مذكرات رجل أسود في أدغال البيض
تقديم
زار القس الزائيري "مافوميلوسا ماكانزو" ( 56سنة ) ، الولايات المتحدة وكندا والعديد من الدول الأوروبية الغربية في ابتعاث من قبل الكنيسة ، وذلك لأول مرة في حياته في رحلة متواصلة استمرت من مارس 2000 الى سبتمبر 2005م .
فيما يلي مختارات مترجمة ـ عن الإنجليزية ـ لبعض ملاحظاته ووصاياه التي كان يدونها قبل نومه في كل ليلة باللغة الفرنسية ، والتي طبعها في كتاب شيق فور عودته الى بلاده بعنوان : Black Man in White People Jungles.
يقول في مقدمة الكتاب : لم تكن لدي نية في طبع وتوزيع مذكراتي، لكن كثرة تساؤلات الأصدقاء والناس عن رحلتي ومشاهداتي حثني على إصدار هذا الكتاب .
1
البيض هم ناس يتكلمون ، ويركضون ، ويفكرون ، ويخترعون ، ويقلقون. لكنهم لا ينصتون ، فما أن تتحدث الى أحدهم وقبل أن تنتهي من جملتك ومن عرض فكرتك ، حتى يقاطعك موجهاً سؤلاً . . ثم يجيب عنه بنفسه في جملة تالية . وخلال كلامك معه ، ينظر إلى عينيك مباشرة . وإذا ما حاولت منعه من قطع حديثك ومن طرح الأسئلة قبل أن تنتهي مما تريد قوله ، يغلبه النعاس ويبدأ يتثاءب .
هؤلاء البيض ،في حقيقة الأمر، يتكلمون ولا ينصتون ، لأنهم يخشون الإنصات الذي يعتبرونه ضرباً من تضييع الوقت . . نحن السود أحيانا لا نتكلم ، لكننا نغني ، ونصغي كثيراً للأشياء التي حولنا .
2
يحب الرجل الأبيض كل ما هو "حلو" و "لطيف" ؛ فهو يأكل الكثير من الحلوى : البونبون السكاكر، الجاتوه ، الشيكولاتة . حتى أنه يضع على بعض أكلاته المطبوخة من الخضار واللحم صلصة الكاتشب المُسَكّرة .
وهو أيضاً يحب الكلاب والقطط ، ويظل طوال اليوم يتحسس فروة ظهورها كي يبقى في يده الملمس الناعم دائماً . إنه يحب كل ما هو أملس وناعم . ولهذا السبب تجده دائماً يناضل ضد الغبار كي لا يغطي نعومة الأثاث في بيته .
وهو ،إمعاناً في ذلك، يحب ملامسة المرأة الناعمة ذات البشرة المغطاة بزغب حريري خفيف حيث يحلو له تحسس جسدها طوال الوقت . . وهذا ليس له علاقة بالاشتهاء الجسدي لديه ،كما أظن ، ولكنه ضرب من تهييج أيروتيكي خفي يغذي به حياته الخشنة الجافة .
3
منذ الصباح حتى المساء ، بل لأربع وعشرين ساعة ، يظل البيض يبحثون عما هو "جميل" و "رائع" .. الجمال لديهم هاجس وملاريا ساكنة في دمائهم . . ترتعد النساء من تقدم العمر ، ويفعلن ما لا يتصوره إبليس ليكن جميلات ، فيضيعن وقتاً هائلاً في العناية بالشعروالبشرة والجسم . ويركبهن الخوف عندما تظهر عليهن علامات البدانة ، لهذا تجدهن يشترين الآت من كل نوع وشكل لإزالة الكرش وشد الأثداء وتحجيم الإليتين . . إنهم يصرفون أوقاتاً طويلة في الحديث عن المرأة الجميلة ذات الجسد المثير ، وبالمقابل عن الرجل الوسيم ذو الجسد المتناسق . . كذلك يفعلون عن السيارة الجميلة ، الزهرة الجميلة ، الفستان الجميل ، الصوت الجميل ، البيت الجميل والمنظر الجميل . . إنهم يرددون في اليوم والليلة عشرات المرات عبارات : أوووو جميل . . أوووو رائع .
وعندما يجدون أشياء غير جميلة ، فإنهم يتحايلون وينطقون جملاً مركبة تتكرر فيها كلمة "جميل" عدة مرات ، حتى يغطون على القبح الظاهر ، مثلاً لو رأى أحدهم مرمى نفايات قذر فإنه يبادر بالقول : سيكون جميلاً لو نقلوا هذا من هنا . . وأحياناً قد يشم أحدهم رائحة كريهة فيقول : كم هو جميل لو يستنشق الواحد في هذه اللحظة عطر جاز،إيف سان لوران.
