بين جماعة وأخرى، فسيكون هذا في حد ذاته شكلاً من أشكال اللعبة: الحرب بوصفها لعبة، تجربة في الحياة، وينبغي للتجربة أن تكون.
يفترض على فيلسوف المستقبل أن يقف في زمن نيتشه بوصفه مُعضِّداً لنسخة فاتنة من اللعبة، واصفاً قصة أو رؤية تُجبر على الطاعة، وفيما سيبدو بالتأكيد في ذلك الوقت المستقبلي إلى حد ما لغة ظلامية/رجعية. الحياة المتخيلة بوصفها لعبة، يمكن اقتراحها للمرء بجذْبهِ "اختر وهمك".
اختر أن العلم الكامل ليس سوى وهم، واعياً تماماً أنك لست حراً بالاختيار في الواقع على أية حال.
فلسفة المستقبل تقول: بعد الاستسلام للعبة، والتخلي عن الإستياء، وتبني أو رفض المواقف كما يحلو لك، وعبور هذا الوجود الوجيز والتعامل مع مغادرتك منه بخفة، مدركاً أنه لديك جوهر إرادة الضوء المشع الذي يحوم في الليل.
"مستقبلنا المُحتَمَل"
لم نتوصل بالطبع إلى أزمة نيتشه أو حتى نُقدِّر حقيقتها. من المرجح حقاً أنه، بالنسبة للبصيرة والعقول البدائية في أوائل القرن الواحد والعشرين، المتشبثة بوهم الإرادة الحرة والخرافات الأخرى مثل هدف أو قيمة الحقيقة، يبدو مستقبلاً وحشياً. ومع ذلك، فإن جميع اتجاهات العلوم في القرون القليلة الماضية كانت تميل لتقويض المفاهيم التقليدية للحرية والقوة بدلاً من تعزيزها، وقد اعترف عدد غير قليل من الفلاسفة-عموماً بشكل رزن-أن بعض أشكال الحتمية، ربما تكون حقيقية على الأرجح.
كتب نيتشه تقريباً في نهاية القرن التاسع العشر، يؤكد فيها، أنه يسجل تاريخ المائتي سنة القادمة، فسيكون ذلك في نهاية القرن الحالي، (في حال إذا كانت هناك أرض صالحة للجنس البشري)، فإن التقدم بمعرفتنا بحاجة للمرور بعصر نيتشه فيما يخص التخلي عن عقيدة الحرية، ومجيء اللعبة الكبيرة.
ربما نبدأ التفكير في هذا المستقبل من خلال ترقيمه من بين المخاطر الوجودية للبشرية. لأن فقدان أوهامنا المستدامة قد يحفز تدميرنا بالفعل. من تلك البداية المثيرة للقلق، يمكننا أن نتوصّل بالعودة إلى نيتشه، والذي لا يقدم نفسه-نبياً فقط-بعد كل شي، إنما مرشداً لمن له أذن صاغية.
إضافة تعليق جديد