4
البيض أناس دائماً في عجلة من أمرهم . . أمورهم الجميلة بالطبع . فإذا كنت في الشارع وضاع منك شيء أو كنت تبحث عن شيء ، فسوف تظل تثير الضجيج وحيداً ، لأن كل من تراهم ويرونك مستعجلون ولا فرصة لديهم للتوقف وإرشادك عن ضالتك لأن هذا يضيع وقتهم . إنهم دائماً مستعجلون ، الى درجة أن لا وقت عندهم لينطقوا إسمك كاملاً . فإذا كان إسمك إدوارد ينادونك "إيدي" وجيمس ينادونه "جيمي" وكريستوفر "كريس" . . أنا شخصياً كانوا يختصرون إسمي الى " الأب ماف " . . كذلك أي مسمى يتكون من كلمتين أو ثلاث ، مثل أسماء الشركات أو ماركات الأجهزة ، يختصرونه بالإشارة إليه بالأحرف الأولى مثل " ترانس وورلد إيرلينز ، تصبح تي دبليو أيه ، وأجهزة جنرال إلكتريك تصبح "جي إي" . . وهكذا . . أتعجب إذ أننا نحن السود نتلذذ بنطق المسميات الطويلة بكامل حروفها في كل مرة . . ونمطمط شفاهنا الغليظة الجميلة في نطق الكلام كاملاً . . يبدو أن العدوى قد أصابتني في نعت شفاهنا بالجميلة .. على أية حال هم يعيشون بإيقاع السرعة وأوهموا العالم بمقولة عصر السرعة، وراحوا يبثون إعلانات الإغراء : أشعل المصباح بسرعة فقط بكبسة زر . أطبخ الطعام بسرعة فقط بوضعه في الميكرويف. أصعد العمارة بسرعة فقط بركوب المصعد وبكبس الزر . لا تجعل الأبواب المغلقة تؤخرك فقط قف أمامها وستنفتح .لا تضيع وقت في غلي الماء فقط أفتح الصنبور الأيسر ليعطيك ماء ساخناً .
ووصل هوسهم بالسرعة حد لا يمكن تخيله ، مثلاً ، راحوا يروجون لتسريع الحصول على النشوة والحيوية وما الى ذلك من أمور حسية .
لا ترقص بطيئاً حتى لا تفقد حيويتك ، ضع موسيقى البوب لكي ترقص سريعاً ، إنها الموسيقى التي تتوافق مع إيقاع عضلاتك .
حين تتأخر نساءهم في الولادة فإنهم يعطونهن حقناً لتسريع الولادة ، وإذا تأخر الجنين عن الخروج فإنهم يسرعون خروجه بأن يشقون بطن أمه و يشفطونه بالجفط .
نحن في أفريقيا نعشق البطء والروية ، فما زال هناك متسع لكل شيء . القيامة ليست غداً على كل حال .
5
يكشف البيض ـ دون وعي ـ عن حبهم للإستحواذ والتملك ، فهم لا يضيعون وقتهم في الذهاب لرؤية الأشياء في أماكنها الطبيعية وعلى مهل ، بل يحاولون إقتناء الدنيا كلها داخل بيوتهم . . لذلك تجد في بيوتهم الزهور والنباتات الحية والمتسلقة على الجدران والمجففة والمصنوعة من البلاستيك أيضاً . وفوق ذلك تجد لوحات للأشجار معلقة على جدرانهم . . وأتعجب : أليست هذه الأشياء موجودة في الخارج في الحقل والغابة والحديقة ، ولكن يبدو أن المدن التي بنوها وفرحوا بها أبعدتهم عن الطبيعة وعن مواطنهم الحقيقية . . إنهم مساكين ، محرومون . وهم كذلك يعلقون على حوائطهم صوراً فوتوغرافية لناس من كل الأجناس ، ويضعون أسماك حية في صناديق زجاجية وطيوراً محبوسة في أقفاص ومجسمات لحيوانات أخرى منحوتة و أحياناً يحتفظون بحشرات محنطة : أم أربعة وأربعين وضفادع وفئران وفراشات في إطارات ، وماء ينطلق من نوافير صناعية ، وكلاباً ضخمة تدربت في مدارس الكلاب ومغارف وملاعق وسكاكين برونزية كبيرة ،لأكل العالم ربما، الى جوار أعلام البلاد التي سبق لهم زيارتها وساعات وموازين لقياس حرارة الجو وأخرى لقياس سرعة الرياح ويعلقون أيضاً الشهادات العلمية التي حصلوا عليها . . وهكذا تصبح بيوتهم قبور مزدحمة بالأشياء الميتة ، وعلاوة على ذلك ، يحاول الأبيض إحضار صخب العالم كله الى منزله بواسطة الراديو والمستقبلات التلفزيونية الفضائية وأجهزة العرض السينمائية . . هوس استحواذ لا حد له . وأتساءل هل هذه الخصلة هي المسؤولة عن سياستهم الإستعمارية.
6
للآخرين مكاناً في حياة الرجال البيض ، لكنهم يوجدون فقط في الوقت الذي يحتاجون إليهم فيه ليؤكدوا لهم أنهم مازالوا أناساً . . توجد عندهم المشاركة كما عندنا ، ولكنها عندهم تحدث فقط بين الأنداد . وهم يحبون الأشياء بالفعل كما يحبون الحيوانات ، يضعون الكلاب في منزلة الإنسان ، بل أن الكلاب تحتل منهم أعماق القلوب . لماذا عن سائر الحيوانات ؟ تساءلت كثيراً ، إنهم درسوا الحيوانات جميعها ووجدوا في الكلاب ضالتهم . . يضل الواحد منهم يكرر الشكوى بلا ملل من أن أحدا لا يحبه : "أبي لا يحبني . . أمي لا تحبني . . زوجتي لا تحبني . . مديري لا يحبني" وعندما يستبد بهم الحرمان من الحب يهرعون الى الكلاب لينعموا بحبها .
قالت لي سيدة ثلاثينية مثقفة :"نحن لا نحب الكلب لأنه يفهم الحب ! ، ولكن لأنه صبور ، ولا يقول "لا" أبداً ، تضربه فيعود إليك ، وهو لا يطرح أسئلة مطلقاً ، ويستجيب لما تعطيه من عطف" ، إنه الحيوان الوحيد في العالم الذي إن تعود عليك سيستمر في إظهار التودد لك حتى يموت . وقد عرفت أن امرأة سويسرية قامت بتحنيط كلبها لتحتفظ به بعد موته.
وفي فرنسا قابلت مسيو ميشيل الذي باع منزله في باريس ، وانتقل للسكنى في ضواحي نيس حيث الخلاء الواسع الذي يمكنه من التنزه مع كلبته نونيه بشكل أفضل .
وروا لي بوكر الألماني المؤمن بأنه يجعل كلبه يأكل معه على المائدة ومن نفس الصحن الذي يأكل فيه إيماناً بالتعاطف الديني .
إن الرجل الأبيض يشعر أن كلبه يحبه ، يعطيه كل شيء ، فهو سيظل كلباً في كل الأحوال ، ولكن هذا الأبيض يتردد كثيراً في بذل العطاء لغيره من البشر بدون شرط تبادل المنفعة .
7
البيض لا يستطيعون زيارة معارفهم وأقرباءهم متى يشاءون . في بلادنا نستطيع ذلك ونقدر أن نبيت عندهم بدون موعد سابق إن لزم الأمر ، لكن البيض لا يستطيعون ذلك ، بل على الواحد منهم الانتظار حتى تصله دعوة الزيارة . وإذا ذهب ملبياً الدعوة ، فإنه يستعد كثيراً بعبارات متلاحقة من هذه العينة : "كم هو لطيف منك أن تدعوني لبيتك الجميل ، أنا ممتن لك ياصديقي ، هذا يوم جميل لن يمحى من ذاكرتي ، ترتيب أثاثات منزلكم جداً جميل ، أمممم إنه طعام لذيييذ ، زوجتك جميلة ، تعالوا نلتقط صوراً تذكارية بهذه المناسبة الجميلة . . " الى آخر تلك العبارات . وعلى المضيف أن يستعد هو الآخر بعبارات من نوع : "مقدم سعيد ياعزيزي ، جميل أن نراك بيننا ، شكراً لحضورك ، تصرف وكأنك في بيتك ، هذا من دواعي سروري . . وإذا كان قادماً من سفر تكون العبارات من طينة : "هل إستمتعت بالرحلة ، كيف تركت زوجتك والأطفال ، هل تحمل صورة لهم ، ما هي أسماء أبناءك . . الى آخره . . نحن في أفريقيا لا نقول شيء في هذا الصدد ، لأنه أمر يتعلق بالمشاعر ، والمشاعر عندنا لا تباح . لأنها ببساطة مشاعر تحس . . يحيرني هذا الخلط عندهم .
8
مائدة الطعام عند البيض غابة من الصحون والملاعق والسكاكين والشوك والمغارف والأطباق والزبديات والملاحات والفلفالات والمسطرد والمايونيز وذلك الصوص السكري المقزز والماء والنبيذ والكوكا كولا والعصائر ، إنهم يعصرون كل شيء : الفواكه والطماطم والسبانخ ، كل شيء ، حتى شيكولاتتنا ولوزنا السوداني وسمسمنا يعصرونه ، إن الآلة علمتهم تقليص الأشياء وتبديل طبيعتها . وموائدهم أيضاً تحفل بالمناديل ونكاشات الأسنان والزبدة الحيوانية وأخرى نباتية والمخللات والمربيات وخلطات لا حصر لها من التوابل السائلة الكثيفة اللذجة ، وفوق ذلك يضعون الشموع . . إنه تقليدهم الإحتفالي ، وأحيانا هو تعبيرهم الرومانسي ـ خاصة إذا دعت الواحد سيدة في بيتها لوحدها فإذا وضعت زهرة حمراء وحيدة في مزهرية خزف صغيرة ذات عنق فإنه يتعين عليك فهم الرسالة الغرامية الخفية ، ولكن إذا وضعت لك زهور الأقحوان واللافندر والنرجس والقرنفل الأبيض فهذا تعبير عن احتفاء تبجيلي ،إذا كنت قس، طبعاً ـ .
للزهور عندهم لغة قائمة بذاتها ، بينما نحن السود لا نهتم بالزهور بقدر ما نهتم بالثمار . أما الطعام نفسه فهم يهتمون بتنوعه ، فلا تغامر مثلي وتأكل من كل ما يضعونه أمامك حتى لا تتقيأ في كل دعوة تدعى إليها .
تذكر أنهم لا يملؤن صحونهم على طريقتنا الأفريقية الحمقاء ، ذلك يثير إشمئزازهم وإياك أن تصنع جبل من الأرز على صحنك ، أجّل هذا النهم ريثما تعود الى بلادك أيها الأسود الطِفس النهم ، هذا يعني أنك فارغ العين سليل أكلة لحوم البشر .
9
الأبيض يتوقف عن الأكل في لحظة يكون فيها لا يزال يشعر بالجوع ، لا ينتظر مثلنا حتى يشعر بقطع اللحم وقد صعدت الى حلقومه ، يضع ملعقته وشوكته قبل هذا بكثير ، يمسك بالمنديل الأبيض ويتصنع الرقة في مسح شفتيه بلمسات خفيفة متتالية ، ويرجع بصدره على ظهر الكرسي ولا يجعل الإبتسامة تفارق ثغره . . نحن لا نهتم بالإبتسام ، إن لم تتقيد بتلك البروتوكولات ،في زيارتك للبيض ، فسوف تلحق بعيديامين وموبوتو العار وستضيف لهم مع صفة الدكتاتورية صفات أخرى قميئة ، وستترسخ علينا صفات الهمجية . .
الأبيض يهتم بنظافة جسده ويحرص على عدم إنبعاث أي رائحة منه . . تذكر يامواطني الأفريقي أن صورتنا عند الرجل الأبيض صورة غير محمودة ومكرسة على مدى قرون طويلة ، لذلك حاول أن تحارب العرق العفن الذي ينز من جسدك ومن إبطيك ، أحلق ذلك الشعر واستعمل مادة الشبة أو بودرة النشا الممزوجة بمسحوق جوز الهند . هذا الأمر سيغير صورتنا كقرود نتنة تخبيء ذيولها بين أفخاذها .
10
لا يوسخ الأبيض أرضهم بالبول أو البصاق ، لأنه يهتم كثيراً بطهارة الأرض والملابس والبيت والجسم ، لكن طهارة النفس لا تهمهم كثيراً ، نحن على عكسهم . ولا أدري ما هي إرادة الله في ذلك .
هم يخافون من الميكروبات
الأبيض قبل أن يخرج من بيته يسأل مثانته : هل ترغبين في زيارة تفريغ ؟.
وهو يستمع لإجابتها بكل دقة ، فهو من السهل عليه أن يموت ولا أن يخرج عضوه في الزقاق الخلفي ويشرشر ما فيه من بول ، والمرأة البيضاء بالأحرى تسأل كل أعضاءها التي تفرز سوائل أو لزائج أو مواد متماسكة معجونة مخرجة . . هل تلاحظون إجتهادي في أن أبدو متحضراً ولا أقول بصريح العبارة غائط أو براز أو خراء.
ترجمة : خالد ربيع السيد
المصدر : مجموعة الأشرعة
إضافة تعليق جديد